fbpx

ظروف العودة الطوعية للاجئين السوريين من تركيا

0 3٬167

تَميّز العقد الأول من الألفية الثالثة بوئام تركي مع نظام الأسد، لم يكن حدوثه متوقعاً كما لم يكن متوقعاً انهياره بتلك السرعة.

بعد توجه تركيا الأتاتوركية غرباً وانضمامها للناتو في بدايات تأسيسه وانحياز سورية الواضح للمعسكر السوفييتي بعد انقلاب البعث، كانت سورية وتركيا في محورين متحاربين حرباً باردة، وكانت العلاقات التركية السورية في غاية السوء، وقد وصلت لحافة الانفجار عام 1998، بسبب دعم الأسد الأب لعصابات حزب العمال الكردستاني التركي، أعقب لحظة الانفجار تلك تهديد تركي باجتياح الأراضي السورية، إلى أن تمّ التوصل لتوقيع اتفاقية أضنة وطرد عبد الله أوجلان من الأراضي السورية.

لم تكن العلاقة السيئة بين الحكومتين التركية والسورية تشي بشيء مشابه بين الشعبين بل إنها لا تعكس تلك العلاقة التاريخية الحميمة بينهما.

كان انقلاب القيادة التركية على نظام الأسد سريعا (نسبياً) وكان خطابها الداعم للانتفاضة السورية مُحيراً ومفاجئاً للأسد واستمرت شعرة معاوية بين البلدين إلى حين زيارة أحمد داوود أوغلو التاريخية قي آب 2011 ولقائه الأسد مطولاً، وافترقت دمشق وأنقرة، دمشق الأسدية اختارت طريق العنف المفرط لوأد أي احتجاجات شعبية وعدم استعدادها لأي إصلاحات جوهرية تلاقي مطالب المتظاهرين في الشوارع (أو تلامسها بأضعف الأحوال)، واختارت القيادة التركية موقفاً مناهضاً للأسد وداعم لمعارضيه.

وكانت الأراضي التركية ممراً لوجستياً لكل أشكال الدعم المدني والعسكري الضروري لاستمرار الثورة على نظام الأسد.

وهنا يتبادر للذهن تساؤل هام، بغض النظر عن النوايا الحسنة، هل أفادت سياسة فتح الباب التركية للحدود على مصراعيها لرحيل الآلاف من السوريين من المناطق الثائرة الثورة أم حدث العكس؟ وهل أفرغت تلك السياسة المناطق الثائرة من الكفاءات؟ وهل خالفت تلك السياسة سياسة طارق بن زياد التي جسدها بمقولة العدو من أمامكم والبحر من خلفكم (بعد إتلاف قوارب العودة)، هل كان إقفال الحدود سَيغيّر من طبيعة الصراع مع العدو الأسدي ويَزجّ بكل الطاقات في مواجهته واجتراح حلول وخطط للمقاومة والصمود بل والانتصار عليه أيضاً؟ وهل كان وجود قيادة عسكرية وسياسية في الداخل ملتحمةً مع جمهورها سيقلب المعادلة ويغني الثورة عن المجالس الوطنية والائتلافات وهيئات التفاوض واللجان الدستورية التي أنزلتها الدول (الصديقة للشعب السوري) على قِمّة الثورة بالمظلات، وبعض الهابطين بتلك المظلات لا يعرفون سورية من سنوات ومنهم غير سوريين؟.

المهم أن سياسة الحدود المفتوحة التي اعتمدتها الحكومة التركية مع تسهيلات كثيرة وتأمين ملاذات آمنه أسهمت بنمو كتلة من المهجرين وصلت لقرابة أربعة ملايين لاجئ سوري.

كانت فورة الاقتصاد التركي ماتزال تُلقي بظلالها على المجتمع التركي الذي شهد نقلة نوعية بكل المجالات في العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية، وكان يتعاطف ويحتضن ويستفيد من العمالة السورية التي كان يحتاجها نمو الاقتصاد. وأسهم رأس المال السوري المهاجر وافتتاح العديد من المشروعات برضى عام مجتمعي، وأسهم الإتحاد الاوربي بجانب مهم من تكاليف رعاية المهجرين صحياً وتعليمياً وفي مجالات أخرى ما خفّف كثيراً من تقديمات الحكومات التركية للصرف على اللجوء السوري ومتطلباته.

المشاكل تمر بها الاقتصادات الصناعية الرأسمالية تكون طبيعية وتُحْدث موجات من الركود أو بطء النمو أو السياسات الحكومية غير المُوفّقة، أو الظروف والكوارث القاهرة كأزمة كورونا والحرب في الجوار الأوكراني، كل ذلك أدّى إلى تراجعات مُتدرجة لكنها مُزعجة كونها أعقبت طفرة اقتصادية.

طالت الأزمة الاقتصادية الخانقة في السنوات الأخيرة كل مستويات الشعب التركي وألقت بظلالها عليه، والمعروف أنّ الشعوب والحكومات تبحث عن كبش فداء لتحميله تلك الإخفاقات. وفي الظروف الاقتصادية الصعبة تنمو موجات العنصرية والكراهية للأجانب وتندفع كل أمراض المجتمع للخارج بعد أن كانت تغطيها بحبوحة اقتصادية كما حدث في تركيا حيث ظهر التعصب القومي والعنصرية بأسوأ أشكالها، أما في الدول الاستبدادية فلا تظهر تلك النزعات لأن سيف الاستبداد لا يسمح بطفوها للسطح.

ولأن المشكلة الاقتصادية التركية مُستعصية وعلى الأقل صعبة الحل، فلم تر الحكومات التركية مانعاً من تحميلها للتكاليف الباهظة التي صرفتها على اللاجئين السوريين وكان رقم الـ 40 مليار متداولاً في الأوساط الشعبية وهو ما صرفته الحكومات على اللجوء في بضع سنين (وبالتأكيد لم يكن الرقم صحيحاً ولم يَبذل أحد من المسؤولين الحكوميين جهداً لتصحيحه)، دون الإشارة للأسباب الحقيقية للأزمة.

وتلقّفت أحزاب المعارضة الضائقة لِتُلصقها بسياسات الحكومة الخاطئة تجاه القضية السورية بِرمّتها وأحد إفرازاتها هو قضية اللجوء في تركيا وسعي تلك الأحزاب فيما لو وصلت للسلطة بحل تلك المشكلة من جذورها (كما تُروّج) بإصلاح العلاقات مع نظام الأسد، وبالطبع في ذروة السباق الانتخابي المحموم وميل الشارع للاعتقاد بصحة تلك السردية، لم تتأخر الحكومة عن المعارضة بالتوجه نحو دمشق بل سبقتها أحياناَ، مجاراةً لأهواء ورغبات الشارع.

ولأن أحزاب المعارضة لا تملك خططاً عملية لتجاوز الأزمة الاقتصادية قررت معالجة العرض دونما السبب، وكان أقطابها يتبارون بكيفية وسرعة إعادة اللاجئين الى سورية والتحلل من أعبائهم.

المهم الآن أصبح اللاجئون السوريون ورقة انتخابية بين المتنافسين بل الورقة الأهم وبعض أحزاب اليمين القومي المتطرف كل فكره وبرنامجه وخططه لا تتضمن إلّا عودة اللاجئين.

ولحلّ مشكلة اللجوء السوري في تركيا (إن كانت هناك مشكلة حقيقية بالأساس) فإن للدولة الضامنة وهي هنا تركيا أدوات لا تتوفر عند الأردن ولبنان اللتان تحتضنان معاً نفس عدد اللاجئين في تركيا مع أنهما تتحمّلان أضعاف ما تتحمله تركيا (نظرا للنسبة المرتفعة التي يشكلها اللجوء قياساً لعدد السكان ولتواضع اقتصادهما وبناهما التحتية مقارنة بالاقتصاد والبنى التحتية التركية) حيث تملك أنقرة نفوذاً على مساحة مُحرّرة من سلطة الأسد تُعادل 20 ألف كيلومتر مربع (ضعف مساحة لبنان) تأوي 5-6 مليون نسمة تقريباً من سكانها ومن الهاربين من جحيم الأسد.

وحيث لم تكن إدارة تلك المناطق من الجهات الوصائية التركية ناجحة في مُجملها وعلى مختلف الصعد العسكرية والمدنية حيث لم تستطع تقديم نموذج حوكمي ناجح يتعلق بفرض سلطة القانون عبر قضاء نزيه ومحاربة شتى أنواع الفساد وطغيان الفصائلية على المستوى العسكري وتدخله بالحياة المدنية.

وبما أن الوضع الاقتصادي متدهور في الشمال المحرر من سلطة الأسد وهو من أهمّ العوائق التي تمنع عودة اللاجئين من تركيا ويتحمل ذلك التدهور بنسبة كبرى سياسة الاحتواء التركية حيث المنطقة محاصرة من كل جهاتها ومفتوحة بتقنين مدروس على تركيا فقط.

إنّ إغلاق المنطقة تجارياً وحرمانها من تعليم مُفيد معترف به دولياً وعدم وجود مطار صغير (نافذة على العالم) يجعل من تنمية المنطقة اقتصادياً أمراً مُتعذراً، والاكتفاء بالاعتماد على المنظمات الإغاثية حتى تبقى المنطقة في حالة عوز واستجداء، وبالطبع هذه سياسة غير حكيمة ونرجو ألا تكون ممنهجة ومدروسة.

كيف ينوي المسؤولون الأتراك إعادة مليون لاجئ أو أكثر عودة طوعية، هل يتم ذلك بإطلاق الوعود والتصريحات الانتخابية أو بوضع حجر الأساس لبناء لتجمعات سكنية يُلقى بها ببشر ويتمّ تأمين سلة إغاثية لهم ومركز رعاية صحية أولية. دون تحقيق مورد اقتصادي دائم مع تعزيز حالة الأمن والطمأنينة بإصلاحات عميقة تطال أجهزة الشرطة والفصائل العسكرية قبلها.

وعند تحقيق تلك الظروف والشروط الآدمية البسيطة، فلا داعي للطبل والزمر لعودة اللاجئين من تركيا بل سيعودون إلى وطنهم رافعين شارات النصر، أما إعادتهم إلى مناطق تُسيطر عليها جماعة إرهابية دولية مُصنفة كذلك دولياً وتركياً فهذا شأن لا يقبله عقل أو منطق أو واقع، وهو خارج إطار العودة الطوعية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني