fbpx

اثنا عشر رجلاً

0 534

لم يكن رجال الشمس في رواية غسان كنفاني وحدهم من حاولوا الخلاص بواسطة صهريج يقلهم عبر مسافات شاسعة إلى ضفة أخرى كنت أيضاً شاركتهم في تلك التجربة وعشت ما عاشوه من آلام تلك الرحلة ومخاوفها ولكنني افترقت عنهم في المصير ولولا ذلك لما استطعت كتابة هذه الكلمات.

بدأت الرحلة بخلع جلد التمساح الذي ألبسونا إياه ولم يجرؤ أحد على خلعه أو الانشقاق عنه منذ أربعة عقود، وكانت الطريقة الوحيدة للخروج والهرب بعيداً عن معسكرات الخدمة الإجبارية هي عبر صهريج ندس أنفسنا في أحشائه، ويشق بنا طريقه، فإما الوصول إلى بر الأمان أو الموت على حاجز ما.

كنا اثني عشر رجلاً تشاركنا تلك الرحلة التي استمرت لساعات هي الأصعب والأقسى والتي لن أنساها ما حييت.

حين وقف الصهريج على أحد الحواجز ظننا أنه قد تم اكتشاف أمرنا حيث طال الوقوف وصعد أحدهم إلى سطحه ونحن نسمع وقع أقدامه وتعلو دقات القلوب في جو من الصمت المريع تُحبس فيه الأنفاس وتُعدُّ فيه الثواني.

أحدهم بعد أن تجاوزنا الحاجز نام وراح يشخر لست أدري إن كانت هي إحدى أشكال الغيبوبة تركناه يغط في نومه الذي يشبه الموت.

لقد كنا في أحشاء الصهريج نتحول ونتغير، قلوبنا كانت تقسو شيئاً فشيئاً ونتحول إلى كائنات لا تعرف الفرق بين الحياة والموت، فالمسافة هنا في داخل الصهريج تتلاشى بينهما ويقتربان إلى درجة كبيرة، يكادان يلتصقان ولولا شخير ذاك الرجل لما تأكدت من عمل حواسي كاملة.

كان الصهريج رحماً قاسياً ولكنه حافظ على أرواحنا وأجسادنا الموهنة.

مضى على الرحلة ساعات شاقة وشعرنا بالدنو من الخلاص وراح الصهريج يتباطأ في مسيره، كان من الواضح أننا شارفنا على الوصول.

حين فتحوا الطاقة لم نصرخ ونحن نولد ونتنفس هواء الحرية، كنا حالمين وناجين من الموت عابرين منه إلى حياة جديدة وأول عبارة سمعناها بعد ولادتنا أهلا بكم في ديار أهلكم.. قالها أهل تلك البلدة الطيبة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني