fbpx

من القاهرة إلى الدوحة.. سورية إلى أين؟

0 300

القاعدة تقول: إنه لكل سؤال جواب، ولكن هناك فعلا أسئلة لا جواب لها، فالأسئلة إما إن تكون افتراضية وعلى المسؤول التفكير والبحث في إيجاد الجواب، وإما إن تكون أسئلة كاشفة لمخزون الذاكرة عند المسؤول وتكون الإجابات في الحالة الأولى مجرّد اجتهادات واستنتاجات تحتمل الصحة والخطأ لذا تكون أكثر عرضة للأخذ والرد وربما الإهمال، أما في الحالة الثانية فهي إجابات محكمة لأنها نتائج مقدمات منطقية ورياضية فيحكم عليها وفق قواعد المنطق وقوانين الرياضيات.

سورية إلى أين، سؤال يحتاج إلى تقعيد أي إسناده إلى قواعد منضبطة لا سيما أنه يتضمن ثلاثة أبعاد وهي بُعد الزمان ويتفرّع عنه “زمن البداية وزمن النهاية” وبعد المكان ويتفرّع عنه “نقطة الانطلاق ونقطة الوصول”، وبعد الحركة ويتفرّع عنه “التخطيط والأدوات والفاعلين”.

فأسئلة ما قبل الثورة تختلف عما بعدها، فالمنهاج الفكري والحزبي والسياسي والاجتماعي والثقافي الذي كان سائداً قبل الثورة تحطّم وانهار مع انطلاقة الثورة، فمنهاج الثائرين حطّم مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع، وحطّم ثقافة تقديس الزعماء والأشخاص حين دمّر هالة القائد الأبدي، كما أسقط دولة الخوف والرعب التي أسسها حافظ أسد، ومن هنا بدأت التغيّرات الجذرية في بنية الفكر السياسي والثقافي والحزبي والاجتماعي والعسكري في عقول ونفوس ملايين السوريين، وهذا التغيير لا يمكن إعادة ضبطه أو تخفيفه أو تعديله ليكون وسطاً بين دولتين دولة الاستبداد والإجرام ودولة الثورة والحرية والكرامة.

عوامل التغيير الذي تجذّر في النفوس والعقول وارتوى بدماء الشهداء وحريات المعتقلين وأعراض المغتصبات من الحرائر والتشريد والتهجير والتدمير لا يمكن لأي قوة في العالم أن توقفه أو أن تمنعه فقد أصبح قدراً محتوماً باعتبار أن الأيام دول وهذه هي سنة الله في خلقه.

هذه الحقيقة التي يجب أن ننطلق منها للإجابة على كل الأسئلة المثارة أو التي ستثار لاحقاً سورية إلى أين؟ من هم السوريون بعد الثورة؟ ماهي أهدافهم؟ ماهي مقاصدهم؟ ما هي آلياتهم؟.

ليست كل الطرق تؤدي إلى روما، وعليه فكل الطرق لا تؤدي إلى دمشق ما لم تمر من خلال إسقاط النظام، ومحاكمة رأسه ورموزه، فشبكة الطرق في سورية تشبه شبكة السكك الحديدية في خطوطها المنضبطة ومحطة انطلاقها محطاتها المتوالية المتتابعة والمحطة الأخيرة محطة الوصول، وتتكون من أربعة مسارات تتسابق فيها أربعة قطارات تسير بالتوازي فيما بينها: “الثورة، النظام، المعارضة، المجتمع الدولي” ولكل قطار حمولته وقيادته وأدواته وألياته وأهدافه، وإن خروج أي قطار عن مساره سيؤدي حتماً إلى خروجه من السباق.

فقطار الثورة انطلق من محطة إسقاط النظام بكل رموزه ومحاسبتهم ومحاكمتهم عن جرائمهم، وكانت خيارات الثورة مفتوحة ومباحة وأدواتها مشروعة، وقد كان الأسرع والأقوى، وعندما شارف على الوصول إلى المحطة الأخيرة تداعت عليه كل قوى العالم لإيقافه ولم تدّخر جهداً ولا قوة ولا مالاً ولا سلاحاً في سبيل ذلك، ما أدى إلى عرقلته ومنعه من الوصول ولكنها لم تستطع تدميره كلياً.

وقطار المعارضة السورية بدأت محطته الأولى من القاهرة وانتقلت إلى إسطنبول وأنطاكيا ومراكش وأستانا وسوتشي وجنيف وفيينا وقرطبة وموسكو والرياض وكانت حوامله وقيادته مختلطة، فلم ينتج لنا شيء سوى زيادة الانقسام والتشرذم وانتقال الكثير ممن كانوا يحسبون أنفسهم على الثورة إليه، وأصبح قوة إعاقة لقطار الثورة وخاصة في محطتي أستانا وسوتشي والرياض 2 وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، التي أظهرت ميلاً للتعاون ومشاركة النظام في تحمّل أعباء القضاء على الثورة برعاية من المجتمع الدولي الذي مكّن لهما هذا الارتباط وتوحيد مسارهما ووضعهما على سكّة واحدة تنافس وتتصارع مع قطار الثورة بقيادة المبعوث الأممي الذي يتغيّر بتغيّر الظروف، بما يكفل استمرار الصراع ونجاح هذا الثلاثي في الوصول إلى أهدافه بتجاوز قطار الثورة والوصول إلى حلّ تشاركي بينهما يفضي إلى حكومة وحدة وطنية أو حكومة محاصصة.

لذلك أصبح “التمايز” ضرورة ثورية، لكشف الحقائق، وفضح النوايا، وتعرية الانتهازيين والمتسلقين، والمفرِّطين والخونة، وإن ذلك يعيد قطار الثورة إلى مساره الصحيح باتجاه المحطة الأخيرة “دمشق” التي تختصر كل المسافات وتختزل كل الطرق، واستعادة بوصلة الثوار وضبطها باتجاه الهدف النهائي المحددة إحداثياته على خريطة الثوار المنتشرين في كل أنحاء سورية وخارجها.

عندما نجد أن أغلب الجهود إن لم نقل كلها تنصبّ في معركة واحدة وهي معركة توحيد المعارضة التي لن تتوحد ولن تجتمع على كلمة واحدة لاختلاف أيديولوجياتها واختلاف رؤاها ومواقفها من النظام ومن بشار أسد، والتي بجملتها وبدون استثناء لا تقبل تبني “الثورة” كأسلوب للتغيير لما فيه من شرعنة حمل السلاح للدفاع عن النفس وإسقاط النظام، التي تؤثر تبني أدوات التغيير السلمية، التي اختصرتها بعملية “التفاوض” على الدستور وهيئة حكم ذات مصداقية ونظام حكم غير طائفي، لذلك نجد أن مفهوم الوطنية هو الدارج في خطاب أطياف المعارضة على حساب مفهوم الثورة، وتقزيم الثورة من خلال اعتبارها إحدى مكونات مؤسسات المعارضة ليكون حجم الثورة حجم أي حزب أو هيئة أو مجلس أو منظمة مجتمع مدني تعداد منتسبيه على الأقل 300 شخص.

ندوة الدوحة كانت ندوة معارضة بامتياز أو بعبارة أدق لا شأن للثورة بها فكل ما تم الحديث عنه أو مناقشتها، وما وضع من تصورات مستقبلية تتعلق بشرعية وأداء المعارضة وسقف أهدافها وطموحاتها كله لا يصل إلى سقف الثورة ولا إلى طموحات الثوار وأهدافهم.

وبما أن ردود الأفعال تعتبر من قبيل أدوات معرفة توجهات ومسارات الرأي العام وجدنا أن ردود الأفعال تجاه الندوة تدور في ثلاث حلقات:

الحلقة الأولى: هي حلقة المعارضة ومكوناتها التي أظهرت أن هذه المعارضات لا تتمتع بأي نوع من التجانس الذي يمكنها من اتخاذ موقف واحد وصريح اتجاه النظام ورأس النظام، لاختلاف الأهداف والمطالب والآليات، وتعارضها في كثير من الأحيان وخاصة في موضوع وحدة الأراضي السورية ومشاريع الفيدرالية أو الانفصالية فكان المخرج الأول للندوة التأكيد على وحدة الأراضي السورية رداً على مشاريع الانفصالية والإدارات الذاتية واعتماد اللامركزية الإدارية حسما للمطالبة بالفيدرالية أو اللامركزية السياسية، والتأكيد على الهوية الوطنية الجامعة في رد على دعوات تكريس الهويات الفرعية الطائفية والعرقية والإثنية التي تتبناها أطياف معروفة من المعارضة.

الحلقة الثانية: حلقة مؤسسات المعارضة والتي ظهر قصور عملها من خلال المخرجات من 2 حتى 11  منها والتي أكدت فشل أداء هذه المؤسسات لغياب المشروعية وفقدان الأسس التنظيمية وتدنّي الأداء وغياب الحوكمة الرشيدة في عملها، وقد رأينا ردود الأفعال من قبل أفراد هذه الحلقة تدور بين الاتهام والدفاع والتخوين والفساد، والإقصاء، والمحاباة.

الحلقة الثالثة: وهي حلقة الثورة والحاضنة الشعبية والتي تراوحت ردود الأفعال بين مُتّهِمٍ لرعاة هذه الندوة بإقصاء الثورة والثوار، وبين رافضٍ لها أصلاً وبين مهملٍ لها لقناعته بعدم جدواها وعدم جدواها، أي أنها متهمة بالإقصاء والتبعية والعجز عن تقديم أي شيء للثورة والحاضنة الشعبية.

المجتمع الدولي ومن خلال زيادة دعمه واستخدامه للمعارضة الحالية، سيبني على مخرجات هذه الندوة ما يمكن أن يُعينه على دعم وتحقيق أي تقدّم في مسار العملية السياسية التي انتقلت إلى مرحلة خطيرة مع إحاطة المبعوث الدولي “بيدرسون” وهي إعادة العمل بمقاربة “الخطوة مقابل خطوة”. والتي ستكون آخر مسمار في نعش الثورة، لأنها ستكون مرحلة تقديم التنازلات المسبقة قبل الدخول في جولات التفاوض وهي بالمطلق لمصلحة النظام حيث سيستفيد منها في إعادة إنتاجه وإعادة تأهيل بشار أسد، وطي ملف هيئة الحكم الانتقالي، وطي ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وملف المعتقلين والمختفين قسرياً والمفقودين عبر عمليات تسوية بين النظام والمعارضة.

ومن المتوقع أن تُصرّ المعارضة الحالية على مسارها الحالي مستعينة ومستقوية بالمجتمع الدولي باعتبارها شريكاً موثوقاً له في كل “إنجازاته” في عملية الحل السياسي، في مواجهة الثورة والثوار وضرب إرادتهم عرض الحائط، بل تجييش واستعداء العالم ضد الثورة وتكريس تهمة الإرهاب والتطرف وإلصاقها بكل من يخالف توجهاتهم ومساراتهم، وأرهقوا الشعب في معركة “الحل السياسي والتفاوض والدستور” سائرين على خطى حافظ أسد الذي كان رغم إجرامه ووحشيته يهاب قوتين ويعتبرهما قوتين لا تقهران هما “قوة الله وإرادة الشعب” وتعامل مع هاتين القوتين بخبث ودناءة فحارب كل من يؤمن بالله ورسله بفتاوى من آمن بحافظ أسد ولم يؤمن بالله، وأرهق الشعب بتكاليف معركة استنزاف طويلة الأمد هي معركة الشعارات الكاذبة من التصحيح إلى التحرير ثم المقاومة والممانعة، وتكريس وحدانية وأبدية الحكم البعثي الطائفي العائلي، لدرجة أنه اختصر وجود سورية بإرادته وأنها لم تكن شيئاً مذكوراً من قبله فكان يستحق لقب “القائد المؤسس”!!.

وأخيراً ومن خلال واقعتين جرتا في الأيام الأخيرة يمكن قياس وزن المعارضة وفعالية أدواتها ونجاعة توجهاتها مقارنة مع وزن الثورة وفعالية أدواتها ونجاعة توجهاتها، وهما عملية تحرير أسرى جيش العزة مع العدو الإيراني، التي نسفت مسار أستانا من جذوره بعد تحوّله إلى بازار صفقات تبادل مخطوفين، وأكّدت أن استقلال القرار الثوري مرهون استقلال الثورة والالتزام بمبادئها وثوابتها، وأن التعويل على المجتمع الدولي غير ذي نفع أبداً فهو مضيعة للوقت وهدر للطاقات، وتبديد للحقوق وتفريط بالثوابت.

وعملية إطلاق سراح القائد الثوري “أبو خولة” التي أظهرت الالتفاف الشعبي الثوري حول هذا القائد العسكري الثوري البسيط الذي لا تستوعبه معايير النخبوية التي وضعها أرستقراطيو المعارضة، “أبو خولة” الذي يمثّل وجدان الثورة الذي انطلقت قوافل حملته من ساحات المدن والقرى والأحياء إلى العالم أجمع، ليصطدم بقطار المعارضة الأرستقراطية النخبوية الذي يجول عواصم العالم إلا عواصم الثورة.

هاتين واقعتين فقط وحدتا الحاضنة الثورية على اختلاف مشاربها ومناطقها وانتماءاتها حول قضيتين أساسيتين وهما من ثوابت الثورة وهما إطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسرياً وكشف مصير المفقودين، وقضية العمل العسكري وأهميته في الدفاع عن الثورة والشعب وفي إسقاط النظام، بينما نجد بأن الشقاق والاختلاف والجدل والتخوين والاتهام والتفريط هي نتائج أي عمل للمعارضة أو أي اجتماع أو ورشة أو ندوة أي فعالية أخرى.

فمن كان يرجو حقّاً أن ينال الشرف الرفيع فليبتعد عن مستنقع التفاوض مع النظام فإنه رجس، وها هي ميادين الشرف، ميادين الثورة وهذه معاركها معارك الدفاع عن الثوابت وإسقاط النظام، ومن أراد النصر فليعمل على تحقيق شروطه بدعم الشرفاء الذين ما بدّلوا وما زالوا على العهد باقين.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني