fbpx

وصدح… أخيراً

0 141

طرقت طبل أذنه، انتفاضة…، أيقظت حواسه.. أرهف السمع، لم يصله بعدها غير وقع نعليهما وهما يبتعدان. جلس على حافة بوابة الدار يترقب المارة ليستفسر.. مرّ الوقت.. تأخر صغيره على غير عادته.. تساءل: هل تلهّى في الطريق مع رفاقه أم معتمد الخبز لم يصحُ مبكراً والقرية تنتظر؟! ولمّا سمع صوت حفيده يرطن من بعيد توجّس.. وعندما وصل سأله: لِمَ تأخرت؟ أهناك شيء ما؟.

– احتجاجات يا جدي

– أين؟

– السويداء قامت قيامتها

– ماذا؟

– الناس في الساحة تهزج كالبركان

– أصحيح ما تقول؟ لم تذكر ذلك نشرة الأخبار

– يقولون كسّروا القيود.. تخطّوا الحواجز كلها..

– هل أنت متأكد مما سمعت؟

– نعم، وشباب القرية يدعون إلى سهرة في الساحة

– هنا؟!

– هنا يا جدي هنا

– قدني إليها إذن، ونهض يتلمّس الطريق بعصاه إلى الداخل

تتآكله الحيرة.. ماذا سيفعل؟ لو يبصر الطريق ليذهب إلى الساحة من لحظته، وينتظر الجموع.. يكون أول الحضور.. يشاركهم.. يهزج معهم. اقتربت زوجه منه، ما بك؟ أراك كدجاجة توشك أن تبيض..

– الدنيا تضيق بي.. أنتظر انحدار الشمس للمغيب.

– لماذا؟

– لأذهب إلى السّاحة، قال ملهم: الشباب يدعون إلى سهرة..

– ولك حيل للمشاركة بها؟

– أشجعهم.. أصفق لهم

– دعك من هذا، مضت أيامك، ودلفت إلى المطبخ تعدّ الغداء

–  آهٍ كم انتظرت..

   ذهب مع حفيده إلى سّاحة القرية.. جلس على الرصيف يتابع الجميع وهم يهزجون.. صفّق لهم.. غنّى معهم.. دقّ الأرض بعصاه ليوقظها.. سمعهم .. غداً إلى ساحة الكرامة..

   قضى ليلته على حرّ جمر.. تقلّب كأفعى.. قرّر الذهاب.. ومع شروق الشمس راح يستعد.. حاولت زوجه أن تثنيه.. لم توفّق. قال ملهم: ليس اليوم، الجمعة سيذهبون.

– لماذا؟

– لقد منع أمين فرقة الحزب سائق الباص أن يقلّ الناس.. هدده…، وقاده إلى الشرفة.

– جدي، لماذا تصرّ على الذهاب؟ ما الحكاية؟

– قصة طويلة

– أتسمح بها؟ أحبّ سماعها

– يا بني، أمضيت العمر أنتظر هذه الساعة.. كنت شاباً يفور حيوية عندما اِعْتُقلت.. اِتُّهمت بأني أسأت للدولة، وخدشت حياء الأمة.. عُذّبت حتى كدت أنسى اسمي.. سدّوا السبل في وجهي.. حاربوني بلقمة العيش.. حُجبتْ عني الوظيفة، ومُنعت من السفر.. اشتغلت حمّالاً، وعاملاً، وفي المطاعم.. عدت إلى الأرض أزرعها وأعيش من خيرها.. تزوجت.. أنجبنا والدك وعمّتك.. ربيناهما برمش العين، وفرحنا بهما.. أكمل والدك دراسته في الجامعة.. تأثر بفكر أبيه، وقاسى ما قاسيت. ولما هاجمنا الدواعش قاومناهم.. رددناهم خاسئين.. انتصرنا عليهم.. استشهدت والدتك، وجرح أبوك.. أصابتني شظايا ففقدت البصر.. خبأتكَ جدتك في خمّ الدجاجات خوفاً عليك، وبعد عام حاول أبوك وعمتك وزوجها اللجوء… لم يصلوا… وكمئات اختطفهم البحر، ولم يُعرف مصيرهم. هذه عناوين حكايتي.. أعرفت لماذا أنتظر هذا اليوم؟ ولماذا أحلم أن تعيش وجيلك أجمل الأيام؟ ولماذا أرغب بالذهاب إلى ساحة الكرامة؟

الجمعة.. الوفود تتدفّق سيلاً.. تتصاعد الهتافات والزغاريد.. عرس… وسوريّا العروس.. صدح المجوز.. انعقدت حلقة الدبكة.. شباب وصبايا زهور ربيع. قال: قدني يا ولدي.. شيخ متهدم اقتحم الساحة.. وقف.. رنت العيون إليه.. ساد الصمت.. ببصيرة مرهفة تفرّس في الجموع.. دقّ الأرض بعصاه.. رفعها عالياً.. لوّح بها.. عصف التصفيق وتفجّرت الحناجر.. شقّ صوته الفضاء راعداً «هذا اليوم الكنا نريده»..

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني