fbpx

في الهوى سَوَا

0 152

خبطة على السقف فوق رأسي وقرقعة حديد أيقظتاني.. قطعتا جلستنا.. فركت عينيّ.. نهضت مسرعاً لأستطلع السبب.. صعدت إلى السطح.. اقتلعت الريح صحن الديجتال الذي لم يعد يُستَخْدَكم بعد أن أصبحت زيارة الكهرباء لنا غبّـاً.

نزلتُ مسرعاً.. تكوّمتُ في فراشي أبحث عن بعض بقايا الدفء الذي ما زال فيه، وأستذكر ليلة انفرجت ذراعاها وامتدت إلى أقاصي الجهات، وألقت على الكون وشاحاً أسود، فخيّم السكون رهيفاً، وران الصمت ثقيلاً على النفوس، وجثمت طيور الظلمة على أفنان حلكة دامسة، فلا تبصر العيون شيئاً عبر محيط الظلام، وسافر القمر في إجازة مخلّفاً وراءه ريحاً تجوب زوايا الأمكنة، تكنس الأتربة، وتعبث بأوراق الشجر المعبثرة، وقبع الناس في بيوتهم آملين أن تمرّ غوائل ليلتهم على خير.

تكوّرت تحت أغطية سميكة اتقاء برد يلفح زمهريره الوجوه والأيدي فيجمّدها. حضنت صدري بيدين مرتجفتين واضعاً كفي تحت الإبطين أدفئهما، وأغمضت عينيّ وأنفاسي تتسرب نغمات شهيقها والزفير إلى أذني، ثم بدأت تتلاشى بعد أن انتشر دفء هلامي في أعضائي؛ امتدت أنامل النعاس ثقيلة وأطبقت قبضتها على الجفون.

طوّفت في الأنحاء، هنا بوادٍ قاحلة، وخيام مشرّعة للريح والمطر، ودشم تعج بآلة الموت والدمار، وهناك سهوب من الثلج تمتد على مرمى البصر، تعلو في وسطها أقماع مخروطية أخفت تحتها أرواحاً تئن وأجساماً ترتجف. مشيت نحوها، اقتربت منها، توقفت قرب واحد منها، سمعت لغطاً، ظننته يطلب مساعدة، صرخت يا ربّ، تردد صدى من الداخل: مَنْ هناك؟ اقتربت أكثر، هس الثلج تحت قدميّ، مَنْ هناك؟ الصوت ليس غريباً على مسمعي، وعلا، مَنْ هناك؟ وراحت طبقة الثلج تتشقّق وهو ينكزها من الداخل حتى أسفرت سدفة باب الخيمة عن رأس يلفها غطاء لا يبين منها إلّا عينان وأنف، إنّه أبو سعيد بشحمه ولحمه. قالها محتداً: مَنْ أنت؟ من أين جئت في هذه العاصفة؟

– من جنّة صارت قاعاً صفصفاً يا أبا سعيد.

– أنت !!.. أبا الخير!!.. أهلاً برفيق السنوات العجاف.

– والأيام الموحلة، والخيام، ولباس الخاكي.

– هيّا ادخل

تطامنت هامتي، وعبرت إلى الداخل.. ضممته…

– كم أشتاق إليك!.. قالها وهو يشدّني إلى صدره.

– لا تسلني عن شوقي.. سألت عنك كثيرين.. لم يخبرني أحد.

– كيف وصلت إلى هنا؟

– محض مصادفة

– تفضّل.. اجلس…

جلست فوق فراشه، وإلى جانبه ثلاثة أطفال يلتفون في فرشاتهم؛ لا يبين منهم إلا بريق عيونهم، وأخرى مازال تنفسها ظاهراً تحت الأغطية. سألته من هؤلاء؟

– أحفادي، هم ما تبقى من الأسرة…

– وتلك؟

– أختك أم سعيد، سهرت عليهم طوال الليل.

حاول إيقاظها، أمسكتُ يده، دعها ترتاح، وسألني: كيف حالكم؟

– كحالكم، إلا أننا لسنا في خيام المساعدات.

– ماذا تقول ؟

– ما سمعته، عدنا إلى أيام زمااان

– أيعقل؟

– نعم، عدنا إلى عهد البداوة…

– كيف؟ لأي حدّ وصلت أموركم؟

– أتذكر قول حماة لكنتها “يابنتي، كلي حتى تشبعي، رغيف مقسوم لا تأكلي، ورغيف سليم لا تقسمي”؟

– ما فهمتُ؟

– كلّ شيء بقدر.. الجوع ينذر…

– ماذا؟

– فقدان المواد الأساسية للعيش والغلاء الفاحش …

– يعني.. أنتم أصبحتم مثلنا؟!

– نعم، وبدون بطاقة ممّا تحملون

– ما أصعب ما أسمع!.. أحزنتني…، والسهرات العامرة؟

– للذين تعرفهم…

شيء ما أزّ.. ارتطم.. وعلا صوت انفجار…          

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني