فصل المقال فيما بين الفلسفة واللاهوت من انفصال
أولاً: مرجعية الفيلسوف هي الواقع والمعرفة البشرية بكل أنواعها، والمعرفة الفلسفية لا تدعي إطلاقاً أنها أجابت عن الأسئلة أجابت مطلقة، ومن ثم فإن تعدد إجابات الفلسفة عن مشكلة واحدة من مشكلاتها، دليل على حيوية شديدة لا تتوقف في الفهم والتفسير. أما مرجع اللاهوتي الأول هو النص ذو المصدر الإلهي. فالنص الإلهي قابل للتغير وللتأويل إذا كان غامضاً لكن يظل قولاً فصلاً. فإذا قلت للاهوتي اليهودي مثلاً: ما الحكمة من أن يعد يهوه أتباعه في أرض ليست أرضهم؟ سيأتيك الجواب هكذا شاء. أو سيفسر لك الحكمة من ذلك كما يتصورها عند يهوه. أو سيقول لك هكذا جاء في التوراة الكتاب المقدس. ويترتب على ذلك مسألة مازال اللاهوتي يعتقد أنه مصيب بها، فإن قلت للاهوتي أن الفلسفة هي تفكير عقلي وفق مناهج التفكير الإنساني، قال لك إن النص يدعو إلى استخدام العقل. ولكن في حين أن الفلسفة ترتاد عبر العقل جميع المشكلات الممكن تناولها فلسفياً، دون أي قيد إلا قيود المنطق والمنهج، فإن اللاهوتي يحول العقل إلى خادم لأفكاره المسبقة، وبالتالي تختلف وظيفته في اللاهوت عن وظيفته في الفلسفة.
ثانياً: تقوم الفلسفة بوظيفة ميتودولوجية عامة بالنسبة إلى جميع العلوم بل قل إنها منهج في التفكير، ولا يمكن للفهم وللتفسير أن يقوما دون منهج فنحن إذ نقول بنيوية أو ديالكتيك، أو فينومينولوجيا، أو تفكيك أو وضعية أو وجودية أو شخصانية الخ فنحن لا نتحدث عن منظومات فلسفية فحسب، بل عن طريقة في التفكير طريقة في التحليل، وهذه الطريقة ليست مجرد إقحام ذهني في فهم الواقعة بل هي ثمرة النظر في الواقع ذاته. من هنا جاءت فكرة وحدة المعرفة والوجود في الفلسفة فبنية اللغة وبنية العشيرة وبنية الظاهرة هي التي أنتجت التفكير البنيوي، وجعلت الفيلسوف يجرد هذه العلاقات إلى مستوى طريقة في التفكير، وقس على ذلك فينومينولوجيا هوسرل، وديالكتيك هيغل وماركس الخ.
ومن هذه الزاوية فإن دارسة المجتمع بنيوياً أو ديالكتيكياً أو فينومينولوجياً هي زوايا ميتودولوجية في النظر إلى المجتمع، في حين لا يقوم اللاهوت بوظيفة كهذه على الإطلاق. بل ويرفض اللاهوتي استخدام بعض المناهج كالمنهج التاريخي مثلاً.
فإذا أخضعت الظاهرة الدينية للمنهج التاريخي، فنحن هنا نرصد تطور هذه الظاهرة وكيف نشأت في التاريخ وماهي شروطها الاجتماعية- الاقتصادية والمعرفية. فالفهم التاريخي للدين ينتج سوسيولوجيا الدين، فلا تعود الظاهرة الدينية مفسرة لاهوتياً.
ينطوي اللاهوت على إمكانية فلسفة، فيما الفلسفة لا تنطوي على إمكانية لاهوت. وآية ذلك، أن هناك مشكلات ميتافيزيقية دينية قد تتحول إلى مشكلات ميتافيزيقية فلسفية. فمسألة علاقة الله بالعالم إذ تنتقل من حقل اللاهوت إلى حقل الفلسفة تأخذ إهاباً جديداً ومختلفاً.
من هنا نتحدث عن نظرية الفيض مثلاً عند الفارابي أو ابن سينا أو عند مصدرها أفلوطين لتفسير هذه العلاقة التي تتجاوز مسألة الخلق من العدم وحدوث العالم في الزمان الخ.
وقس على ذلك فكرة التسامي في الفلسفة المسيحية.
وإذ نقول فلسفة إسلامية أو فلسفة مسيحية، فإنما نتحدث عن تلك المشكلات الفلسفية التي ظهرت بوحي من المشكلات التي واجهها الدينان.
ثالثاً: إن الفلسفة تتجاوز ذاتها على نحو مستمر، لأنها بالأصل تاريخ نظرة إلى العالم، تاريخ فهم وتفسير، فضلاً على أنها تناول مشكلات لاتني تظهر على نحو جديد.
فنحن نقول مثلاً إن ابن خلدون مؤسس فلسفة التاريخ، ولكن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون هي لحظة في الفهم الفلسفي للتاريخ، ثم نتحدث عن فلسفة التاريخ في عصر الأنوار وفي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية وعند ماركس وشبنجلر وتوينبي الخ.
وفي كل لحظة هناك مفاهيم جديدة في هذه الفلسفة. في حين أن اللاهوت يظل سجين الترسيمات القديمة مع بعض التأويلات المختلفة لهذه التأويلات. فالاختلاف حول المسيح لا يعدو اختلافاً حول طبيعته: هل هي ناسوتية أم إلهية أم ناسوتي وإلهية معاً.
رابعاً: الفلسفة في نهاية الأمر نظرة إلى العالم حرة، بمعنى أنها ثمرة وعي الفيلسوف الفرد في شرط تاريخي محدد. وانتشار هذه النظرة غالباً ما يكون محدوداً في وسط مجموعة من القراء الذين إما يناصبون هذه النظرة الاختلاف أو يتأثرون بها على نحو غير مرتبط مباشرة بالسلوك.
ولأنها على هذا النحو فهي تجربة إنسانية تأتي عليها تجارب أخرى أو تعمقها تجربة عصر آخر.
فهي بارتباطها بمشكلات معيشة، فإنها تعكس عصرها بكل ما يعج به من تناقضات. فالفلسفة بهذا المعنى هي دائماً فلسفات، بصيغة الجمع، فلسفات حتى في إطار المشكلة الواحدة. فالمتتبع لمشكلة المعرفة في الفلسفة فإنه لواجد مثلاً التيار العقلي أو التيار الاختياري، التيار المثالي أو التيار المثالي الذاتي الخ.
إنها وعي نقدي لا تتحول مهما طال بها الزمن إلى مؤسسة، ولا تورث للأجيال اللاحقة، بل تظل خياراً عقلياً جداً.
فيما اللاهوت مؤسسة، والمعتقد الديني معتقد أهم صفاته أنه يتوارث ويغدو جزءاً من هوية الناس التاريخية العصية على الزوال وينطوي على جملة من الطقوس والعبادات المرتبطة بالعلاقة مع الإله، وقد يقال إن المسألة الأخلاقية مسألة مشتركة مع اللاهوت، وهذا أمر صحيح لكن الاشتراك في المشكلة لا يفضي إلى وحدة النظر إليها.
فالفلسفة تدرس الأخلاق وتقدم فهمها لها في واقعها وتطرح منظومة من القواعد الأخلاقية دون أن تمتلك وسائل تحقيقها في الواقع، فهي تدرس علاقة الإنسان بالمجتمع وقيمه، وتدرس القيم في تطورها التاريخي، تحدد المفاهيم الأخلاقية كالواجب والمسؤولية والشرف الخ، فيما اللاهوت ينطلق من المنبع الإلهي للأخلاق ويطرح أوامر أخلاقية بوصفها أوامر إلهية. ويفرض في كثير من الأحيان أحكاماً عملية مرتبطة باختراق قيمه الأخلاقية.
وبعد هذا كله كيف يمكن التوفيق بين الفلسفة واللاهوت؟ كيف يمكن التوفيق بين عالمين مختلفين كل الاختلاف؟.
ولهذا فقد فشلت كل محاولات التوفيق بينهما. والحق أن محاولات التوفيق إنما جاءت دعوة من الفيلسوف لا من اللاهوتي. وكل ما فعله اللاهوتي أنه أخذ بعض مفاهيم الفلسفة ليؤكد ترسيماته الدينية على غرار توما الأكويني لكن الفلسفة لا تطيق نفسها خادمة، ولهذا سرعان ما ينبري اللاهوتي لدحضها ومواجهتها.
فالفلسفة لا تطرح نفسها بديلاً عن الدين أو العلم أو الأدب، إنها عالم مستقل من الأفكار حول الوجود والمعرفة والإنسان والتاريخ والعلم والجمال والأخلاق، لكنها حاضرة بهذا الشكل أو ذاك فيما سبق بشكل جنيني.
فمن السهل أن نكشف في شعر المتنبي نظرة فلسفية، لكنها نظرة شاعر تختلط في شعره القيمة الجمالية والبلاغية والقيمة الأخلاقية والفلسفي، وباستطاعة الفيلسوف عزل فكرة فلسفية ما وتطويرها أو الانطلاق منها لبناء معرفة فلسفية.
وإذا كانت محاولة الفيلسوف في التوفيق بين اللاهوت والفلسفة مخفقة لا محال، كما دلل التاريخ على ذلك، فإن استمرار المحاولة نمط من إيجاد هدنة لا يكون فيها الدين محارباً للفلسفة، وخاصة إذا كان للاهوت الحضور الأقوى في حياة المجتمع كما هو الحال في الوطن العربي.
وفشل الفيلسوف في إنجاب القناعة لدى اللاهوتي بقرابة ما بين الفلسفة والدين على أساس مفهوم العقل من حيث هو مشترك، ناتجة عن معرف اللاهوتي بأن هذا نوع من الخداع الذي يسلكه الفيلسوف كي ينال حرية التجوال في العالم متحرراً من سلطة اللاهوت.
وفي اللحظة التي يشعر فيها الفيلسوف بحريته- في شرط تاريخ محدد ولا يكون فيها للاهوت سلطة مطلقة، أو لا أثر سلبي لسلطته فإنه لا محالة واصل إلى إعلان التناقض بينه وبين اللاهوتي. هذا ما فعله فلاسفة التنوير وهذا ما فعله فيورباخ وماركس ونيتشه ورسل الخ.
ولهذا نجد أن الفيلسوف العربي الذي لم يقدر له أن يعيش مناخ انتصار مرحلة تاريخية حاملة لروح الثورة والتجاوز ظل أسير الدعوة للتصالح بين اللاهوت والفلسفة دون أن يحقق إنجازاً في هذا المضمار.