fbpx

وماذا بعد…؟!

0 147

نعم، لنتفاءل… ونظر إلى الطاولة.. تأوّه، وشرد يسترجع يومه.. منذ أن استيقظ وهو يفكرّ بسداد قرض التسليف، والدكاكين، وفواتير الكهرباء، والهاتف، والمياه، والمسقفات.. ارتدى ثيابه وتوقّف عند الباب.. بهيّة.. يا بهيّة، ومن المطبخ أجابته:

– نعم

– أنا ذاهب لاستلام الراتب.

– موفق.. وضاحكة: لا تنسَ تطرّي الحنك.

مشى وهو يهذي بتوزيع ما سيقبضه

وصل إلى المصرف، ووقف ينتظر سماع اسمه. توارد المتقاعدون من أمثاله، تجمعهم الشكوى من ضعف المرتبات، وهم الأسعار، وفقدان المواد الأساسية للعيش، وضائقة يزداد سعيرها، والخوف من مستقبل مجهول، وبعد ساعتي انتظار مملّ رنّ في أذنه نداء: ناصر السمين. تغامز الذين حوله وضحكوا.. افترت شفتاه عن ابتسامة مخذولة وقال: سمين من الخبز الحاف، وتقدّم من النافذة.. عليك قرض يا عم؟

– نعم

– ناولته الموظفة ورقة، وقالت: وقّعها من المدقق ثم إلى الصندوق.

فرح بانقضاء الوقفة فقد تعبت رجلاه، وشعر بوخزة ألم أسفل عموده الفقري. تأكد من ليراته، ودّع أصحابه، وخرج يجرجر رجليه قاصداً دكان أبي صلاح.

– صباح الخير يا صديقي

– أهلاً تفضل…

جلس على كرسي صغير وهو يقول: بكم أنا مدين لك؟

– على مهلك

– شكراً.. يكفي لطفك وصبرك

سدد ما عليه، وأخذ يوزّع ما تبقّى على الفواتير، وإصلاح الغسالة، والأحذية، ولم ينسَ بهيّة. شكَرَ لأبي صلاح الاستراحة القصيرة، وغادر.

دفع ما يستوجب دفعه، وقصد مطعم الشاورما. مرّ بواجهة متجر، شاهد ثوب زفاف مزين خلف الزجاج، تبسم وهو يتفحّصه.. تذكر ليلة عرسه والزغاريد.. تنهّد ومشى. وفي متجر آخر اختطف معطفٌ نسائي نظرَه.. شدّه.. اقترب.. تخيّل بهيّة ترتديه وتقف أمام المرآة تتمايل يميناً ويساراً لتطمئن على جمالها به.. قرأ على ورقة معلقة على ياقته السعر أضعاف مرتبه.. تمنّى لو كان يستطيع شراءه وتابع. على عربة صُفّت الفواكه مرتبة، هالته الأسعار.. قارن مرتبه كم كيلو غراماً يشتري منها، وشاهد على أخرى لافتة “بُعداً للأدوية، ملك البصل نزل إلى السوق” تحسّس ليراته، فإذا ما اشترى كيلو غراماً لن يبقى لديه ثمن الدواء لزوجه. طأطأ رأسه متحسراً واستمر في سيره.

اشترى سندويشتي شاورما، دسّ ما تبقّى في جيبه ويمّم شطر بيته وهو مشغول البال كيف سيقضيان الأيام إذ لم يرسل له ولده بضع آلاف تسد رمقهما حتى نهاية الشهر.

أدار المفتاح في القفل، استقبلته بهيّة مرحبة: حمداً لله على سلامتك، ما بك متجهّماً؟ كلّها تطراية حنك؟!

وضع ما يحمله على الطاولة وقال: تفووو على هذا الزمن، وجلس على كنبة معمّرة.

– خيراً يا رجل! ما الذي حصل؟

– ومن أين يأتي الخير؟ وأخرج من جيبه باقي المرتب: ربما يكفي لشراء دوائك إذا لم يرتفع سعره.

– هوّنها.. ستفرج…

– متى…؟

– لا تفقد الأمل …

– بماذا…؟! أتدرين؟!، لقد شاهدت مجموعة تشيّع رجلاً متوفّى، غبطته.. لقد ارتاح من هذا القرف. وحسدته.. نعم حسدته ،أصبحنا نحسد الموتى…

– لِمَ التشاؤم؟ تصبّر، مادام عسر أبداً.

– آهٍ.. ما ترك اللصوص للناس شيئاً، صرنا مشروع متسولين

– ماذا تقول؟

– أكاد أختنق.. بعد 36 سنة من الخدمة أصبح متسولاً وعالة على الأولاد.. فقاطعته

– اصبر، إنهم أولادك يردون لك جميل التربية، والمستقبل لهم

– ملعون ذلك المستقبل الذي يسرق أحلامهم.

– لا تتشاءم، ما بعد الضيق إلّا الفرج

– دليني عليه، أين يُباع، في السوق أم في المقبرة؟

– مازلنا بخير تحت سقف يأوينا.. تذكّر مَنْ ينامون في العراء تحت رحمة البرد، والثلج، والمطر.

– تقارنيننا بهم؟! الفقر كافر.. الجوع شيطان.. والقهر ذلّ يا بهيّة، والشبع والتمتع لسارقي اللقمة من الأفواه جريمة.

رنّ جرس الهاتف، رفعت السماعة.. أهلاً يا حبيبي

– أمّاه كيف حالكم؟

– بخير… وأنت؟

– الحال هنا غير مرضية.. اعذروني

– سلامتك

– أرسلت مع صديق مبلغاً عساه يكفي…

– شكراً لك

– سلّمي على بابا.. وأنهى المكالمة

– سليم على غير عادته.. يبدو أنه متضايق…

– للغربة ثمن باهظ يدفعه الشباب من أعمارهم

– وعليهم أن يتحمّلوا أعباءها…

– وماذا…؟!

– اصبر على الضيم فإنّ صبرك يقتله

– تبسّم… وأشار إلى الطاولة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني