لا ترحل.. جايينك
اعتقد الأسد طويلاً بأنّ نظامه الذي أسّسه والده المقبور هو جزء رئيسي من منظومة الأمن الإقليمية في المنطقة، وأنّ لا بديل له في سوريا يمكن أن يقوم بأدواره وخدماته، فمنذ أكثر من نصف قرن يُقدّم الأب والابن نظامهم بهذه الصورة والوظيفة.
دائماً كان يظهر بصورة النظام المارق والذي يُجيد أيضاً إشعال الحرائق ويقوم بوظيفة إطفائها..
كانت ورقته الرئيسية والتي تحظى برضا الشرق والغرب حفاظه على أمن إسرائيل، وكان مسكوتاً عن كل جرائمه بحق السوريين من مجزرة حماة 1982 إلى مجازر الوريث الخائب بعد انطلاق الثورة السورية، لكن الابن طَبّق حرفياً وصية أبيه بالتحالف الإستراتيجي مع نظام ولاية الفقيه، وقد يكون حافظ الأسد اعتبر أنّ دوران نظام ابنه في فلك ولاية الفقيه ستشكّل له حماية من أيّ أخطاء أو خيارات قد يرتكبها وبالتالي الوصاية التي تفرضها طهران ستؤمن له حماية من شعبه أولاً وحماية من أيّ مخاطر خارجية..
لذلك كان الأب والابن يُمعِنون في استبدادهم داخلياً ويزدرون أيّ مطالب للإصلاح في الداخل أو احترام لأبسط حقوق الإنسان ولم يتعرضوا لأيّ ضغوط خارجية لفعل ذلك.
وصل التمادي والاستهتار بالشعب وغطرسة القوة إلى تحويل الدولة السورية إلى مزرعة عائلية فتم تثبيت مقولة سوريا الأسد وتحولت الجمهورية العلمانية القومية إلى إقطاع ملكي أورثه الأب لابنه مع يقيننا الكامل أنّ الابن يفكّر بتوريث الحفيد، تلك كانت طريقة تفكيرهم ومنهجهم العملي على أرض الواقع.
ولأن الأنظمة الشمولية لا تقبل أيّ أوكسجين أو ثقب يدخل منه الضوء، لأنّ ذلك سيسهم بالتأكيد في نخرها من الداخل، لذلك لم تكن إصلاحات الابن الوريث أكثر من (ماكياجات) خارجية لم تستطع أن تُخفي قبح النظام وبالطبع لم تكن جدية لتغيير أيّ برغي في ماكينة النظام الصلبة التي تعمل كقطعة واحدة لا تقبل زيادة أو نقصان لاستمرار دورانها.
نجى نظام الأسد الأب من سقوط حليفه الرئيسي الاتحاد السوفييتي واغتنم فرصة تحرير الكويت ليقاتل جيشه تحت العلم الأمريكي وليحظى برضى ومكافأة له بإدارة الملف اللبناني وحيداً.
استمر الأسد الابن في ارتكاب الحماقات فقتل الرئيس رفيق الحريري، وكانت العقوبة الأمريكية إخراجه من لبنان.
حاول حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان وبرضا غربي أقرب للتكليف بمهمة بناء علاقة جيدة مع الأسد واحتوائه وعقلنته وتأهيله ورعاية إخراجه من عباءة التحالف مع إيران بل وإخراجه من شعارته القديمة التي أصبح أسيراً لها وهي شعارات عفى عليها الزمن، بتحرير فلسطين وبناء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة وغيرها من الشعارات وذلك ببناء نهضة اقتصادية والاستفادة من التجربة التركية وإجراء إصلاحات في بنية نظامه خوفاً من المجهول.
رغب الأتراك في إخراج نظام الأسد من كل ذلك عبر بوابة إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل والدخول في عالم مختلف تمام عن محور ولاية الفقيه..
أفشل الأسد الوساطة التركية واتجهت سوريا إلى الربيع العربي.
كان متوقعاً من الأسد ألا يستجيب لأيّ مطلب إصلاحي رفعه الشباب السوري لأنه غير راغب وغير قادر على ذلك، وتحكُم تلك الأنظمة الشمولية عقدة غورباتشوف حين أراد آخر رئيس سوفييتي إجراء بعض الإصلاحات التدريجية على النظام السوفييتي المغلق، لم يستطع السيطرة والتحكم بنتائج تلك الإصلاحات فسقطت الإمبراطورية الشيوعية العالمية وسقط جدار برلين وتحررت أوربا الشرقية من كل أنظمتها القمعية.
تلك التجربة ماثلة في عمق تفكير الطغاة حول العالم، بأنّ إصلاحات شكلية ممكن إحداثها، لكن إصلاحات حقيقية لا يمكن ذلك لأنهم خبروا نتائجها في قلعة الاستبداد العالمي.
وبالطبع كانت نصائح الحرس الثوري عبر قاسم سليماني وحزب الله بِحضّه على استعمال خيار القمع (الأمني والعسكري) وعدم الاستجابة لأيّ مطلب شعبي مهما كان صغيراً ووضعوا كل إمكاناتهم تحت تصرفه.
كان الأسد باعتباره يدور في الفلك الإيراني سينفذ ما طلبوه منه وكان مطمئنناً لخياره الأمني بدعم حلفاء أقوياء كإيران وروسيا والصين وعدم وضوح رؤية خصومه وصلابة موقفهم في دعم الثائرين عليه.
بعد انهيار نظام الأسد بكل قواه التي اكتنزها في العقود الماضية في الشهور الأولى من انطلاق الثورة دخل الإيرانيون وميليشياتهم بشكل علني وقادوا المعركة على الأرض ضد قوى الثورة السورية، وفي نهايات 2015 تَوضّح أنهم غير قادرين على حماية نظام الأسد من السقوط، وجاء التدخل الروسي لإنقاذهم ولم يلقَ أيّ معارضة دولية أو إقليمية إلا من جانب الثورة السورية والدولة التركية.
كان التعهيد الأمريكي للروس في الملف السوري هو إحداث تغيير في موازين القوى على الأرض وعدم النزوع إلى أيّ حل عسكري من طرفي الصراع والجلوس على مائدة مستديرة تحت سقف القرارات الدولية.
حاول الروس الإخلال بتعهداتهم وتقديم بشار الأسد كمنتصر في الحرب في سوريا والتعامل معه كأمر واقع وكمركز للحل، فيما كان آخرون يعتبرونه أنه هو المشكلة ولا يمكن أن يكون جزءاً من الحل.
رأى آخرون ومنهم عرب وأوربيون بانه لا مانع من إعطاء الأسد فرصة واختباره في أن يُسهم في صناعة حل سياسي عبر تمكنّه بعد تقدمه العسكري على الأرض في إيجاد نوع من السلم الاجتماعي وتبريد الصراعات والاحتقانات واستيعاب خصومه، وتمت مساعدته على ذلك بوعود قُدّمت له بالتعويم إذا ما تمكّن من ضبط الأرض السورية عسكرياً وأمنياً مع تحقيق هدنة أو سلم مجتمعي، كانت التسويات والمصالحات التي تمت في حوران ودمشق وحمص وغيرها ميداناً للاختبار، وفشل الأسد فشلاً ذريعاً في ذلك وأجهض تلك المحاولة الوليدة وكان واضحاً أنه مع حليفه الإيراني يريدون حسم الصراع عسكرياً.
في السنوات الخمس المنصرمة تعامل الأسد مع سوريا والسوريين كمنتصر وإقصائي ومُستبدّ عائد (والاستبداد العائد أخطر من الاستبداد البائد لأنه إنتقامي الطابع) وكان يتوعّد كل المعارضين له بالويل والثبور ولم يُغيّر خطابه يوماً بأنّ كل من عارضه هم من الإرهابيين.
لا مصلحة للقوى الدولية بدعم ديكتاتور لا يسيطر على بلده، وميزة دعم الديكتاتور أنّ صوتاً واحداً وقراراً واحداً سيصدر من تلك الدولة.
وبالطبع فشل الأسد في تحقيق كل مواصفات الديكتاتور فهو لا يسيطر على الجغرافيا والديمغرافيا السورية وتبين فيما بعد أنه غير قادر على ذلك دون دعم من حلفائه والذين هم يبحثون على من سيدعمهم، ولا مصلحة للدول بإبقاء نفوذ روسي في سوريا وعلى الضفة الشرقية للمتوسط، ولا مصلحة للدول بدكتاتور يقول انه غير قادر على إخراج الإيرانيين من سوريا ولو بتصريح صحفي يقوله علناً.
ولا مصلحة للدول بوجود الجمر تحت الرماد في سوريا لفترات طويلة، ولاحظوا أنه في 27 تشرين الثاني انفجر الجمر ونفض من فوقه الرماد وانطلق لحرق المجرمين وإسقاط القتلة وبناء سوريا الدولة المدنية لكل مواطنيها وهي أهم أهداف ثورة السوريين.