fbpx

قراءة في رواية الحَدَقي

0 316
  • الكاتب: أحمد فال ولد الدين
  • الناشر: مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس
  • ط1، ورقية، 2018م

أحمد فال ولد الدين؛ روائي موريتاني هذه أول رواية أقرؤها له. وهي رواية متميزة جداً.

الحدقي؛ رواية تعتمد مسار سرد بطلها بلغة المتكلم، وهي تكتب في فصول متتابعة على منحيين متوازيين، الأول هو العصر الحالي حيث بطل الرواية محمد القروي، المختص باللغة العربية، الذي التحق للعمل بقناة تلفزيونية عربية في الدوحة العاصمة القطرية، يتحدث في هذا المسار عن كل ما يحصل معه.

أما المسار الآخر فهو الكتابة عن محمد بن بحر الجاحظ، عصره وحياته بلغة المتكلم على لسان الجاحظ نفسه، على أنه نص يعاد تحويله إلى سيناريو مسلسل تلفزيوني، يغطي حياة المفكر العربي، في عصره ومكانه وزمانه.

في القسم المتعلق بالتحدث عن حياة الشاب الموريتاني المتعلم والمختص باللغة العربية، المنحدر من القبائل الموريتانية العربية الأصيلة التي كانت قد قدمت إلى بلاد شنقيط منذ أيام الفتح الإسلامي الأولى، محمد يلتحق بقناة العروبة القطرية في العاصمة الدوحة، ويعيّن فيها مدققاً لغوياً، نطّلع على واقع القناة، خلية نحل دائمة العمل كل الوقت بين تحرير خبر وإذاعة نشرة وتجهيزات التحرير وكل التفاصيل التي تسبق الحضور على الهواء، القناة تخاطب الملايين من العرب، الذين وجدوا بها وأمثالها نافذة تطل على العالم وعلى بلدانهم أيضاً. كان محمد المرجع الذي لا يمر نص دون أن يصححه ويدققه لغوياً، كان مريحاً في التعامل الإنساني، لكنه شديداً في حماية اللغة العربية وألا يطالها تشويه أو تحريف أو صبغة عامية، كان من سدنة معبد حماية اللغة العربية، التي يعتبرها من أقوى وأعمق اللغات العالمية، والتي عمرها آلاف السنين وتزداد مع الوقت تألقاً، كان محمد متعباً لزملائه في المجال المهني، لكنهم استطاعوا جميعاً أن يرتقوا بمستوى أداء القناة إلى مستوى عالمي ومحترم. في العمل هناك صديق لمحمد هو مازن الفلسطيني كانا يتبادلان التفاعل في أوقات الراحة والفراغ، وهناك أيضاً من كل الجنسيات العربية، من الرجال والنساء، كلهم متاحين لأجل تفاعلات إنسانية متنوعة. لفت نظر محمد وجود فتاة بعينها، وجدها قليلة التفاعل مع الآخرين، سأل عنها، علم أنها فتاة سعودية تعيش مع والدها في الدوحة وتعمل معهم بالقناة، تقرّب منها، علم أن اسمها حصة وأنها تعمل في أمن المعلومات في القناة، تتابعت بينهم اللقاءات، حصلت بينما الألفة والتوادد، ومع الوقت صار يلتقي محمد وحصة في أغلب اوقات فراغهم في القناة، سرعان ما عبر محمد عن عواطفه تجاه حصة وهي عبرت عن ذات المشاعر ولو بعد حين، لكنهما أدركا أن الطريق إلى الزواج بينهما مليء بالصعوبات، هو ابن أرومة قبائلية في بلاده لا يقبل الأهل إلا بالتزاوج فيما بينهم، وهي كذلك البنت القبائلية التي لن يقبل والدها بتزويجها من غريب لا يعرف أصله. تعاهد محمد وحصة على حماية حبهما والمحاولة الدائمة لإقناع كل منهما لأهله وذويه بهذا الزواج، الأهم فيه هو حبهما لبعضهما، وإحساسهما أن حياتهما الأفضل والأجمل تتم عبر زواجهما. تواصل محمد مع والدته التي استنكرت ذلك بداية ثم رضخت لإرادة ابنها وأقنعت والده أيضاً. أما حصة فلم يستجب والدها لطلبها وأعلن رفضه النهائي، كان لإصرار حصة دور بقبول زيارة محمد وبعض أصدقائه ليطلبها من والدها زوجة له، حسب العرف الاجتماعي، بعد جلسة لم تطل، سأل الوالد محمد عن بعض شؤونه، ثم انتهت الجلسة إلى رفض الوالد طلب محمد للخطبة، محمد لم يستسلم سأل وحاجج والدها عن السبب، دافع عن أصله القبائلي وأجداده العلماء، لكن ذلك لم ينفع مع والدها، اصطدما وارتفعت أصواتهما وانسحب محمد من بيت والد حصة منكسراً ومتوتراً، منهزماً، متألماً. حاول محمد التواصل مع حصة عبر الهاتف لكنها لم تستجيب، ولم تعد تحضر للقناة. حصة ذهلت مما حصل بين والدها وحبيبها، ضاعت بين عواطفها وبين التزامها بالعرف الاجتماعي والخروج عن رأي أهلها. محمد عاش حالة إحباط شديدة، حصة لم تعد تستجب لاتصاله، لا يراها، ولم يسمع رأيها، أهمل عمله، وأصبح في حالة من التأزم النفسي، ابتعد عن العمل وأجواء القناة، التي حدث بها متغير سيئ فقد تم الإطاحة بمديرها المتميز والمتنور، وجلس نائبه في مكانه، بما عرف عنه من انتهازية، وانتصار للهجات المحلية، وتخفيف مادة القناة وضعف محتواها، فهو يبحث عن الانتشار ولو بمواد ضعيفة وغير مفيدة، اصطدم مع محمد، وعمل على طرده من القناة، مستفيداً من شكوى والد حصة بأنه يتحرش بابنته، وفعلاً طرد محمد من العمل، لم يكن بعد خسارة محمد لحصة، وعدم دفاعها عن حبهما، أي شيء يخاف أن يخسره، بلاده وأهله أولى به. منع من السفر حتى يستوفي قرضاً كان قد أخذه من أحد البنوك، حاولت والدته أن تبيع بعض جمالها لتدفع له، لكنه رفض، كما رفض مساعدة الأصدقاء وبعض وجوه الجالية الموريتانية، لم يقبل أن يتصدق عليه أحد، استمر بالعيش مشرداً في سيارته، يكمل كتابه عن الجاحظ وينتظر حلاً ما قد يأتي. في هذه الأثناء كانت حصة قد استقرت على الانصياع لقرار والدها بالتخلي عن محمد، والاستكانة لقرار العرف والعادة، وعاشت جحيماً نفسياً. أما محمد فقد كان في أوقات فراغه يستحضر الترجمات الفورية التي تحصل في موقع غوغل إلى اللغة العربية، وكان يصحح لهم الكثير من الترجمات، وحصل أن أرسل له طلب من غوغل أن يلتحق بفريقها مدققاً ترجمتها للّغة العربية، وافق، دفعت غوغل المبلغ المتبقي عليه من القرض وغادر إلى بلد أوربي ليتابع عمله، مبتدءاً حياة جديدة.

أما المسار الثاني في الرواية، وهو الأصل، يتحدث عن الجاحظ وحياته. ولد الجاحظ في البصرة في أواسط القرن الهجري الثاني، أيام عز الخلافة العباسية، كان يتيم الأب، يعيش في كنف والدته، تدفعه للكتاب لينهل من العلم، كان الجاحظ مغرماً بالتعلم وحب الاطلاع، حفظ الشعر، قرأ كل كتاب وصل إلى يده، وعندما دخل في سن النضج صحبته أمه إلى مجلس الخليل بن أحمد الفراهيدي، وطلبت منه أن يقبله طالب علم في حلقته، وبعد اختبارات لعلمه ونباهته وإدراكه، قبله الخليل، وألحقه بمعلم إحدى حلقاته “النظّام”، التحق الجاحظ بالحلقة العلمية مع النظام وكان بصحبته الكثير من الشباب الذين سيكونون مثل الجاحظ من العلماء العظماء الذين سيكون لهم فضلهم في زمانهم وفي كل زمان. اطلع الجاحظ على المذاهب الفكرية التي بدأت في ذلك الزمان تتوالد وتنمو ويظهر تأثيرها العميق في الفكر العربي والإسلامي. تعرف على مذهب المعتزلة أهل العدل والتوحيد، المدافعين عن التفكير العقلي في الإسلام، المنتصرين لحرية الإنسان وخياراته الحياتية كأساس للحساب والعقاب والثواب بعد ذلك عند الله في الآخرة. اطلع على مذهب أهل الحديث النبوي الذين اعتنوا بجمع الحديث تصنيفه والتأكد من الصحيحة والمكذوبة، كما أنه اطلع على الحشوية كمذهب فكري يتعامل مع القرآن والإسلام بطريقة الاتباع دون أي محاكمة، أو الفهم أو البحث بالعلل والأسباب والمقاصد التي تكمن في الإسلام المتمثل بقرآنه وحديثه وسيرة الرسول ص. لم يترك مذهباً إلا وأصبح به عليماً، اكتشف أنه أقرب إلى المعتزلة أهل العدل والتوحيد، واعتبر نفسه واحداً منهم، ينافح ويجادل وينتصر لمذهبه، كان زمانه زمان تفتح كل الأفكار وجو التفاعل والتخصيب بين الإسلام وكل الأفكار التي أتت من الشرق الفارسي أو الهندي بما فيه من مانوية وزرادشتية ونزعة صوفية، والغرب الرومي وما فيه من تعدد آلهة اليونان وفلسفات سقراط وأرسطو وغيرهم، كما تم استعادة المسيحية كدين ورؤى لها من يدافع عنها، سواء التي كانت على أصولها الشرقية عن تنزيه الإله بألوهية عيسى كلمة الله، أو تطعمت بالفكر الأوربي وآمنت بالله المجسد مادة وروحاً في عيسى عليه السلام. نعم كان الجاحظ ابن عصره، لا عمل له إلا التعلم والتعليم والمجادلة والتبحر في العلوم كلها، مع إدراكه أنه كلما غاص في بحر العلم أكثر، اكتشف أنه يحتاج للتعلم أكثر. كان مهملاً لأسباب العيش يأكل مما يتاح له في حلقته العلمية، على قلته وندرته، أو من بعض الدعوات التي يقوم بها أغنياء البصرة لأهل العلم لمناظرة أو سجال، وتكون ولائم يقتات عليها الجاحظ لأيام. لم يكن الجاحظ خارج حاجة نفسه للحب والوصال الجسدي مع الأنثى، لكنه كان منهمكاً في طلب العلم إلى أن لمح ابنة أستاذه الخليل بن أحمد “تماضر” وهي تخرج حاسرة الرأس باكية إلى نعش والدها المتوفى. منذ ذلك الوقت لم تعد تخرج من نفسه، تحدث بالأمر مع أستاذه النظام ليخطبها له، كما خطبها أيضاً رفيقه في العلم أحمد بن المديني، وقررت الفتاة أن تلتقي بالاثنين لتقرر من تختار منهما. كان الجاحظ ذي خلقة غير جاذبة لا يمتلك من ملكات الجسد أي حظ من جمال، لكنه كان متكلماً متمكناً، سرعان ما يغطي منطقه وعلمه وفطنته على دمامة خلقه.  كان من سوء حظ الجاحظ أنه لم يتمكن من الذهاب إلى بيت أستاذه الخليل للقاء تماضر في الوقت المحدد لكونه تعثر في الطريق وخربت حلته ومظهره، أجلها ليوم آخر، وعندما ذهب إلى منزلها استقبلته زوجة أستاذه وأخبرته أن تماضر قد اختارت صديقه أحمد المديني وأنه هو من تخلف عن موعد لقاء الخطبة. الموضوع انتهى ولا مجال للأعذار. خرج الجاحظ من بيت أستاذه محبطاً، في خياله غصة على تماضر التي أحب وأنه خسرها. كان لعدم زواج الجاحظ من تماضر ابنة أستاذه الأثر الأكبر عليه فقد، أصبح على قناعة بأنه بحاجة لجارية، تسري عنه همومه، وتخدمه وتلبي رغباته الجسدية، وأن وجد منها ما يزعجه باعها واقتنى غيرها. لكن أين للجاحظ الفقير المغرم بمجالس العلم والكتب والمناظرة هذه الإمكانية لشراء جارية والتسري بها، وهو يبات أحياناً أياماً شبه جائع. لكن الحال سيتغير عندما تصل بعض أوراقه التي بدأ يكتبها وتنتشر في البصرة، تصل أوراقه إلى أمير البصرة ويستدعيه. خاف الجاحظ على نفسه رغم أنه لم يقترب أبداً من مجالس الحكام فقربهم قد يغني أحياناً، لكنه في أغلب الأحيان يؤدي للسجن أو القتل. ما زال يذكر في طفولته كيف عاقب الخليفة المهدي الشاعر بشار بن برد بالقتل متهماً إياه بأنه شاعر فاسق ماجن. لكن لابد من تلبية الدعوة مرغماً، ذهب لحضرة الأمير الذي كان قد قرأ بعض كتاباته وأعجب بها، انشرح الجاحظ وانطلق وتألق في مجلس الأمير الذي أعجب به وأعطاه المال الذي اعتبره الجاحظ ثروة. كان للمال هذا دور في تغيير حياة الجاحظ بالكامل، غادر الكوخ الصغير الذي كان يسكنه بجوار أستاذه النظام، اشترى الملابس اللائقة واستأجر بيتاً، وبدأ يفكر بتنظيم حياته وذلك يتطلب شراء جارية، تكمل عليه مسرات حياته ليتفرغ للتعلم والعلم والقراءة والمناظرة، وبالفعل كان لأحد تلامذته الذي يملك دارا للمسرّات، حيث لديه الجواري الجميلات المدربات على الغناء والعزف، يحضر إلى داره من يرغب في السماع والصحبة والمنادمة، عرض صديق الجاحظ عليه أن يزوره في داره ويختار جارية له يبتاعها. وبالفعل ذهب الجاحظ وتعرف هناك على الجارية “علية” الفائقة الجمال، والتي رأت به ما جذبها له رغم دمامة خلقه.

علية جارية كان قد اشتراها صديقة من نخاس أحضرها من بغداد، لعليه حكاية طويلة مؤلمة، تتضح تفاصيلها رويداً رويداً، هي ابنة أحد أمراء الفرنجة في الأندلس، اسمها الحقيقي عريب، خطفها القراصنة وهي طفلة وباعوها في سوق النخاسة، اشتراها هارون الرشيد قبل أن يكون خليفة، وجعلها تعيش بين أولاده المأمون والأمين، أحبها المأمون وحاول أن يتقرب منها، لكنها رفضته لأنها كانت قد أحبت شاباً آخر من محيط الأمير غيره، حاول كثيراً معها، وعاقبها في بعض المرات، لكنها لم تتقبل غزله لها وقربه منها، قرر أن يبيعها خارج بغداد وحرم عليها العودة إليها طالما هو فيها. وبالفعل وصلت إلى البصرة وهي هنا الآن في بيت صديق الجاحظ، طلب الجاحظ شراءها وهو لا يعرف عن ماضيها شيء، وهي تعلن أنها ابنة أحد تجار أصفهان وخطفت منذ زمن بعيد وبيعت في أسواق النخاسة. أصبحت حياة الجاحظ مع علية هانئة واستمر بالتردد على مجالس العلم والقراءة والتبحر والمساجلة، كتب عن الحيوان وطباعه كتاباً، وكتب عن البخلاء كتاباً، طارت شهرته إلى بغداد فاستدعاه الخليفة هارون الرشيد الذي كان قد أصبح خليفة. كانت بغداد عاصمة الدنيا في ذلك الوقت، عاصمة السياسة والثقافة والعلم والمعرفة والخير الكثير. أخبرت علية الجاحظ حكايتها مع أولاد هارون الرشيد المأمون والأمين، خاف على علية وعلى نفسه، لكنه قرر المغامرة والحضور إلى بغداد، ولكل حادث حديث. وصل الجاحظ إلى بغداد وأصبح واحداً من خاصة مجلس الخليفة.

لكن الخلافة لم تكن بخير، توفي هارون الرشيد وأصبح الأمين خليفة وأخيه المأمون ولياً للعهد كما كان قرر هارون الرشيد في حياته، لكن الأمين خلع أخيه ونصب ابنه الرضيع ولياً للعهد، ما جعل المأمون يجيش الجيوش من فارس حيث أهل أمه، ويستمر الصراع لسنوات، تكون الغلبة للمأمون، ويصبح الخليفة المسيطر، كان المأمون رجل علم ودراية، مؤمن بأن عليه أن ينقل علوم عصره إلى اللغة العربية، كان قد استدعى الجاحظ وغيره من علماء عصره ليقوموا بدورهم، وكان قريباً من فكر المعتزلة أهل العدل والتوحيد، قرّب الجاحظ إليه، والجاحظ ينتظر الفرصة ويستسمح منه وجود علية معه جاريته في بغداد وهو من كان أبعدها إلى البصرة، يعلم الخليفة المأمون بوجود علية في بغداد ويسأل الجاحظ ويخبره بأمرها كاملاً، فيعفو الخليفة عنها لأجل خاطر الجاحظ، وتستمر حياة الجاحظ رتيبة هانئة بين بيت تعمره علية ومسراتها، وخليفة عالم متبحر، وعمل دؤوب في دار الترجمة ومزيد من القراءة والاطلاع. لكن الحال لن يستمر هكذا، سيأتي يوم على الجاحظ يعود إلى بيته فلا يجد علية فيه، يفتقدها ويسأل عنها ولا يعلم أين هي، انقلبت حياته إلى جحيم، لم يكن يدرك كم كان يحب علية وكم كانت مهمة لحياته. بقي ينتظر ظهورها في بيته وحياته كما اختفت. استمر الحال هكذا حتى جاءه رسول أعطاه رسالة من علية أخبرته أن جواسيس والدها الأمير الفرنجي الأندلسي قد خطفوها، وأنها هي الآن بينهم، لا تفقه لغتهم وأخوها الاكبر يعاملها بقسوة، وهي شبه سجينة، وأنها تعاهده أنها ستهرب وتعود إليه، لأنها تحبه. كان الجاحظ متنازع المشاعر بين اعترافها بحبه وسروره لذلك، وبين إحساسه باليأس فأين بغداد من الأندلس، لقد يئس من عودتها. أصيب بحالة صحية وإغماء عاد للصحو وقد أصيب بالشلل النصفي، كان ذلك قاسياً عليه كثيراً، استمر خادمه على خدمته وجاءت ابنة أخته من البصرة لرعايته، كان كل الوقت يقرأ ويكتب كتابه الأخير البيان والتبيين، استمر بين كتبه، وسرعان ما أصبح له مجلس علم في بيته بجوار سرير المرض، لساعات كل يوم، كبر الجاحظ وعاصر الكثير من الخلفاء والأحداث، تنتهي الرواية والجاحظ على سرير مرضه بين كتبه كأنه في بحر من العلوم. وبين اليقظة والحلم يرى علية وقد عادت إليه.

في تحليل الرواية نقول:

إن القسم المتعلق بالراوي محمد القروي وقصته مع القناة وكتابته قصة الجاحظ هي أكثر من كونها مدخل على قصة الجاحظ، هي تماس مع العصر، دون الخوض في الجانب العام الذي تمر به بلادنا العربية بربيعها الرائع وبحث شعوبها عن الحرية والعدالة والحقوق، ووأد هذا الربيع واستعادة الكرّة تلو الكرة لربيع مصّر أن يزهر ويثمر حقوقاً كاملة لشعوب تستحق ذلك. الرواية تطل أيضاً على مشكلة التخلف المجتمعي في موضوع الزواج والشروط الاجتماعية الخاطئة والظالمة، وكيف كان ضحيتها محمد وحصة رغم كونهما يمتلكان مؤهلات علمية وحب وجدارة للزواج وكيف انتصر التخلف وحولت حياتهم إلى جحيم. في الرواية قُرع الجرس، إلى متى سنبقى ضحية التخلف والقمع والاستبداد العائلي والسياسي؟.

أما ما يتعلق بحياة الجاحظ، فنحن نطل عبر نافذة على عصر من أزهى العصور في تاريخنا العربي، عبر أحد العلماء والمفكرين الذائع الصيت الجاحظ، نطل على المجتمع بتفاصيل الحياة، العبودية وعصر الجواري الخلفاء العلماء والصراع على السلطة، الانفتاح على العلوم في كل العالم، بداية عصر النهضة العلمية العربية التي استمرت لقرون، إلى أن جاء الغرب الأوربي وحمل الراية مجدداً.

الموضوعات الفكرية التي ما زالت حيّة حتى الآن، وما زال السجال فيها وحولها، خاصة الدين الإسلامي وكيف نتعامل معه وجوداً وتفاعلاً.

الرواية معاصرة في هواجسها، أدواتها تاريخ مجسد بعصر الجاحظ، والعبرة علينا جميعا كقراء للرواية أن نطّلع عليها عبر رواية طويلة تتجاوز الخمسمائة من الصفحات.

شكراً أحمد فال ولد الدين.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني