fbpx

قسد على خطى مصير الأسد

0 4٬038

عندما أرادت الولايات المتحدة شريكاً محلياً مؤقتاً على الأرض لمساعدتها في الحرب على داعش، لم تكن خياراتها واسعة لإيجاد هذا الشريك في كل من سوريا والعراق. ففي العراق، فرض الحشد الشيعي نفسه كشريك رئيسي، إضافةً لجهود الجيش العراقي الذي تُسيطر عليه وتقوده ميليشيات وشخصيات من الحكومة العراقية التي تدور في فلك الحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى الاستعانة ببشمركة إقليم كردستان.

أما في سوريا، فقد تجاوزت الولايات المتحدة اختيار قوات الثورة السورية التي حاربت تنظيم الدولة قبلها بعامين كاملين، وتمكنت من طرده من كثير من مناطقها، حيث اكتوت هي وحاضنتها الشعبية بناره، ووجدت فيه كل الخطر عليها وعلى مشروعها الثوري المحصور في إسقاط نظام الأسد وتحقيق أهداف الثورة السورية. كما رفضت واشنطن كل عروض المساعدة التي قدمها حليفها التركي، باعتباره يملك قوة عسكرية نظامية ضخمة وغير مشكوك بحرفيتها وانضباطها وأهدافها، لأنه تعاون معها مراراً باعتباره حليفاً رئيسياً في حلف الناتو ويملك ثاني أكبر جيش فيه.

ولأن ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي) هي الأكثر تنظيماً وعصبية، وتربطها علاقات قوية مع ميليشيات نظام الأسد والحرس الثوري الإيراني، بحيث يكون الشركاء في سوريا والعراق متجانسين، لأن التحالف الدولي هو نفسه الذي يخوض المعركة في كلا البلدين، ولا بد من وجود الانسجام أو التوافق بين الشركاء على الأرض.

ولم تنظر الولايات المتحدة إلى العلاقة مع شريكها في سوريا، والذي أدخلت عليه عمليات تجميل وتزييف بالحفاظ على بنيته الأساسية الصلبة القنديلية، وأضافت له بعضاً من عرب المنطقة والإثنيات الأخرى، وأسمته “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وتجاهلت تصنيفها للحزب الأصل بأنه منظمة إرهابية، وتغاضت عن تقاطر كوادره إلى سوريا، وهو ديدن الولايات المتحدة عندما تضطر للمفاضلة بين المصالح والمبادئ.

لم تنظر الولايات المتحدة لقسد إلا كشريك مرحلي ولغايات عسكرية صرفة تتمثل بهزيمة تنظيم الدولة، لكنها كانت مضطرة بالطبع للموافقة بل دعمه في الإمساك بالأرض والسكان، واعتباره سلطة أمر واقع إدارية وعسكرية وأمنية، وساهمت بتأمين موارد مالية هامة له من الثروات السورية في المنطقة. وكانت إدارة السجون والمخيمات، التي تضم عشرات الآلاف من التنظيم وعوائلهم، من أهم تلك المهام الموكلة له، ولكن دون الاعتراف أو دعم أيّ من مطالبه السياسية التي تكشّفت لاحقاً.

كانت الولايات المتحدة وتحالفها الدولي على وشك إنهاء مهمة التحالف الدولي بعد إنجازها، وهي التي أنشئ من أجلها عند الإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة في سوريا والعراق. وقد حاول ترامب في فترة رئاسته الأولى فعل ذلك، لكن خشية البنتاغون من الانسحاب كانت بجواب وحيد للسؤال البديهي: من سيملأ الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي؟ وكان طبيعياً القول إن الجيش الروسي وميليشيات تتبع للحرس الثوري مع قوات نظام الأسد هي من سيفعل ذلك، وبالتالي هذا سيمهد إلى إعلان انتصار نظام الأسد وداعميه في الحرب السورية إذا ما تسنى لهم السيطرة على تلك المنطقة الشاسعة والغنية بثرواتها. لذلك آثر الأمريكيون البقاء في سوريا إلى حين بروز مستجدات أو ظروف جديدة تسمح لهم بالخروج من مستنقع الرمال والدم.

بعد تحرير سوريا من نظام الأسد والخروج الكامل للميليشيات الإيرانية ونفوذها، وانكسار المشروع الروسي في سوريا بل هزيمته، زالت كل أسباب واشنطن الرئيسية للتمسك ببقاء قواتها في سوريا تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وتوفر شركاء محليون وحلفاء إقليميون لها لأداء تلك المهمة، وأعني هنا الشريك السوري المتمثل بالسلطة السورية الجديدة والدولة التركية. وقد أعربت أنقرة أكثر من مرة عن استعدادها للقيام بهذه المهمة بالتعاون مع الحكومة السورية الجديدة، وبالتالي سحب تلك الذريعة من ميليشيات قسد وإعفاء الولايات المتحدة من الأعباء، مع إبقاء التعاون بالتأكيد في مجال التنسيق الاستخباري للاستفادة من التفوق التكنولوجي واللوجستي الأمريكي في هذا المجال.

بل إن أنقرة، وبعد نجاحها الكبير في الإقليم بانتصار حلفائها السوريين وكسر الهلال الشيعي في وسط عقده السورية، طرحت مشروعاً أكثر نضوجاً على الإدارة الأمريكية لنيل دعمها لفكرة إنشاء منظومة أمن إقليمية رباعية تضم كلاً من تركيا وسوريا والعراق والأردن، تكون مهمتها التعاون لمنع عودة الميليشيات الإيرانية إلى سوريا (وبالطبع إضافة العراق صورية في ظل الوضع العراقي الحالي). وبذلك ستكون كلاً من أنقرة ودمشق وعمان معنية بالحرب على داعش وغيرها من الميليشيات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.

تبدلت موازين القوى والحسابات الاستراتيجية لقسد بسرعة مذهلة، ووجدت أنها فقدت الكثير من أوراقها، ولم يعد اللعب على التناقضات المصلحية بين القوى الإقليمية والدولية ممكناً. وكانت خسارة محور النظام وروسيا وإيران كارثياً لها، وبات أعداؤها من الأتراك والسوريون المنتصرون في دمشق هم الرابح الأكبر، إضافةً إلى ضعف أو تلاشي حظوتها ومكانتها عند الأمريكان. وتشير خريطة المصالح المقبلة وضروراتها إلى التعاون الوثيق بين واشنطن وأنقرة ودمشق.

كانت خطوات قسد غير متزنة من هول الصدمة التي واجهتها يوم 8 كانون الأول 2024، وبدأت تبدي عدم اعترافها بالإدارة المركزية في سوريا وتصفها بأبشع الأوصاف، وصولاً إلى الطلب من إسرائيل وفرنسا التدخل في سوريا لصالحها، مع استمرار استجداء الولايات المتحدة في عدم تركها فريسة سهلة المنال لأعدائها.

كانت مواقف الإدارة الجديدة واضحة وحاسمة وحازمة في توضيح سياساتها الداخلية في المرحلة الانتقالية (التأسيسية)، من حيث الإعلان في مؤتمر النصر عن حل كل الميليشيات العسكرية والأحزاب والتجمعات السياسية، وانخراط من تنطبق عليه معايير الانضمام لجيش سوريا الجديد كأفراد وليس ككتل عسكرية أو أمنية، وبالتالي عدم الاعتراف بما يسمى “مجلس سوريا الديمقراطي” (مسد)، واستبعاده من أي عملية سياسية بشكله الحالي، واعتبار أن للكرد والعرب وغيرهم من سكان شرق الفرات ممثلين، وبالتالي سحب أي شرعية لما تدعيه قسد ومسد من تمثيل على الأرض. وهي بنظر دمشق تشكيلات تم حلها، وبالتالي لا اعتراف بها.

سعى الأمريكان لعقد لقاء بين الرئيس الشرعي ومظلوم عبدي، طرح فيه الرئيس شروطه الرئيسية غير القابلة للتفاوض، مع الاهتمام بإعطاء كامل حقوق المواطنة للكرد السوريين كما غيرهم من السوريين الآخرين.

كانت العقدة الجوهرية عند دمشق هي أن تحل قسد نفسها وتسلم سلاحها وإدارتها للحكومة المركزية قبل إجراء المفاوضات، فيما تصر قسد على التفاوض بشكلها الحالي والإصرار على إسباغ الشرعية عليها من الحكومة السورية وتركها في مناطق شرق الفرات بنفس الهيكلية الموجودة الآن.

لا تكف قسد عن التذاكي وإطلاق التصريحات الضبابية، مثل رفع علم سوريا الجديد عند الأحاديث التلفزيونية المصورة لمسؤوليها، وإرسال برقية تهنئة متأخرة جداً للرئيس الشرعي، وإطلاق الكلام المعسول عن الرغبة في الانضمام لجيش سوريا الجديد والاعتراف بوحدة الأراضي السورية والاستعداد للمساهمة في بناء المستقبل السوري، مع استمرار ثباتها على مواقفها الحقيقية. وأظن أنها لا تختلف عن رئيس النظام المخلوع الذي انهار وهو متمسك بشروطه ورؤيته.

تنتظر القيادة السورية وحليفتها التركية قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من سوريا ورفع الغطاء عن قسد، وهو متوقع بنسبة 80%، وإعطاء الرئيس الأمريكي الوقت لاتخاذ قراره وعدم المخاطرة باستخدام القوة العسكرية ضد المتمردين وإغضاب الرئيس الأمريكي (ولا نعلم ما هي التطمينات المرسلة للرئيس التركي بحدوث ذلك الانسحاب). لكن إذا كان قرار الرئيس الأمريكي ليس في صالح القيادة السورية والتركية، فإنه بالتأكيد توجد خطة B وضعها البلدان للتعامل مع الموقف.

لم تُجدِ نفعاً الفذلكات السياسية لاجتماع قسد ومسد والإدارة الذاتية وإصدارها بيانات ملغومة، إذ سرعان ما ردت عليها القيادة السورية بعقد جلسات تشاورية لمؤتمر الحوار الوطني لمحافظتي الحسكة والرقة في دمشق، وعدم الاعتراف بأي تمثيل أو شرعية لمحازيب قسد ومسد، وعدم عقد أي جلسة في أراضٍ سورية تحتلها ميليشيات عسكرية خارجة على القانون.

لا أتوقع أي تقدم في أي مفاوضات تجري بين دمشق وقسد (هذا إن كان هناك مفاوضات تجري)، ومع كل الأسف لن ترضخ قيادات قنديل لحقن الدماء السورية، وبالتالي لن يكون الحل إلا عسكرياً كما حصل مع النظام البائد بعد استنزاف كل الفرص للحلول السلمية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني