fbpx

في المشهد السياسي السوري الراهن، وأسئلته الجوهرية.. في العلاقة الإشكالية بين إعادة التأهيل والإصلاح

0 189

الجزء الأول:
إعادة التأهيل، بالمعنى الحرفي للمفهوم، قد تُشير إلى عملية إخضاع أحد أعضاء الجسم المعطوب لعلاج فيزيائي، يعمل على استعادة أدواره الوظيفية، في إطار آليات أنظمة الجسم، وبالتكامل مع أعضائه الأخرى؛ وقد يتوسع المفهوم قليلاً، عندما يرتبط بإعادة تأهيل مجرم سابق أنهى عقوبته القانونية، ويُراد له أن يعود إلى نمط حياته الطبيعي بين أفراد اسرته، ودوره الاجتماعي.
من الطبيعي أن تتوسع معاني المصطلح، وتأخذ أبعاداً أشمل، عندما يقصد به توصيف مجموعة إجراءات ترتبط بإعادة تأهيل سلطة سياسية، تعرضت لحالة تفشيل بنيوية، في سياق حرب طويلة، تصارعت فيها أذرع ميليشياوية طائفية، جعلتها في حالة إعاقة، تمنع قيام مؤسسات نظامها بدورها الوظيفي، الاجتماعي، أو السياسي أو الحكومي، السلطوي، وأصبح من الضروري العمل على إعادة تأهيل مؤسساتها، بما يُعيد تمكينها من القيام بوظائفها الطبقية الوطنية، وفي إطار شبكة مصالح وسياسات قوى النظام العالمي، إقليمياً وعالمياً.
بداية، من الجدير بالملاحظة أن معاناة ونتائج الصراعات التي تنتج، وتواكب، سيرورة إعادة التأهيل تصبح اكثر قساوة، عندما تتزامن مع نتائج سياسات مشروع الخصخصة، على الشعوب، ومؤسسات الدولة الاجتماعية، على حد سواء؛ التي تَتخذ سلطات النظام الحاكم إجراءاتها الاقتصادية القاسية في سياق اندماجها الكامل مع آليات وشباك نهب مؤسسات العولمة الإمبريالية، وخضوعها لإملاءاتها ونصائحها، متخلية بطريقة مؤلمة ومهينة، عن دور الدولة الاجتماعي، الذي يشكل صمام أمان في بلدان هشة كسوريا، لم تصل إلى حالة استقرار سياسي، مُقَونَن.[1].
قد نتصور عمق معاناة السوريين، إذا ادركنا ما أصاب وسائل وآليات حماية المستهلك الحقيقية من تهميش وإقصاء (رغم تعدد اسماء الوزارات التي تحمل الاسم، وتنوع يافطات جمعيات العمل الإنساني)، في ظل سياسات سلطوية، استعلائية، تصنعها، عن سابق إصرار وترصد، سياسات مبتكرة، تستغل ظروف الحرب، وتتغطى ببقايا شرعية منخورة، ويستقوي القائمون عليها بمظلة احتلالات متعددة الطبقات والجنسيات، تتجسد في سياسات خصخصة من طبيعة خاصة، تطال بنى الدولة الاجتماعية والسياسية، وتسعى لخلق تجانس فريد، يُعيد فرز ما تبقى من السوريين، الذين خرجوا في 2011 طلباً للإصلاح، وتوقاً للكرامة والحرية، وتطلعاً لبناء دولة القانون، إلى طبقتي الأسياد والعبيد؛ في إنكار مهين للثمن الباهظ الذي دفعه الجميع على مذبح التحرر من جميع أشكال الظلم، لحرب ظالمة، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، تجاوز عدد ضحاياها مئات الألوف، بين قتيل ومغيب وجريح ومعاق، وخلفت مدناً مدمرة بطريقة وحشية؛ ليصبح مفهوماً، بعد كل ما حدث، ألا يحظى كل هذا التدمير والتهجير الممنهج من ردود أفعال حقيقية رادعة، من قبل الولايات المتحدة ومجتمعها الدولي، أكثر ما يرفع العتب، ويضلل السوريين والرأي العام، ويؤكد التورط المباشر بالصراع، والمسؤولية الأولى عن مآلاته، وما نتج عن مسارات تحقيق أهدافه!.
قد تفسر تعقيدات هذا الظرف العام ارتباك الوعي السياسي المعارض عند محاولة التصدي لإشكالية العلاقة بين إعادة التأهيل والإصلاح، في محاولة نخبه قراءة المرحلة الحالية من الصراع، وما ينتج من استنتاجات غير موضوعية؛ وهو ما يجعل من ضرورة إزالة الإلتباس الذي تخلقه طبيعة تلك العلاقة الإشكالية، سواء في توافقها أم تعارضها، مهم جداً، في سياق الجهود الساعية لإعطاء توصيف موضوعي للوضع السياسي السوري الراهن، والوصول إلى استنتاجات واقعية، وعلى أمل استشراف المستقبل، بمآلات حركته الرئيسة.
من هنا تأتي أهمية حوار أفكار الفرضية التي يطرحها الرأي العام النخبوي، التي تقول: طالما تتساوى أهداف الإصلاح مع أهداف إعادة التأهيل، وطالما أن في إمكانية الإصلاح استحالة، يصبح من المنطقي الاستنتاج أن تحقيق أهداف مشروع إعادة التأهيل غير واقعي، وأن في إطلاق صيرورته عدم إمكانية!.[2].
شخصياً، أزعمُ ليس فقط بتناقض صيرورتي الإصلاح (التغيير) وإعادة التأهيل في الحالة السورية، بعكس ما يحاضرون، بل وأن إمكانية تحقق أهداف مشروع إعادة التأهيل قد تجاوزت الفرضيات، وأصبحت واقعاً، بعد حوالي ست سنوات من إطلاقها؛ بتقاطع في الجهد والمصالح بين اقوى دولتين إمبرياليتين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية؛ مباشرة بعد تدخل جيشيهما في الصراع المسلح، خلال 2014-2015.
من حق بعضهم أن يستغرب هذه الرؤية، لأنها تنسف مجمل أفكار منظومة الوعي السياسي الذي يعتقدون بموضوعتيها، وتكشف طبيعة الأوهام التي يبنون عليها تطلعاتهم السياسية!!
من هنا، أحاول في هذه الدراسة كشف عدم موضوعية الاستنتاج النخبوي القائل بعد إمكانية حصول إعادة التأهيل، التي أعتقد أن صيرورتها قد بدأت قبل سنوات، وأن تحقيق أهدافها شكل الدافع الأساسي لتدخل جيوش الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الآنف الذكر.


[1]– تحاول افتتاحية العدد 1046 لجريدة قاسيون، التي تفضل الصديق كريم شحود بنشرها على صفحته، القاء الضوء على بعض اوجه الكارثة في نهج الخصخصة السورية!!
إذا كانت عملية رفع الدعم قد بدأت بشكل تدريجي مع انطلاق ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» عام 2005، وكانت تصب بشكل مباشر في مزيد من التشوه في العلاقة بين الأجور والأرباح، وترجمت نفسها بارتفاع نسبة الفقر خلال 5 سنوات من 30% إلى 44% من السوريين، فإن ما يجري من عمليات رفع دعم هذه الأيام يهدف إلى ما هو أبعد من مجرد تعظيم النهب.
أي جهاز دولة كان، له من حيث من المبدأ وظيفتان أساسيتان: القمع والتنظيم، القمع بمعنى استخدام القوة، أو الإيحاء باستخدامها، للحفاظ على نمط توزيع ثروة محدد، والتنظيم بما يتضمنه من وظائف اجتماعية متنوعة لجهاز الدولة.
عملية رفع الدعم الجارية تستهدف إنهاء أي دور اجتماعي لجهاز الدولة، وتالياً تحويله إلى أداة قمع عارية بأيدي أصحاب النهب، وهذا لا يهدد المنظومة السياسية الاقتصادية الاجتماعية فحسب، بل ويهدد وجود جهاز الدولة نفسه، ووجود الدولة نفسها.

[2]– اتفقت جميع آراء الضيوف الكرام، الدكتور عبد الله تركماني والدكتور لؤي صافي والأستاذ موفق نيربية، المشاركين في الندوة الأولى التي أقامتها أمارجي – لجان الديمقراطية السورية بتاريخ 13 تشرين الثاني، بعد انعقاد مؤتمرها السنوي الثاني في 26 أيلول 2021، على عدم إمكانية تأهيل النظام، اعتقاداً منهم بعدم إمكانية إصلاحه، مفترضين ضمناً بتساوي صيرورتي الإصلاح وإعادة التأهيل!.
ما جاء في طرح الدكتور عبد الله تركماني هو التعبير الأكثر وضوحاً عن ربط إعادة التأهيل بالإصلاح، والقائل بعدم إمكانية إعادة التأهيل، بل وعبثية محاولات تحقيق صيرورته:
… لا يمكن تأهيل النظام! الحكي عن إمكانية تأهيل النظام، الذي ينتشر في هذه الفترة، خاصة بعد زيارة عبد الله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، وتصريحات وزير خارجية الجزائر.
أعتقد، كما يقول المثل يللي يَجرب المجرب، عقله مخرب!
طوال سنوات، منذ عام 2000، وقعت محطات عديدة لإمكانية التأهيل والإصلاح، وفتح أفق جديد لسوريا، والشعب السوري، ولكن، عملياً، بنية هذا النظام، لا تقبل، حتى الإصلاح التدرجي!
بمعنى، أن إعادة التأهيل غير ممكنة، بحسب اعتقادي.
يؤكد الدكتور لؤي صافي هذه الفكرة:
في تناوله للأبعاد الأربعة المرتبطة بإشكالية العلاقة بين التأهيل والتغيير، العنوان الرئيس للندوة، ذكر الدكتور العوامل الداخلية، المتعلقة بسلطة النظام والمعارضة، والخارجية، المرتبطة بالعامل الإقليمي والدولي، مبيناً عدم إمكانية إصلاح النظام، ليصل إلى استنتاج:
هناك جهد كبير من قبل روسيا، والمنظومة العربية الإقليمية، لتأهيل النظام. وأنا أعتقد أن هذا الجهد سيفشل.. سيفشل.

مما جاء في أطروحة الأستاذ موفق نيربيه:
نحن يجب أن نكون مع الإصلاح، خصوصاً عندما نرى أن الإصلاح يمكن أن يكون أكبر من ثورة – كما قال إلياس مرقص، خصوصاً – نحن يجب أن نكون مع الواقعية السياسية، وبعد أن يستطرد بإثبات عدم إمكانية إصلاح النظام، يقول: “فيما يخص إمكانية إعادة التأهيل النظام، لن يصعب أبداً إثبات أن هذا النظام عصي على إعادة التأهيل، ممتنع عن تأهيل سلوكه، عاجز عن تغيير سلوكه!”.
يبدو واضحاً الربط بين إعادة التأهيل، وتغيير السلوك الذي لن يأتي سوى في سياق الإصلاح.

إذا كانت دلائل عدم إمكانية إصلاح النظام، وأسبابها، التي لا تقتصر، كما أكدت دروس الحرب الأخيرة، على العامل الذاتي، ولا حتى على العامل الإقليمي، بل تشمل شبكة علاقات صموده العالمية في وجه حركة التغيير والإصلاح، غير قابلة للدحض، ولا يمكن إنكارها، أو تجاهل منطقها، كما يؤكد ضيوف الندوة، فكيف يمكن تجاهل أحداث واقعية، تدلل على إطلاق صيرورة إعادة التأهيل، بمعاركها وقواها وأهداف مشروعها، في أعقاب التدخل العسكري المباشر لجيوش الولايات المتحدة وروسيا، 2014-2015، واستمرارها حتى الآن، والوصول إلى الاستنتاج بتساوي، صيرورة المشروعين، الإصلاح، وإعادة التأهيل، من حيث السياق التاريخي، والأهداف، والقوى، وبالتالي، استحالة حدوث مشروع إعادة التأهيل؟!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني