fbpx

ذئاب…!!

0 23

اهتزّ المبنى.. مزّق انفجار الهدوء.. تصاعد الدخان ممزوجاً بغبار كثيف وتعالى في الجوّ.. اُطلِق بوق الإنذار.. تدافع الطلاب وتراكضوا في كل اتجاه.. علا صوت مدير الجامعة.. إنها الحرب.. اختبئوا.. كانت آخر كلمة سمعتها وأنا أعلو في الجوّ ممتطياً شظايا الأسفلت والحصى والتراب.

شعرت بخدر يجتاج جسمي، وألم في رأسي ورجلي.. فتحت عينيّ رويداً.. رويداً.. غشاوة… أين أنا؟! أغمضتهما لثوانٍ وراحت رموشي تنفرج ببطء.. سقف وجدران خضراء.. أسرة بيضاء وشباب يستلقون فوقها، وأنابيب دقيقة موصولة بالأنوف أو الأيدي.. بعضهم معصوب الرأس، ورائحة الكحول تعبق في المكان.. كانت يدي اليسرى مثبّتة موصول بها أنبوب رفيع، واليمنى حرّة. تلمّست رأسي الملفوف بالشاش.. أحسست بألم ينتشر في صدغيّ والجبين، حرّكت رجليّ .. لم أستطع تحريك اليسرى.. كانت ثقيلة.. تأكدت أنّي ما زلت حيّا وفي المشفى.

جاءت حمامة سلام.. تقدمت مني.. انحنت وهمست: حمداً على السلامة.. أرجو أن تهدأ.. لا تتكلم إلّا إذا سُئِلْت، وباختصار. خرجت لتعود برفقة طبيب شاب عرفته يتابع دراسة الماجستير في جراحة العظام.. أخذ يفحص أعضائي بدءاً من الرأس، ويسأل: يؤلمك؟ قليلاً.. وانتقل إلى الصدر ثم الأطراف.. تحسس رجلي اليمنى. اليسرى ثقيلة يادكتور؟ ابتسم.. لا تخف.. وضعها جيد.. عُلِّق بها ثقل قد يدوم أسبوعين أو أكثر.. لا تقلق.. وضعك الآن مستقر.. وغادرا…

أغمضت عينيّ ورحت أتذكّر ما حصل.. كان الزمن قصيراً.. خلته ثوانٍ لا دقائق.. جحيم فتح أبوابه، وطلاب كأنهم فراشات تتزاحم على مصباح.. يتدافعون للخروج.. وصوت اختبئوا…

لم أعرف الحرب.. سمعت جدي يتحدث عنها.. عن المعاناة.. عن الخوف.. عن الترقب.. عن القلق.. عن أزيز الرصاص وهدير المدافع والدبابات.. عن الطائرات والحمم المقذوفة والقنابل والصواريخ.. عن احتدام المعارك.. عن الانفجارات التي تصمّ الآذان.. عن القتلى بالعشرات والجرحى بلا حساب.. عن الدم النازف من أجل شرف الوطن وحياة الناس وكرامتهم… كنت أنصت إليه وهو يتحدث عنها كأنها لم تزل حيّة.. كان يصمت أحياناً.. يعض شفته، ويتلوّن وجهه، وتحتقن وجنتاه، وتغرورق عيناه فيحبس الدمعة ثم يتابع الحديث عن بطولات خاضها المجاهدون فوق الروابي وسفوح الجبال ونفوسهم تهفو إلى النصر حتى تحقق الحلم بالجلاء؛ لكني لم أسمعه يذكر أن الأخوة انقسموا فريقين واقتتلا بضراوة كما اليوم…

تذكّرت ما قاله أستاذ التاريخ: “عندما يتسيّد الظلم، ويتفشّى الفساد، وتُغيّب سلطة القانون تعمّ الفوضى، ويطفو الغثّ، ويُهان الكريم، ويُكرّم اللصوص، وتضيع الحقوق، وتتوالد العصابات، وتتعقد المشكلات وتتفاقم فيقتتل الأخوة ليبقى الظلام مخيّماً ومتسيّداً على البلاد”.

عادني الأهل والأصدقاء مراراً.. اطمأنّوا… شدّوا على يدي.. كنت سعيداً بهم، وبعد سبعة عشر يوماً غادرت المشفى أستند على عكاز، وأفكر بتعويض الدروس… وللتخفيف قيل لي: الكلية ما زالت مغلقة للترميم.. أصررت أن أمرّ من أمامها فإذا بها ـ كما عهدتها ـ عامرة تعج بالطلاب، والعلم يرفرف فوق السارية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني