fbpx

وجها عملة

0 38

قطعان تسرح…، نظر إلى تلك الغيوم.. تنهّد.. توكأ على عصاه ومشى محني الظهر ببطء إلى كرسي قرب باب المضافة. جلس يتأمل شجرة التوت المنتصبة في ساحة الدار يتمتم.. ربما يدعو أو يتذكّر جزءاً من شبابه الراحل. اقتربت منه.. حيّيته.. أشار لي بالجلوس جانبه.. تلمّس شعري.. ربّت على كتفي.. سألني: ما الأخبار…؟

– لا شيء جديد، لماذا؟

– الساعات حبلى… ما كنتُ أتوقّع…

– يقال، الأيام تعيد نفسها.. أصحيح يا جدي؟

– يا ولدي تتشابه، ولا تتكرر

– كيف؟ إني أصغي…

عشنا شتاء قاسياً، طالت لياليه المظلمة، وتكدست الثلوج فوق الفجاج المترامية، وتقرّس البرد، وتلاعبت الريح بالخيام تحاول اقتلاعها، وكادت الأرواح تُزهق، ويحصدها الموت لولا تضامن الجميع وتماسكهم. صنعوا من أجسادهم سدّا حمى النساء والأطفال والأرزاق، واعتنوا بالطبيعة فأشرقت. غرسوا الورود فأزهرت، والأشجار فأثمرت، وزرعوا الأرض فاخضرّت واكتست حلة قشيبة، وتزيّنت بألوان زاهية فتنسّموا أريج نوّارها، وزغردت الفرحة، وعلت البسمة الوجوه، ولمعت العيون تفصح عن مكنونات أصحابها، وامتلأت الساحات احتفالاً…

– ثمّ… ؟

تقضّى الزمن هانئاً.. ارتقى جيل البنائين الأوائل…، وتسلّم الأولاد والأحفاد مقالديهم، لم يمرّوا بتجربة الأجداد، ولم يشعروا بنشوتهم وهم يقهرون عربدة الشتاء، ولا بزهو الربيع وإشراقة شمسه. اعتزوا بأنفسهم، وتضخّمت أناتهم، ولم يكترثوا لما يخطط لهم، ولا للذئاب التي تترصّدهم، أو للأفاعي تطل رؤوسها من مكامنها، وتستعد لنفث سمومها وهي تتجمّع في خاصرتهم، وتشكّل محمية تتهدّدهم. عقدوا اجتماعات لدرء مخاطرها. تباينت الآراء، وعلت الأصوات، وانقسموا أفرقاء. تنافسوا.. وتخاصموا.. واقتتلوا. استوى الغالب على القمّة، وتسيّد بلا منازع. عاش الناس في سجن فسيح بلا جدران عقوداً.. تربّوا على التصفيق.. يسمعون ويطيعون.. يأكلون بصمت، وينامون مقهورين ويحمدون… أخذ نفساً عميقاً.. غبّت رئتاه الهواء وزفره حاراً…

– هلّا أكملت…؟! 

شمّت الأنوف عبق بواكير زهور تتفتّح، وهبّت نسائم أنعشتهم.. نزل الشباب إلى الشوارع وصرخوا…، تصدّت لهم البنادق.. نزف الدم.. واستمرت الحال شهوراً وسنوات بين أخذ ورد فترنّح الطرفان تعباً

وصبيحة غفلة من الزمن امتشق رجال أسلحتهم وهاجموا بغتة.. سقطت المواقع الهشة واحداً.. واحداً.. هتفت الجموع وصفّقت.. ارتاحت لعذب الوعود، وحلمت بنعيم غاب عنها طويلاً…

– وماذا بعد؟

مرّت الأيام سراعاً.. بدأ الحلم يذوى.. ويتقلّص.. اتسعت الفجوة ما بين الوعد وبين صدى إنجازه.. تسرّب الشّك إلى النفوس، وازداد الهمس، وكثرت الإشارات.. تهرّأت عُقُل الخوف وتقطّعت، وكثر لغط السؤال: “متى؟ وأين؟ وكيف”، وارتفعت عقيرتهم: نريد تحقيق العهود… اكفهرّ الجو.. وكثرت الاجتماعات.. وازداد الهرج…

انبرى شيخ متهدّم أنهكته صروف العمر، دقّ الأرض بعصاه، وعلا صوته جهوراً: خبٌَرَنا التاريخُ، وعلّمتنا تجاربُ-ه: “في هذا العالم المضطرب لا يصحّ إلّا الصحيح”. الباب، أمامكم، مفتوحة مصارعه…

حدّقتُ ب-ه.. غَمزَني…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني