مغلّف منسيّ
وحيدة، جلست في الشرفة، تزاحمت الخيالات فراحت تتذكر آخر أيامهما. بحثت عن دفتر يضعه في درج الطاولة، ولم تمسسه يدها، كان يسجل فيه بعض الملاحظات. وجدت مغلّفاً معنوناً: إلى رانيا… فتحته فتنسّمت عطر الجوري. أخرجت ورقة كتبها بخط منمّق: “يا حبّ، القلب مخبّأ بين وريقات الزهور التي تحبين أهديكِهما.
اليوم الذكرى الستون لميلادك السعيد، مضى أكثر من نصفها على زواجنا؛ ومازالت تلك المصادفة الأولى للقائنا في الكلية حيّة في الذاكرة. شابة تفور حيوية، بسمتها إشراقة شمس، وضحكتها موسيقا عذبة، وبريق عينيها شعاع نور يخطف اللبّ، ويوقظ نبض القلب، سألتِني عن قاعة المحاضرات، تسللت الحروف من بين شفتيك نغمات سمفونية رعوية، ولثغة الراء غيناً تضفي على اللحن جرساً محبباً. سألتُ: هذا أول يوم لكِ؟
– نعم…
– أتشرف بكِ، ما الاسم؟
– غانيا، وأنت؟
– غامز مقلداً… يا آنسة غانيا
– من أولها يا سيد غامز… وضحكنا…
اشتريت لك هذه الزهور، وفي طريق العودة أجرجر خطاي فوق الرصيف واسترجع ذكريات الكلية، والرحلات، وأيام الخطوبة، وليلة زفافنا، واستقبال “سعاد” بكرنا بعد سنة ونصف ثم سعد، ومعاناة تربيتهما، والسهر حتى تخرجا في الجامعة، وكغيرهم من أبناء جيلهم فرا مهاجرين، وتركانا كما بدأنا وحيدين. أتذكرين وأنت تلوّحين لهما بيدك، وعيناك تشرق بالدموع، وتسألين: أهذا قدرنا ياربّ؟ لمَن نخلّف ونربّي؟ وهل الآخرون أحقّ وأجدر منا باستثمار وجني ثمار عقول شبابنا وقواهم؟
صباح الخير يا رفيقة العمر، جئتك بزهور تعشقين ألوانها. البيضاء لشهقتك الأولى، والحمراء ليوم وقفتِ بجانبي حمامة بيضاء، وملكة متوّجة على عرش مملكة جديدة؛ أنا وزيرك الأول والمفوّض فيها، والمستشار الناصح، والمؤيِّد لقراراتك كلها. لم أتعب، ولم أخلف وعداً. إسعادك وهناء عيشك منيتي، وأملي أن تكوني مرتاحة لا يشغل بالك ما يعكر صفو أيامك.
يا حبّة القلب، هذه الزهور لتضعيها في آنية تزيّن غرفة الاستقبال، ولم أشأ أن أقطفها من زهور حديقتنا التي غرستها السنة الماضية لتبقى فوّاحة تعطر صباحاتك ومساءاتك، ولتتمتعي بمرآها، وتتشممي عبيرها مع شلال من القبلات.
كل عام وأنتِ الحبّ.. كل عام وأنتِ الخير…” .
تنهّدت.. آهٍ منك، مضيت دون وداع، ولم تعطني وقتاً لأقرأها.. ومتأنية طوت الورقة وأعادتها إلى المغلّف مبلّلة… بينما يعلو صوت ولديها وهما يلوحان لها “كل عام وأنتِ ملكتنا المتوّجة…”.