fbpx

سوريا والسردية الأمريكية – بين الرؤية والكيدية

0 75

1- الرؤية الأمريكية:

ما حصل في سوريا خلال السنوات الماضية، من ثورة سلميّة دامت سنة كاملة تقريباً، في وجه نظام استبداديّ شموليّ، حكم سوريا أكثر من نصف قرن، ثم ما أعقب ذلك من تحوّل الثورة السلميّة إلى معارضة مسلّحة اختارت سبيل القوّة والسّلاح لإزالة هذا النظام؛ إذ رأت أن طريق السّلاح أنجع وأنجى، وأقرب إلى الخلاص. كلّ ذلك جرى توصيفه وفق الرّؤية الأمريكيّة على أنه حرب أهلية(civil war)، وقد تبنّت الأمم المتحدة/ united nations هذا التوصيف، وانساق العالم أغلبه وراء تلك الرؤية. أي إنّ هناك في سوريا صراعاً مسلّحاً وحرباً ضروساً مستعرة، ليس بين المعارضة بفصائلها المتنوعة والسلطة ونظامها القائم وجيشها العسكريّ، وإنما بين المعارضة السنية والنظام العلوي، ومن ثَمّ بين مكوّنين من مكونات المجتمع السوري: هما السنة ذات الأغلبية السكانية، مدعومة من بعض دول الإقليم هذه من جهة، وبين العلويين المساندين للنظام القائم، مدعومين كذلك من بعض الدول الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة والعالم.

هذه هي الرؤية التي شيدتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبناها العالم. فلم تعد القضية بين نظام مستبدّ وشعب يتطلّع إلى الحرية والحياة الديموقراطية الكريمة(وإن كان التوصيف لا ينصّ على ذلك لكن الرؤية تتضمن شيئاً من هذه الحالة من دون أن تقتصر عليها وتجعلها بؤرة الحدث وعماد الرؤية). فتوصيف الحرب الأهلية يتجاوز مفهوم الثورة، لكن هذا التوصيف يقوم على رؤية شاملة تشمل فيما تشمل مفهوم الثورة، بيد أنه ذو مكانة هامشية من الصراع ومن مفهوم الحرب الأهلية المسيطر على المشهد السوري، بحسب الرؤية الأمريكية.

هذه الرؤية رفعت عبء القيم الأخلاقية الداعية إلى مساندة الشعب السوري، فلقد أزالت ذاك العبء عن كاهل الأمم المتحدة والعالم. بل حوّرت الرؤية ليصير الحدث على أن الطرفين متساويان من كفتي الميزان، وصار إيقاف الحرب هو القيمة الأخلاقية التي يجب على العالم تحمّلها، وليس إزالة النظام إلّا من جهة ارتكابه جرائم حرب مثله مثل المعارضة، أي ثمّة جرائم وانتهاكات ارتكبتها الطائفتان السنة والعلوية. ولهذا نُصح الأكراد باتخاذ ما يُعرف بالخط الثالث، ولم يعد مطلوباً من باقي مكونات الشعب السوري الوقوف إلى جانب الثورة، بل صارت قيم الأخلاق والسلم الأهلي تحتم عليهم الوقوف بعيداً عما يحصل بين السنة والعلويين. هذه هي الرؤية التي شيدتها أمريكا وأجبرت العالم على تبنيها ورؤيتها كما وصّفتها. وهي الرؤية التي تبنتها ضمناً مكوّنات المجتمع السوري.

2- الكيد الأمريكي:

لقد ترتب على هذه الرؤية أمران خطيران: الأول يكمن في تحييد معظم أفراد الشعب السوري عن الانخراط في الحراك الثوري، لأنه صار في نظرهم صراعاً بين الأكثرية السنية والأقلية العلوية على السلطة. وهذا التحييد رُتِّب عليه فرع آخر قام على تصوّر أهل السنة أنفسهم أن ثمة تحالفاً بين كلّ الأقلّيات ضد الأكثريّة السنية، في المقابل من ذلك فإن من انضم إلى جيش النظام انضم إليه ليس بصفته جيش الدولة في مواجهة مجموعات مسلحة تريد الاستئثار بالسلطة، وإن كان هذا هو التوصيف المعلن، وإنما الرؤية الحقيقية المضمرة لذاك التوصيف المعلن هي صراع بين نظامي عيش وحياة: نظام علماني يمثل رؤية الأقليّات جميعها للحياة وللسياسة وللمجتمع، وبين نظام وفكر ديني يمثل رؤية السنة، وهو فكر لا ينسجم وقيم تلك الرؤية المدنية التي تتبناها الأقليات نظاماً لحياتها ونمط عيشها.

ولذلك نرى كثيراً من الناس، مثقفين وعامة، يكررون مقولة: “أن السنة وحدهم من هُجِّروا ودمّرت مدنهم”. وهذه مقولة واقعية صحيحة، لكنّها مقولة أُريد بها باطلاً. ومَن يتبنى تلك المقولة فهو يتبنى رؤية الصراع بين طرفين: نظام علوي ومعارضة سنية، أي هي رؤية الحرب الأهلية التي أشاعتها أمريكا، سواء تنبّه إلى ذلك أم لم يتنبّه. وأكثرهم يصدر في توصيفه هذا عن رؤية ثقافية طائفية، انساقَ وراءها من دون أن يعيها عقله الواعي. فهي رؤية أمريكية صارت بحكم الرؤية السياسية التي صنعها المؤلف السياسي الأمريكي، حتى باتت جملة ثقافية تخفي داخلها تورية طائفية، دأب الغرب على دعمها وترويجها وتحقيق مضامينها المجازية المدمرة للعقل الاستهلاكي السوري، عبر مجموعة من التزيينات الشاعرية التي تدغدغ مشاعر الأكثرية، بقصد التقرب منهم والتزلف إليهم، أو بقصد تشويه المجتمع السوري وسرطنة نسيجه الاجتماعي.

وأما الأمر الآخر الذي يترتّب على تلك الرؤية الأمريكية فهي جريرةٌ أخلاقية وجريمة إنسانية مقصودتان، اقترفتهما الولايات المتحدة بوصفها المتحكمة بمعظم أحداث هذا العالم، والناظم لأكثر سردياته، وخاصة ما يجري في سوريا؛ إذ كيف يُقبل من تلك الإمبراطورية العظمى، التي تدّعي أنها تقود تاريخ العالم نحو أفق حضاري جديد، نحو قيم السلام والرقي والجمال الكوني البشري المنتظر، كيف يُقبل منها، بناءً على رؤيتها التي صاغتها للمشهد السوري، أن تَقبلَ بانتصار طرف على آخر، بل وتَترك أكثر فصيل كانت تصفه بالتشدد والأكثر تطرفاً، أن يصل إلى سدّة السلطة في سوريا ويحكم باقي المكونات، وتسمح له أن يدخل مناطق الطرف المنهزم، وتطلق يده في تلك المناطق، وتبارك سلطته، وتسعى إلى تسويغه أمام العالم…؟ هذا لا ينسجم أخلاقياً ولا قانونياً ولا سياسياً وفق شرعة الأمم المتحدة، ولا حضارياً، لا ينسجم البتّة مع الرؤية نفسها التي أشاعتها وروّجتها طيلة سنوات الصراع، بل وبعد سقوط النظام، رؤية أنها حرب أهلية…! فكأنها قيّدت القاتل وحبسته في غرفة، ثمّ اختارت أشد أولياء الدم تطرفاً وتعصباً وحقداً من وجهة نظرها، وأدخلته على الجاني القاتل، وقالت له: (هذا قاتل أبيك ولكن إيّاك إيّاك أن تأخذ بثأرك منه). وأقفلت عليهما الباب وتركتهما. فأمريكا هي من وصفت ما جرى في سوريا على أنه حرب أهلية، وهي من باركت وصول هيئة تحرير الشام إلى سدة الحكم، على الرغم من مظاهر التمنّع والعنعنة الإنشائية المعلنة، وهي على عينيها حصل وسكتت عن دخول الهيئة، المصنفة على قائمة الإرهاب عندها، إلى الساحل السوري…؟!

أي ثمة متناقضات ثقافية وسياسية حاكتها السردية الأمريكية ونظمتها بلاغياً في خطاب واحد أو سردية جامعة، وهي متناقضات محال جمعها، تتمثّل في سرديّة الحرب الأهلية، وأنها ليست ثورة شعب ضد نظام مستبد، ثم سردية الإرهاب توصيفاً لفصائل هيئة تحرير الشام، ثم ختمتها بالسردية الجمالية في القبول والرضى الضمني بتسلُّم تلك الهيئة مقاليدَ حكم سوريا، تحت مجازٍ افتراضي يتمثّل بتحوّل الحرب الأهلية بين ليلة سقوط النظام وضحاها إلى دولة على طريق الاستقرار، بعد تمويه جمالي على كل ما يترتّب على هذه النهاية لسردياتها المتناقضة التي لا يمكن جمعها في ظل دولة مستقرّة.

هذه هي مكوّنات الخطاب الأمريكي للسرديّة السوريّة، رؤيةً وعقدةً ومكيدةً وخيوطَ صراع، أرادت أن تُخرج منها نهاية كارثيّة لتلك السرديّة، بعد أن موّهتها بحلية بلاغية في إقامة الدولة العصرية المستقرة والمزدهرة. بيد أن تفكيك هذا الخطاب وما ينطوي على سرديات مستندة إلى عناصر ثقافية وشخوص تمثيليّة ورؤية اجتماعية ومكيدة سياسية مدمرة، يكشف هذا التفكيك أن أمريكا ما كانت لتريد الخير والاستقرار لهذا البلد في ظلّ تلك السردية الجامعة ورؤيتها القائمة عليها. أنها تريد حرباً أهليّة حقيقيّة، وصراعات، وانقسامات، كل ذلك في خطاب جميل يضمر داخله الخراب ثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّا، ودينياً، واقتصادياً… بل كل ما يمكن لتلك السردية الجامعة من تخريبه في بنية الوجود السوري.

فلدينا خطاب أمريكي، يتضمن مجموعة من السرديات في سردية جامعة للواقع السوري. ولدينا مؤلف هذه السرديات، وهو صانع القرار الأمريكي ذاته. ولدينا رؤية عالمية بناء على تلك السردية، وهي عينها الرؤية والتوصيف الأمريكيين. ولدينا مكيدة أمريكية تُبيّت لوجود الدولة السورية. ولدينا استقبال شعبي سوري واقع تحت تأثير عناصر تلك السرديات. ولدينا خاتمة تلك السردية الجامعة في طور الاكتمال، إلّا أن يتكهّن بها السوريون أنفسهم وتجتمع لهم أرادة إبطال مفعولها، ومن ثَمّ تغييرها.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني