fbpx

ويطلّ فجر…

0 183

مرّت الشهور مرور سلحفاة هرمة، ونمت المزروعات في الحقول، واستبشر الجميع بمحاصيل جيدة تدرّ عليهم ما يحقق أحلامهم، ويعوّضهم عمّا أكلته أسراب الجراد في السنوات السابقة. وملأ الفرح قلب أبي كريم، وكبر حلمه، ومنّى نفسه بزفاف بكره، وعزم أن يدعو الجميع، ويولم لهم، ويمسك على رأس الدبكة كالأيام الخوالي، ويجعل العرس حديث القرية لسنوات آتية مستذكراً تلك الليلة.

هدوء يخيم على القرية، تنغّصه نهنهات ريح تتناهى إلى المسامع، وتنبئ باقتراب عاصفة قادمة، ثم تشتدّ فتقضّ الصمت والترقب، وتقوّض سكينة الأبواب الخشبية القديمة، فينكفئ الناس إلى الاحتماء بين جدران المنازل، وتختبئ الطيور في أوكارها.

ألقمت أم كريم الموقد فشع الدفء وانتشر في الغرفة. جلس أبو كريم أمامه يتأمل ألسنة اللهب تتصاعد وتهبط. عيناه تتابع حركتها دون أن يشعر بمرور الزمن، وانفلت عقال الذكريات، فعادت به إلى أيام الصبا والشباب، والسهرات الممتعة، وحفلات الأعراس، والتباهي أمام الفتيات، وإظهار أقصى حركات البراعة في الدبكة التي سرقت عيونهن، وشغفت بها أم كريم فعلقت في حبائله، وحلاوة أيام الخطوبة، والفرحة بمقدم كريم ثم حبات العنقود بالتتابع. وداعب النعاس جفونه، وغشيته غفوة فغطّته زوجه بلحاف الصوف، وتركته ينام هانئاً مع ذكرياته.

تثاءب الفجر وتمطّى، وشرعت أنواره تلمّ سدف الظلمة وتطويها متمهلة، وتخبئها في جعبة نهار جديد، وانسلت بوادرها تجوب الفضاء، وتحط على رؤوس الأشجار، وتداعب أعشاب السفوح، وتسقط على نوافذ بيت أبي كريم تمسّ زجاجها بخفة لص لتوقظه من نومه.  

يفتح عينيه فيرى أشباح خيالاتها عبر الستائر، تتحرك شفتاه ببسملة، ويزيح اللحاف عن جسده، ودونما ضجة يرتدي ثيابه، ويتسلل إلى الحضيرة، يحلّ رباط ثوريه، ويسوقهما إلى الحقل مستبشراً وداعياً أن يجلب له العام الجديد غلالاً وفيرة.

بذر حبات القمح، وشدّ ثوريه إلى المحراث وبدأ الفلاحة. السكة تغوص في الأرض، تدفن الحبوب، وتشكل خطوطاً مستقيمة متراصة، وصوته يعلو بالغناء تارة، ويهش على ثوريه تارة، ويدفعهما إلى العمل لينجز ما عليه، فالسماء تقطّب جبينها، وتتلبد بغيوم سود تنذر بمطر وشيك.

فك عُقَد النير ورفعه عن عنقي الثورين، وأطلقهما أمامه عائداً إلى القرية يستبشر بخير عميم رافعاً يديه ووجهه نحو السماء راجياً أن تمطر بغزارة هذه السنة؛ ليكون نتاج الأرض كما يحبّ ويأمل طمعاً أن يزوّج ولده أول حبة من حبات العنقود الذي أهدته إليه رفيقة عمره، ومسعفته على همّ الأيام، وينتظر.

لوّحت تباشير الصيف، ونضحت السنابل، وليس سوى أيام قليلة ويبدأ الحصاد؛ عندما استيقظت القرية على صيحات الاستغاثة وهسيس النار في الحقول، فتسارع الناس إليها يحاولون إخمادها؛ لكن الحرائق كانت أقوى، وامتدت بسرعة مذهلة في جميع الجهات، والتهمت المزروعات، وتحوّلت السهول قاعاً صفصفاً أسود قبل أن تصل بوادر النجدة، وعاد الجميع إلى بيوتهم يائسين، ومكدودين، ومعفرين بالغبار وبالدخان يشتمون حظهم العاثر الذي أتت عليه النار، وتراخي النجدة، وزادت الشكوى، فلم يُعرف سبب الحريق، وضاع تعب الشهور سدى، وضاقت سبل العيش، وسُدّت طرقه في الوجوه.

نامت القرية على همّ ينيخ بكلكله على الصدور زمناً، وصحت ذات يوم على منظر الشباب وهم يحملون حقائب السفر فراراً من ضنك يثقل كواهلهم، ويبحثون عن سبل للعيش في مكان يوفر لهم حداً من أمان وكرامة.

غادر كريم وهو يأمل بتحقيق حلم عزّ تحقيقه في القرية، وربما يكون بعيد المنال في الغربة، ولم يعد في البيوت غير المسنين، وفتيات، وبضعة شباب يحلمون، أجبرهم الفقر وقصر ذات اليد على البقاء يتسكعون في الأزقة بحثاً عن عمل، ويتفاءلون بغد مجهول.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني