دعوة على نار هادئة
صعد إلى الحافلة، جلس جانب النافذة، تنفّس بهدوء.. ضمّ ما اشتراه.. وضعه على ركبتيه.. أسند ذقنه عليها. تحركت الحافلة.. رأى الأشجار تسرع في سيرها معاكسة وجهته، تمنّى لو أنه واحدة منها؛ ليظلّل المارة بفيئها ويخبئ العصافير بين أوراقها. استرجع آخر أيامه منذ أن خرج ليفرّج عن نفسه ضيقاً.. تمشّى.. اتجه نحو المدينة، كلما اقترب يزداد الضجيج، يسمعه يعلو في أذنيه التي تطن باستمرار، كثر المارون في الطريق، سيارات.. شاحنات.. عربات خضار.. عمال يحملون مؤونة يومهم تحت آباطهم.. سيدات يسرعن لشراء ما يلزم البيت من طعام وغيره. شعر بالراحة، أخذ نفساً عميقاً.. زفره.. أحسّ بثقل ينزاح عن كاهله.. تاقت نفسه لزيارة المدينة فهو لم يزرها منذ سنة ونيّف عندما كُسرَت رجله، واستخدم عكازاً يتوكأ عليها. أشار لحافلة ركاب.. صعد.. جلس جانب النافذة وتابع حركة الأشجار تمرّ معاكسة وهي تسرع كلما ازدادت سرعة الحافلة؛ والناس يغذّون السير إلى أعمالهم.
في المحطة الأخيرة وسط المدينة ترجّل وراح يجرجر رجليه معتمداً على عكازه. مرّ بسوق الفاكهة والخضار. الناس تتوقّف.. تقرأ لائحة الأسعار وتتابع باحثة عن الأرخص. هاله الغلاء الذي تبدّى أمام ناظريه.. تأفّف.. تجاوز إلى سوق الألبسة.. فكّر “مازال بيننا وبين العيد شهر لأنتقي ثياباً للأحفاد تفرحهم، الآن أتعرّف إلى الأسعار، وأعود بعد أسبوعين لأشتريها”. أنعم النظر في واجهات المحلات والمعارض، تفاجأ بأثمانها، تساءل “هل هذه مدينتنا التي أعرفها أم أني في بلاد غير بلادنا؟”. تملّكه الحزن، وناله التعب فقرر العودة.
أقضّ مضجعَه التفكيرُ كيف يجمع ثمن ما أزمع على شرائها، “بعد أسبوعين ينتهي الشهر، راتبي التقاعدي لا يكفي، لابدّ من بيع الخاتم الذي أهدتنيه المرحومة أم فرج، لقد ملّ عشرتي، وعايش بنصري منذ ثلاثة وأربعين عاماً، وحان له أن يترجّل”.
تسلّم مرتبه، حزم الأمر. قصد سوق الذهب.. أغراه السعر.. خفق قلبه “بثمنه أشتري ثياباً تفرح الصغار وحلوى للعيد”.
سوق الألبسة قريبة منه، تمشًى وهو يحلم بشراء أفضلها وأجملها. استقبلته واجهات معارضها.. طافت عيناه بها.. قرأ أسعارها.. صفعته بمضاعفتها عمّا كانت قبل أسبوعين.. بدت عليه الدهشة، رآها تمدّ لسانها ساخرة.. تمتم “هل جئت من بلد الواق واق أم كنت نائماً مع أصحاب الكهف؟ ماذا أفعل؟” تقلّص الحلم، وتقلّصت الليرات في جيبه. بحث عن الأرخص.. وازن بين ليراته والأسعار.. انتقى ما تستطيع ليراته الوفاء به، وقادته قدماه إلى محطة الحافلات منهوكاً شارد الذهن متسائلاً: هل تفرح بضاعته الأحفاد؟!.
دسّ مشترياته في الخزانة كي لا يراها الصغار قبل ليلة العيد.. استلقى على فراشه فارداً يديه ورجليه.. نكزته الذكريات.. رجعت به عقوداً.. سمع الأولاد يضجون.. تخيّلهم يتقافزون ويركضون في جنبات البيت.. يدوسونه أحياناً فيقهقهون.. يثيرون غضب أم فرج فتصيح بهم مؤنبة: اهدؤوا.. كفى…
تنهّد.. زفر ما في جوفه.. تردّدت نغمة صوتها في أذنيه.. أصغى.. نظر نحو الباب.. رآها واقفة تفتح ذراعيها وتبتسم..