fbpx

التحشيد العسكري الأمريكي في المنطقة: أسبابه وأهدافه ومدى تأثيره على سوريا

0 2٬128

انعكست مرحلة التيه الاستراتيجي الأمريكي على منطقة الشرق الأوسط بأوضح صُوَر تخبّطها، ومن المؤكد أنّ التخادم الإيراني/الأمريكي بدأ يأخذ أبعاداً أعمق عندما احتلت الولايات المتحدة بلدين مجاورين لإيران وعدوّين لها ويحيطان بها من الشرق والغرب، وتحوّل العراق بعد الغزو الأمريكي له إلى بوابة للتمدد الإيراني بعد أن كان سداً منيعاً يمنع انتشاره للإقليم كله.

وفي نهايات القرن الماضي بدأ صعود دول الشرق الرئيسية الصين وروسيا وباتت طموحاتها الإقليمية والدولية ظاهرة للعيان.

في عام 2013 لم تعد المشاريع الصينية للتوسّع العالمي تخضع للتكهنات والاحتمالات بل تم الإعلان رسمياً عن مشروعها الاستعماري الجديد، الحزام والطريق وكانت قبل ذلك التاريخ قد بدأت به بعد طفرتها الصناعية، ولم تكن الصين مثل اليابان أو كوريا الجنوبية اللتان سبقتاها بالتصنيع فلم تكونا تحت أي موانع أو عوائق لعسكرة جزء من إنتاجها الصناعي وبدأت صناعات عسكرية تأخذ طريقها لمنافسة بقية الدول في الأسواق العالمية، وبالتأكيد انضمت الصين للنادي النووي الدولي، وهي أصلاً تملك عضوية دائمة بمجلس الأمن الدولي، وهو ما يؤكد الأبعاد التنافسية مع المجموعة الغربية التي تقودها أمريكا، وتتكامل بالأهداف مع الطموح الروسي الساعي لنفس الأهداف بطرق أخرى.

توسّعت روسيا جغرافياً بعد قضم أجزاء من دول أخرى مجاورة لها، وكانت لا تخفي مشاريعها لمشاركة الغرب بالسيادة الدولية وتوّجت كل تلك السياسات بغزوها لأوكرانيا في خطة وضعتها للهيمنة على أجزاء واسعة من أوروبا وتفكيك حلف الناتو ودفع الولايات المتحدة عن البر الأوربي.

بالمقابل كانت الولايات المتحدة منهمكة بحربها الكونية على عدو شبحي لا جغرافية واحدة تضمه، وتغذيه أيدلوجيا متطرفة مغلقة لا يمكن هزيمتها عسكرياً أو أمنيا، وكان التخادم مع المشروع الشيعي الإيراني وإن بدا لفترة أنه يخدم الإستراتيجية الأمريكية آنياً إلا أنه يبقى تحت عنوان إدخال الدب إلى الكرم، وهذا ما حصل بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية واستكمال بناء هلالها الشيعي في ذروة فترة التخام مع الولايات المتحدة أثناء موجات الربيع العربي في العقد الثاني من هذا القرن وتوقيعها الاتفاق النووي عام 2015.

تبلور محور شرقي ولو بالأهداف والمصالح يجمعه العداء للولايات المتحدة ونظامها الدولي ومحاولة نزع قطبيتها الأحادية وبدأت تتشكل تجمعات مناهضة لها كمجموعة البريكس واتفاقية شنغهاي وغيرها من التجمعات أو الاتفاقيات الثنائية بين دول تَصبّ أهدافها في منحى التخلص من الهيمنة الأمريكية العالمية والنموذج الغربي ومن سيطرة الدولار.

كانت منطقة الشرق الأوسط وخاصة منطقة الخليج العربي هدفاً مشروعاً لأي طامح بالتحوّل لقطب عالمي، وفي خضم التراخي الأمريكي والتخبط الذي رافق كل السياسات الأمريكية بعد تحرير الكويت، بدأت دول المنطقة (أصدقاء الولايات المتحدة التاريخيين) وبسبب مخاوفها الأمنية من تراخي القبضة الأمريكية أمام النمور الصاعدة الثلاث الجديدة (الصين وروسيا وإيران) من تجاوز كل المحظورات وبدء التواصل وبناء علاقات مع التنين الصيني والدب الروسي، لطلب حماية من العدو الإيراني الصديق لهما خوفاً من أن يصحو ذات يوم وتتحقق بعض المواقف والتصريحات الأمريكية ولا يجدوا أي جندي أمريكي أو قطعة حربية. كما كان يحلو لكثير من المسؤولين الأمريكان التصريح به، وإنهم بعد إنجاز اتفاق مع إيران سيتركون المنطقة لتركيز الجهود بالتصدي إلى طموحات الصين وروسيا بل أنشؤوا متأخرين تحالف إيكوس في المحيط الهادي ضد الصين وأنجزوا انسحابهم من أفغانستان وكان يعقدون العزم على الانسحاب من العراق وسوريا (كما كانت بعض المواقف تشي بذلك).

قامت كل دول المنطقة بتطوير علاقاتها مع الصين (السعودية ومصر والإمارات ودولة الاحتلال الإسرائيلي أيضاً) وأنجزت الرياض وأبو ظبي اتفاقيات لشراء بعض أنواع الأسلحة الصينية بل بإقامة مشاريع مشتركة لإنتاج بعض تلك الأسلحة بخبرة صينية على أراضيها، وقيل عن نوايا سعودية لبرنامج نووي مدني سعودي مع الصين وإلغاء الولايات المتحدة لصفقة بيع طائرات F35 وقعتها مع أبو ظبي بسبب تعاون الإمارة مع الصين في مجال تكنولوجيا المعلومات.

وعبر أوبك بلس وغيرها من اوجه التعاون نسجت دول المنطقة علاقات مهمة مع روسيا الطامحة لدور عالمي واستقطاب حلفاء تقليديون من منافسها الامريكي، وتجلى ذلك بشكل أكثر وضوحاً بعد الاحتلال الروسي لسوريا حيث كانت علاقات موسكو مع عواصم دول المنطقة قوية وقوتها على حساب ضعف علاقات عواصم دول المنطقة مع واشنطن، وخاصةً تركيا التي وصلت علاقاتها مع روسيا إلى حد شراء منظومة الدفاع الجوي S400 في مشهد يُجسّد إلى أين وصلت تلك العلاقات.

لحظة الحقيقة أو الصدمة تَجلّت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا حيث خرجت الاستراتيجيات الروسية من الأدراج للميدان وكانت الصين تنتظر سقوط كييف كي تنقضّ على تايوان، وقد يجد الإيرانيون في البحرين أو الكويت فريسة سهلة في ظل غياب الحارس الأمريكي، وكشفت الجمعية العامة للأمم المتحدة مواقف دول المنطقة من تعبيرها بالامتعاض أو الخذلان من كل السياسات الأمريكية المتبعة تجاه دول المنطقة، وكانت أقرب للحياد بمسألة الغزو الروسي لجارتها، كما أنّ المواقف العملية لتلك الدول أكدت الشرخ الهائل مع واشنطن، من ناحية الاستمرار بعلاقات قوية مع الصين وروسيا وعدم استجابة الرياض وأبو ظبي للرغبات أو الإملاءات الأمريكية بخصوص النفط، وعدم انضمام كل تلك الدول وأهمها تركيا إلى العقوبات الغربية على روسيا.

ترك رعاية بكين لاتفاق بين طهران والرياض أبلغ الأثر في واشنطن، إيذاناً بتطور دور الصين الاقتصادي واستحواذها على دور جديد كمرجعية دبلوماسية دولية راعية للمصالحات بين الخصوم والأعداء.

يبدو أنّ القرار الأمريكي تبلور مؤخراً بتفعيل عقيدة كارتر واعتبار أنّ أمن الخليج العربي هو أمن قومي أمريكي، ومن هذا المنطلق يمكن لنا قراءة التحشيدات العسكرية الأمريكية غير المسبوقة في المنطقة.

لم تأت الولايات المتحدة بالأساطيل وحاملات الطائرات وعائلة طائرات الـF (15، 16، 22، 35) والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية والطائرات الحاملة للقنابل المخترقة للقبو A10، وتدريب قوات من المارينز القتالية على قيادة ومرافقة السفن التجارية في الخليج، لتدعيم ماهو موجود بالأساس بالمنطقة من أجل ردع ميليشيا مرتبطة بالحرس الثوري أو ردع الحرس الثوري نفسه عن زعزعة الأمن في الخليج والمنطقة فبإمكان الولايات المتحدة فعل ذلك بما هو موجود، مع أن الولايات المتحدة عندما تريد فعل أمر كقتل قاسم سليماني لا تحتاج إلا إلى طائرة مسيرة واحدة وقوة ردعها كافية عند الخصوم لابتلاع الضربة.

لذلك صحيح أنّ ما تسرب عن اتفاقها مع إيران على عدم التعرض للقواعد الأمريكية والملاحة في الخليج وإلا سيكون الرد قاسياً، الا أن الانتشار الجديد يوحي بأكثر من ذلك، وهو تموضع عسكري يعطي الثقة للحلفاء بمظلة دفاعية أمريكية والتقليل من محاولاتهم أو نواياهم بالاعتماد على قوى الشرق، وأن استراتيجية أمريكية طويلة الأمد تمّت صياغتها وتم البدء بتطبيقها وليس سياسة أمريكية آنية لغاية معينة تنقضي ثم تعود حليمة لعادتها القديمة.

ولا يمكن وضع أي تحركات أمريكية مهما كان نوعها وحجمها إلا تحت عنوان كبير هو الصراع الكوني الصفري مع روسيا، فهو الصراع الرئيسي التي تنخرط به الولايات المتحدة والغرب وتصب كل الجهود لهزيمة روسيا البوتينية هزيمة منكرة، لذلك قد يكون في المخططات الأمريكية قطع محور إيران الاستراتيجي جغرافياً من نقطة البوكمال ولكن ذلك يهدف بالدرجة الأولى إلى كسر الذراع الذي تعتمد عليه روسيا في سوريا وليس سراً التحالف الرباعي الروسي الإيراني مع الحكومة العراقية ونظام الأسد والذي تم إنشاؤه من عدة سنوات ويهدف إلى إخراج القوات الأمريكية من سورية، وحاول ذلك التجمع الرباعي ضم تركيا إليه وهي عضو الناتو الموجود أيضاً في سوريا إلا أنّ الأتراك لم ينخرطوا أكثر من التصريحات الكلامية عن ضرورة خروج القوات الأمريكية (كبيان قمة أستانة الأخير في طهران صيف العام الماضي) ولن يتعدى ذلك ولا يمكن أن يتطور لأي فعل حقيقي على الأرض.

وبالنسبة للملف السوري يتميز بوجود دولة الاحتلال الإسرائيلي كلاعب رئيسي غايته طرد الوجود الإيراني النوعي من سورية ولا يمكنها التعايش معه وبالضرورة سيؤدي عزل سورية عن العراق جغرافياً (إن حدث) إلى إضعاف حزب الله بلبنان وهو العدو النوعي لإسرائيل.

يبقى أنّ إخراج روسيا من سوريا هو الهدف الأهم للولايات المتحدة وبالطبع سيتم ذلك عبر إضعاف الأذرع الإيرانية او بترها تماماً إن أمكن، ونظام الأسد هو دُرّة تاج تلك الأذرع والذي يتم عبر مناطق سيطرته تأمين إطلالة بحرية على المتوسط لإيران وما يحمله ذلك من أبعاد إستراتيجية والتحكم بكل كميات غاز شرق المتوسط الضرورية والقريبة جدا للشواطئ الاوربية وبمنع ذلك التواجد وتفكيك القواعد الروسية على الساحل السوري يتحقق هدف إستراتيجي بالغ الأهمية للولايات المتحدة وحلفاؤها، أيضاً يعود الحديث عن خط غاز ينطلق من الخليج العربي ويعبر البوادي السورية والعراقية وصولاً لميناء جيهان التركي، يعود هذا الحديث عن ضرورة المشروع بسبب الطلاق البائن بينونة كبرى بين الاتحاد الأوربي والغاز الروسي في ظل حرب الطاقة العالمية التي تدور رحاها الآن مع روسيا.

إنّ إضعاف نظام الأسد بفعل العقوبات القاسية عليه التي تهدف لضرب نقاط القوة لديه وعدم إتاحة الفرصة له للتعافي والتقاط الأنفاس، يظهر وجود خطط بعيدة المدى حيث لم يقدم العرب أي مساعدة حقيقية مالية أو اقتصادية للنظام متذرعين بوجود قانون قيصر (وهو ما رفضه الأسد بمقابلته الأخيرة على سكاي نيوز واعتبره حجة غير مبررة) ويبدو أنّ قراراً دولياً قد يكون تم اتخاذه (أو في الطريق لاتخاذه) بتغيير الأسد وإسقاط عصبته سيكون إحدى نتائج الصراع الدائر أو مقدمة له.

وتقول مصادر عديدة إنّ الوفد العسكري العراقي رفيع المستوى الذي زار واشنطن مؤخراً برئاسة وزير الدفاع العراقي تم إبلاغه من قبل المسؤولين الأمريكيين أنّ على قوات الحشد الشعبي (الشيعي) مغادرة محافظتي الأنبار ونينوى وهما المحافظتان السنيتان اللتان احتلهما الحشد الشعبي وأحكم سيطرته عليهما أثناء قتال تنظيم داعش مع قوات التحالف الدولي، لأن الولايات المتحدة تنوي القيام في المستقبل القريب بإنشاء جدار أمني عازل يبدأ من جنوب سورية بمحاذاة محافظة درعا مروراً بالتنف وصولاً إلى مدينة البوكمال، الغاية منه منع تسلل مقاتلين ومنع تهريب المخدرات ومنع مرور الأسلحة، كما أنها أبلغت الوفد العراقي بمهلة محددة ستستهدف بعدها أي تحركات وتعتبرها أهدافاً مشروعة.

وبذلك يتم إزالة الخطر الميليشياوي عن حدود الأردن الذي يعمل على تهريب المخدرات والأسلحة إلى الضفة الغربية والأردن ودول الخليج ومنع الميليشيات من نقل الأسلحة من العراق إلى سورية ولبنان، وخرجت أصوات ميليشياوية نددت بتلك الأنباء وحذرت القيادة العسكرية العراقية من الانصياع لها ومن أهم تلك الميليشيا حركة النجباء التي ينتشر أفرادها بين سورية والعراق، وقد يكون المُسوّغ الشرعي لتغيير طبيعة ومهام القوات الأمريكية في المنطقة هو قانون محاربة كبتاغون الأسد الذي صدرت تعليماته التنفيذية في الشهر الماضي وبقيت بنوده الأمنية والعسكرية طي الكتمان، وتلك الخطط يشترك في وضعها الوكالات الأمريكية التنفيذية المختصة كالبنتاغون والـ CIA ووكالة مكافحة المخدرات الأمريكية، وعندما قُدمت الخطط التنفيذية لتطبيق هذا القانون من البيت الابيض للكونغرس أمهل الأخير البيت الأبيض ستة أشهر لتقديم خطة متكاملة ومن الممكن أن تكون تلك التحركات الأمريكية تستند لذلك القانون، وظهر رئيس الأركان الأمريكية الجنرال مارك ميللي الخميس 25 آب الحالي في المملكة الأردنية الهاشمية ليعلن أن بلاده بالتعاون مع المملكة عازمة على منع تهريب المخدرات إلى أراضيها.

والتقط ذلك الجمهور السوري بأنه لا مستقبل للأسد في سوريا وأنه وحلفاؤه في طريقهم لخسارة الصراع الكبير مع الولايات المتحدة، وإنه ليبقوا على قيد الحياة ويتخلصوا من هذا الكابوس الجاثم على صدورهم لابد لهم من ملاقاة الجهود الغربية في منتصف الطريق وتسهيل أو تبرير جهود تلك القوى لإسقاط الأسد طالما أن ثورة شعبية عابرة للطوائف جارية الآن ولا صحة لادعاءات الأسد بأنّ الصراع في سورية يدور مع أغلبية سنية أفرزت سنوات الحرب تنظيمات إرهابية من كنفها وأنه هو حامي الأقليات والسبيل للحفاظ على تماسك سورية كدولة ومنع انهيارها.

إنّ انسداد الأفق وعدم وجود بصيص أمل في نهاية النفق السوري أسهم بتجديد الثورة في جبل العرب وحوران وتنامي صيحات وبؤر التذمر في الساحل السوري، التي ستتنامى وتُراكم تجاربها السابقة وتتلاقى مطالبها مع مطالب بقية اطياف الشعب السوري في صراعها مع نظام الاستبداد للقفز من السفينة الغارقة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني