لا منابر لتبييض الجرائم: الإعلام بين مسؤولية الإنصاف وتأجيج الألم
في سوريا الجديدة، حيث يسعى الضحايا إلى العدالة والمحاسبة، يتعين على وسائل الإعلام أن تكون منبراً للحقيقة، لا أداة لإعادة تقديم المجرمين. فاستضافة الشخصيات التي دعمت نظام الأسد وبررت جرائمه، دون أن تبادر إلى الاعتذار أو التعويض، لا تُعدّ مجرد خطأ مهني، بل خيانة لذاكرة الضحايا وتواطؤاً مع الجناة في إعادة إنتاج خطاب الإفلات من العقاب.
إن العدالة ليست رفاهية، بل حجر الأساس لأي مصالحة حقيقية، ولا يمكن بناء السلام على حساب حقوق ملايين السوريين الذين عانوا القتل، والتعذيب، والتشريد، والاختفاء القسري. لذا، جاء بيان الشبكة السورية لحقوق الإنسان ليُذكّر بأن الاعتذار، والتعويض، والانسحاب من الحياة العامة هي خطوات ضرورية لمن كانوا في صفوف النظام، قبل الحديث عن أي دور لهم في مستقبل سوريا.
الإعلام بين دور الشريك ومسؤولية الجريمة:
مع سقوط نظام الأسد، بدأت بعض وسائل الإعلام بمنح مساحة لمثقفين وفنانين ورجال دين كانوا من أشد المدافعين عنه، بل تجاوزوا ذلك إلى التحريض المباشر على القتل، والتشجيع على القصف، والتهليل للمجازر.
لم يقتصر الأمر على من دعوا إلى العنف، بل إن بعض المنصات الإعلامية استضافت أفراداً أنكروا وقوع الجرائم، أو حاولوا تبريرها، أو قلّلوا من شأنها، مما عمّق جراح الضحايا وأجّج مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام، ما يُهدد أي أمل في بناء سلم أهلي حقيقي.
إن تحويل من مجّدوا الجرائم إلى ضيوف مرحب بهم في الإعلام، دون أي اعتذار أو مساءلة، هو تطبيعٌ خطير مع القتلة، وهو أمر لا يمكن القبول به في بلد يسعى للخروج من أنقاض الاستبداد نحو مستقبل قائم على العدالة والإنصاف.
جرائم موثقة… لا مكان للإنكار والتبرير:
بحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن نظام الأسد ارتكب انتهاكات جسيمة وصلت إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ومن أبرزها:
203,000 مدني قتلوا، بينهم 23,000 طفل.
115,000 شخص مختفٍ قسرياً، بينهم 8,500 امرأة.
82,000 برميل متفجر أُلقيت على المدن.
16,200 فرد متورط في الجرائم، منهم 6,724 من القوات الرسمية، و9,476 من الميليشيات الرديفة.
هذه الإحصائيات تجعل من أي محاولة لإنكار هذه الجرائم أو التقليل من شأنها، أو الادعاء بأن الضحايا يستحقون ما جرى لهم، جريمة بحد ذاتها.
قبل الحديث عن المصالحة: ما المطلوب من داعمي النظام؟
إذا كان بعض من دعموا النظام يسعون للاندماج مجدداً في الحياة العامة، فإن ذلك لا يمكن أن يتم دون محاسبة، أو على الأقل دون اتخاذهم خطوات ملموسة تجاه الضحايا، ومنها:
1. الاعتذار العلني والمكتوب عن دعم النظام، والاعتراف بالمسؤولية.
2. تعويض الضحايا وذويهم مادياً ومعنوياً، خاصة ممن فقدوا منازلهم أو تعرضوا للابتزاز والاعتقال.
3. إعادة الممتلكات المنهوبة، سواء كانت أراضي، أو بيوت، أو متاجر، أو سيارات.
4. الإسهام في إعادة بناء المجتمعات المتضررة، وتمويل برامج دعم الناجين وتعليم أبناء الضحايا.
5. عدم شغل أي مناصب قيادية أو سياسية مستقبلاً، لضمان عدم تكرار المأساة.
6. الانسحاب من المشهد الإعلامي والثقافي والاجتماعي، حتى يتم تعويض الضحايا وإنصافهم.
إن أي ظهور علني لمن تلطخت أيديهم بدماء السوريين، قبل تنفيذ هذه الخطوات، ليس سوى استفزاز لمشاعر الضحايا ومحاولة للقفز فوق المأساة دون مساءلة.
تبرير جرائم الأسد ليس وجهة نظر.. إنه تحريض على الجريمة:
يحاول البعض الدفاع عن مناصري النظام السابق بحجة “حرية الرأي والتعبير”، لكن لا يمكن تصنيف الدفاع عن جرائم الحرب أو إنكارها كحرية رأي.
فكما أن إنكار الهولوكوست مجرّم في دول العالم، يجب أن يكون إنكار جرائم الأسد مجرّماً في سوريا الجديدة. فلا يمكن السماح لمن مجّدوا المجازر أو أنكروا القتل والاعتقال والتعذيب، بأن يعودوا إلى الفضاء الإعلامي وكأنهم لم يكونوا شركاء في صناعة الكارثة.
لذلك، تدعو الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى:
إصدار قوانين تُجرّم تمجيد النظام أو تبرير جرائمه. منع ظهور المجرمين والمبررين في وسائل الإعلام، لحماية الذاكرة الجماعية للسوريين.
التوصيات للحكومة والإعلام: لا تساهل مع المجرمين:
على الحكومة السورية الجديدة أن تتخذ الخطوات التالية:
إصدار قانون يجرّم إنكار جرائم الأسد أو تبريرها.
إدراج توثيق هذه الجرائم في المناهج الدراسية والبرامج الإعلامية، لضمان عدم نسيانها.
التحقق من أن أي شخصية دعمت النظام قد نفذت جميع الخطوات المطلوبة قبل منحها أي دور عام.
إزالة رموز النظام ومحو أي تمجيد له في الفضاء العام.
تخليد ذكرى الضحايا من خلال معالم تذكارية ومبادرات وطنية.
أما وسائل الإعلام، فعليها التزامات أخلاقية واضحة:
التوقف الفوري عن استضافة منكري الجرائم أو مبرريها.
رفض أي محاولة لإعادة تقديم المجرمين كأطراف طبيعية في المشهد العام.
إنتاج أفلام وبرامج توثيقية تُبرز معاناة الضحايا وتحافظ على الذاكرة الجماعية.
الالتزام بمعايير أخلاقية تمنع تلميع صورة المتورطين في الجرائم.
العدالة لا تُبنى بالتناسي، ولا مصالحة مع الإفلات من العقاب:
إن سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى على أنقاض العدالة، ولا يمكن القفز فوق آلام ملايين السوريين من أجل منح المجرمين فرصة ثانية دون حساب.
إن ظهور داعمي النظام السابق في الإعلام، دون أي مساءلة، هو طعنة في قلب الضحايا، واستمرار في تبرير الاستبداد.
يجب أن يكون الإعلام صوتاً للعدالة، لا منصة لتبرئة القتلة. فالعدالة وحدها هي التي تحفظ السلم الأهلي، وتمنع وقوع المأساة مجدداً.