fbpx

صناعة الوعي بين الوصاية والقولبة

0 213

عند كل نازلة تنزل على ساحة الثورة يكثر الهرج والمرج، والجِدال والاختلاف، والنفور والشِقاق، ويكثر تقاذُف الاتهامات، وتشيع الإشاعات، وتسود المغالطات، وتكثر التحليلات والتأويلات، وترتفع وتيرة الاصطفافات، وتشتدّ حِدّة العصبيات، فتتحوّل الساحة إلى ساحة حربٍ ضروس، سلاح الجميع فيها “التخوين والتسفيه، والتضليل، والتسّعير، والتأجيج” وفي النهاية لا يخرج منها رابح إلّا النظام وأعوانه وحلفاؤه، وأعداء الثورة الآخرون، الأمر الذي يُحتِّم علينا جميعاً التداعي إلى ضبط الساحة عبر ورشات لصناعة الوعي الثوريّ الجمعيّ.

صناعة الوعي: مصطلح يُستخدم للدلالة على الآليات التي يتم من خلالها استنساخ العقل البشري كمنتج اجتماعي كان أطلقه الكاتب الألماني “هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر”، ومن أهم هذه الآليات هي مؤسسات وسائل الإعلام والتعليم. ويرى أنّ صناعة العقل لا تُنتج أي شيء محدد، بل على العكس فإن نشاطها الرئيسي هو تخليد وجود نظام هيمنة الإنسان على الإنسان.

ولم يختلف المفكرين والفلاسفة على اختلاف مشاربهم الفكريّة حول أهمية صناعة الوعي وأثرها على ازدهار اقتصاديات المعرفة والاستثمارات الثقافية والمعرفية أو نكوصها.

وتعتبر المعرفة هي جوهر صناعة الوعي لدى الفرد التي تقوم على قدرته في استيعاب وإدراك الحقائق، وكميّة مخزون معلوماته سواء تلك التي اكتسبها من تجاربه، أو من خلال الاطلاع ودراسة وتأمّل تجارب الآخرين، وما خلّص عنها من نتائج أو استنتاجات، ومقدار المعرفة يتطلّب توفّر البديهة الوثّابة، والبحث الدائم عن مكنونات الأمور وكشف أسرارها، من مصادرها التي حدّدها الفلاسفة بـ “العقل القادر على الاستدلال”، والتجربة بوصفها “مصدر المعرفة”، والحسّ “الحدس” المبني على السبب والنتيجة”.

إنّ صناعة الوعي الجمعي يبدأ من تنمية القدرات الفردية من خلال تقديم الحقائق والمعلومات الصحيحة والآراء السديدة المبنيّة على محاكمات منطقيّة سليمة.

وأول خطوة عمليّة في صناعة الوعي الفردي تكمن في معرفة قواعد المنطق، والتفريق بين إطلاق الحكام وبين تحليل الوقائع والأحداث، وبين إبداء الآراء. فالأحكام تُبنى على الجزم واليقين ومقتضاها العدل ومنه تأتي قوتها التنفيذيّة لأنها “عنوان الحقيقة، والتحليل السليم مُرتبِط بالحدس الصحيح في تشريح المقدمات والأسباب والنتائج ومقتضاه الحياد، ومن مآلاته الاختلاف الناجم عن اختلاف المعطيات لدى “مُحلِّل”، والرأي السديد يتأتّى من الحكمة والقدرة على الاستنباط وسلامة التقدير وصحّة الاستدلال ومقتضاه الإنصاف، ومن مآلاته الخلاف وبالتالي الأخذ به وردّه.

الانقياد الأعمى لا يولِّد معرفة ذاتيّة وبالتالي لا يصنع وعياّ فرديّاً لأن صاحبه تخلّى عن إعمال عقله واستغنى عن حواسه في مُحاكمة ما يتلقّى من المعرفة الأمر الذي يوقعه في دائرة التبعيّة المُغلقة وبالتالي الضلال والتعصّب الذي ما إن ساد في مجتمعٍ ما حتى انقلب إلى آفة تفتك به، وهو ما نعانيه في المناطق المحرّرة وفي بلاد اللجوء فمنّا من انقاد وراء دولةٍ ما ومنّا من انقاد لمرجعيّة سياسيّة أو حزبيّة أو فصائليّة أو عرقيّة أو عشائرية أو مناطقيّة.

وتعاني ساحتنا الثوريّة من كثير من المشاكل سواء على مستوى وعي الأفراد أو على مستوى الجماعة بسبب الكمّ الهائل من المعلومات، والأفكار المتدفِقة عبر وسئل التواصل الاجتماعي، والتي تحتاج إلى تدقيق في “المصدر، والمضمون، والمآل” فأغلب مصادر المعلومات في غرف الواتس آب هي مّجرّد أرقام “وهميّة” لجأ اليها السوريون لحل مشكلة التواصل، ونسبة أصحاب المعروفين بأشخاصهم لا تتعدى 5 الى 10% من أعضاء الغُرف، ممّا يفتح المجال واسعاً للاختراق وبثّ السموم والإشاعات والأضاليل التي تهدف إلى تشويش فكر المُتلقّي، وبسبب إمكانية المشاركة والتعميم تؤدّي إلى خلق وعي جماعي “مهزوز” سريع الانهيار عند اصطدامه بأول حقيقة مما يُشكّل صدمة نفسيّة عند حامله تورِّث لديه فقدان الثقة حتى بالحقائق أو بمصادرها الموثوقة ويُكرّس حالة “الانفعالية” على حساب “التفاعليّة” التي تنتج معرفة صحيحة ووعياً سليماً.

وفي ظلّ معاناة أهل الثورة وحاضنتها المُتأتية من سياسة دوليّة ممنهجة تهدف إلى ترويضهم والضغط عليهم لقبول أيّ حلّ يفرضه المجتمع الدوليّ أو الدول الفاعلة في الملف السوري من خلال إشغالهم بالبحث عن الملاذ الآمن من القصف المُستمرّ وإشغالهم بالبحث عن لُقمة عيشهم من خلال الحصار المطبق عليهم.

وحتى نستطيع الخروج من هذه الدائرة المُغلقة علينا التحرّر من “القولَبة” التي نعاني منها من خلال تحرير أنفسناً أوّلا من ذواتنا، عبر مراجعة قراراتِنا وسلوكياتِنا، ومراجعة تجاربنا وإقالة عثراتنا، وتصحيح هفواتنا، ونقتلع أنانيّتنا من صدورنا، ثم تحطيم قيود “الوصاية” التي فرضها علينا المجتمع الدولي والمعارضة بكل أطيافها، وتنقيّة معارفنا، واستقاء معلوماتنا من المصادر الموثوقة، وتحرّي الحقيقة من خلال تفعيل آليات المحاكمة والاستنباط لدينا، بما يكفل لنا معرفة أعدائنا ثم حلفائنا ثم أصدقائنا والتمييز بينهم، وسبر مكنونات من يُحسب علينا، وتنقية صفوفنا، ومعرفة المشاريع المعاديّة للثورة ظاهرها وباطنها ومن يديرها سرّاً وعلانيّة ومن هم كوادرها المدسوسين بين صفوفنا.

وعلى المؤتمنين على الثورة وقيمها أن يؤدّوا أماناتهم لأهلها من خلال تكريس الحقيقة، ونبذ المغالطات، ومحاربة الإشاعات، وتصحيح الضلالات، وإعادة إنتاج المفاهيم بكل تجرّد وأمانة وعدل وإنصاف واستقامة، ووضع حدٍّ للعبث المُمنهج في عقول الناس والتلاعب بمشاعرهم وأحاسيسهم حتى يمكننا بناء مجتمع معرفيٍّ واعٍ مستقِّرٍ قادرٍ على التعاطي مع أيّ أمرٍ بحكمةٍ وسدادٍ، ويكون جسراً للعبور إلى سوريّة خالية من الاستبداد “السياسي والفكري” وهذا ما نهيبه بالطليعة الواعيّة من شباب الثورة، ومن شيوخها منبع الحكمة، ومن أشرافها منبع الطُهر والنقاء.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني