الثورة السورية والهويات
تحمل الثورة – أية ثورة – جميع الهويات على الظهور دون قدرة على التحجب. ذلك إن من شيمة المرحلة الثورية التي تشهد صراعاً وصراعاً دامياً أحياناً أن تفجر الهويات كلها، من الهوية الأيديولوجية إلى الهوية المناطقية والهوية الطائفية مروراً بالهوية القومية.
ومن فضائل الثورة السورية أنها كشفت الهوية ممارسة قولية وممارسة عملية وبخاصة هوية المثقفين.
أحصر اهتمامي في مقالتي هذه في نوعين من الهوية. الهوية النائمة والهوية المتخفية.
الهوية النائمة هي في الأصل هوية ضعيفة نوعاً ما، وإلا لما غفت أصلاً، وما كانت لتغفو إلا لأن هناك هوية أقوى قد احتلت المكانة الأرأس في الذات.
ففي لحظة من لحظات الوعي الأيديولوجي – السياسي بالعالم تنتصر الهوية الأيديولوجية والفكرية، فإما أن تصبح هوية دائمة قابلة للتجديد ويعبر عنها قولاً وفعلاً. فتنتصر على سواها من الهويات التي ورثتها الذات كالهوية اليسارية أو الهوية القومية العربية أو الهوية القومية السورية أو الهوية العلمانية أو الهوية الفلسفية، وإذا ما نظرنا إلى هذه الهوية عن طريق السلب فإنا نتحدث هنا عن هوية تنفي ما يتناقض معها داخل الذات نفسها.
فإذا كنت قومياً مثلاً فإنك – ولا شك – تنفي هوية طائفية وإقليمية إذ من المستحيل أن تجتمع هاتان الهويتان معاً. وإذا اجتمعت هويتان غير متناقضتين كالهوية القومية والهوية الوطنية فإن إحداهما يجب أن تتفوق على أخرى سلوكاً على الأقل.
أو إن الهوية المنتصرة أيديولوجياً وفكرياً وفلسفياً هي منتصرة في حدود تراجع الهوية الأضيق إلى الخلف وعندها تغط بالنوم ولا تستيقظ إلا إذا جاءت ظروف حملتها على الاستيقاظ.
وعليه فاستيقاظها من حيث درجة نشاطها متوقف على الموقف نفسه وطبيعته، وهناك اختلاف بين استيقاظها لدى الفرد واستيقاظها لدى الجماعات.
فلقد مضى زمن طويل قبل أن تستيقظ الهوية الطائفية في المجتمع السوري، وقبل أن تنتقل من عفويتها الطبيعية إلى قصديتها السياسية كما نرى الآن. فالأيديولوجيا البعثية والناصرية والسورية القومية والشيوعية تقاسمت هوية السنة والعلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين ولم تستطع حركة الإخوان المسلمين أو حزب التحرير أن تحتل المكانة التي احتلتها الناصرية مثلاً.
وظلت الهوية السنية هوية بسيطة خارج حدود الممارسة السياسية والوعي الذاتي. وهذا حال هوية الأكثرية بعامة.
وقس على ذلك باقي الهويات السورية باستثناء الهوية الكردية التي لم تسمح لها ممارسات الأنظمة أن تتحول إلى هوية نائمة أصلاً.
غير أن شدة وعي الأقليات بهويتها أكثر من شدة وعي الأكثرية عموماً. وهذا يعود إلى بنية الجماعة النفسية.
فالشعور برغبة الحضور لدى الأقليات يولد لديها تضامناً قوياً من جهة ونزوعاً نحو تبني هوية جامعة والدعوة لها لتحقيق المساواة مع الأكثرية.
وفي كلا الحالين لا تحملها هويتها – من حيث المبدأ – على نزوع طائفي، ولكن هويتها متيقظة أكثر بسبب إحساسها بالاختلاف. وهذا أمر طبيعي.
ويجب الاعتراف أن الهوية السنية النائمة في سوريا لم تستيقظ إلا بعد زمن طويل من شعورها بالغبن التاريخي وعدم المساواة أمام السلطة الحاكمة التي احتكرت بشكل شبه كامل عنصر قوة الدولة: الجيش والأمن وما جر ذلك من توسع سلطتي الجيش والأمن ليشمل حياة المؤسسات جميعها.
والإشارة إلى هاتين الهويتين كان يتم سراً وعلانية أحياناً غير أن استيقاظ الهوية السنية وضع النظام في ورطة تاريخية لم يفكر بالخروج منها أبداً على المستوى السياسي والمجتمعي.
لم تكن تجربته مع العنف الإخواني وإرهاب الطليعة المقاتلة إلا عبر العنف والإرهاب نفسه. ولم يفكر بتجاوز الشروط التي أنتجت حالة العنف والإرهاب فبقي في ورطته التاريخية والتي وصلت أعلى درجاتها بأن وجد نفسه يخوض حرباً ضد الحركة الشعبية أولاً ثم ضد جيش من المقاتلين الذين قرروا تغير واقع الحال بالقوة.
في مقابل الهوية السنية والهويات الأخرى النائمة التي استيقظت على نحو نشط كانت تعمل على الأرض هوية متخفية لدى المثقفين بالأساس.
والفرق بين الهوية النائمة التي استيقظت والهوية المتخفية أن الأولى نامت بفعل غير إرادي واستيقظت بوصفها رد فعل فيما الثانية حاضرة في الوعي ومتخفية بفعل إرادي عبر قول غير طائفي وهنا تكمن الخطورة.
كانت الهوية المتخفية تمارس التقية عن عمد ولكنها في الوقت نفسه كانت سعيدة بانتمائها الطائفي.
ما إن قامت الثورة وصار لزاماً على جميع المثقفين بعامة أن يتخذوا الموقف سراً أو علانية ما عادت الهوية المتخفية قادرة على التخفي فأعلنت حقيقتها بوصفها جزءاً من النظام القاتل وذلك بحجة مواجهة المد الإسلامي الأصولي.
والحق أن لعنة السلطة لم تسمح لنمط من للهوية المتخفية إلا أن تعلن عن موقفها على نحو يدعو إلى القرف وبدل أن تقدم البديل السياسي العلماني – الديمقراطي – البديل الوحيد الذي ينقذ سوريا تاريخياً راحت تكيل الاتهامات للعلمانيين واليساريين والديمقراطيين الذين يدافعون عن المستقبل الديمقراطي – العلماني لسوريا بأنهم عادوا إلى سنيتهم أو مالوا إلى الحركات الإسلامية، أو عبروا عن أحقاد خفية. وكان سلاحهم في ذلك الشتيمة.
مع أن جميع اليساريين والقوميين والعلمانيين بمن فيهم من دخل السجون بذلوا جهوداً هائلة مع النظام لإخراجه من ورطته التاريخية ومساعدته على اتخاذ مشروع جديد للإنقاذ، ما من مثقف يساري ديمقراطي إلا وكان يدرك الخطر المحدق بسوريا المستقبل. وهؤلاء لم يكن لديهم أصلاً هوية نائمة، فيما كانت الهوية المتخفية تمارس نوعاً من الإلهاء والشطارة الزائفة والغباء التاريخي.
كان أصحاب الهوية المتخفية سعيدين بعلاقات القرابة وثقة السلطة مهما كانوا نقديين، بل ربما كانوا يدفعونهم للقيام بعملية نقد لاكتساب شرعية ما.
كانوا يتطاولون على مديريهم ورؤسائهم بكل فجور، ويعتبرون ذلك شجاعة، ويتحدثون عن ذلك في مجالسهم.
لم يكن يدر في خلدهم أن المدير والمسؤول الذي استيقظت هويته النائمة ينتظر اللحظة ليحولها إلى هوية مقاتلة. وإن وراء الخنوع حقد يغلي. بالمقابل فإن الهوية السنية المتخفية راحت تعلن عن نفسها بنوع من الحقد القاتل كي تنتقم من إخفائها.
هل هناك من خطر لاحق ليقظة الهوية النائمة وانكشاف الهوية المتخفية؟.
نعم هناك خطر وخطر كبير. فالهوية المتخفية والمستيقظة بعد أن تحولتا إلى هويتين مقاتلتين فإن فكرة التسامح لديهما ستضعف لزمن ليس قصيراً، الهوية المنكشفة بعد الخفاء عزلت نفسها عن أن تكون جزء من قوى المستقبل.
والحق أن الهوية المستيقظة – بوصفها هوية ضعيفة – ستعود إلى حالها النائمة وقد تنتصر لديها مرة أخرى الهوية الكلية وهي وحدها – أي الهوية الكلية – المواطنة – الدولة الديمقراطية العلمانية ستحرر الهوية المتخفية من إرثها السيئ وستحول دون يقظة الهوية النائمة.
إن أخطر ما يواجهه المجتمع – أي مجتمع – هو صراع الهويات ولاسيما صراع الهويات الدامي، وليس هناك إلا حل واحد وحيد ألا وهو قيام الدولة الديمقراطية المدنية العلمانية التي تحوّل جميع الهويات إلى هوية وطنية وتجعل من ثقافاتها ثراءً يغني الحياة.