fbpx

حقبة دولية جديدة.. دور تركي جديد.. وقسد أداة أمريكية وليست حليفاً لها

0 1٬260

عندما تتفق الدول العظمى تخسر الدول الإقليمية، وعندما تختلف بالتأكيد ستستفيد الدول الإقليمية، وتملك القيادة التركية خبرة عملية واسعة في هذه النظرية.

فعندما تمدد الروس أكثر من اللازم في ليبيا وحاولوا حسم النزاع عسكرياً، ووصل الجنرال حفتر لمشارف طرابلس، استفادت القيادة التركية من الموافقة الأمريكية والأوربية للتدخل لتعديل موازين القوى على الأرض وفك الطوق عن العاصمة ودحر القوات المهاجمة إلى وسط البلاد، وتحقيق توازن في القوى أنهى أحلام الحسم العسكري وفتح باباً وحيداً لإنهاء الصراع الأهلي عبر الحل السياسي.

وطبعاً حققت تركيا معظم أهدافها الخاصة من العملية بغطاء إحدى القوتين العظميين.

حدث ما يشبه ذلك في إقليم ناغورني كاراباخ، حيث كان للتدخل التركي الدور الحاسم في هزيمة الجيش الأرمني (حليف الروس) وتغيير المعادلة القائمة على الأرض برضى وموافقة أمريكية.

في سورية كان الحال مختلفاً، عندما كان المشهد العسكري يشي بفشل ذريع للجهود التي قامت بها ميليشيات قاسم سليماني بإنقاذ حليفها النظام السوري، وكانت دمشق على بعد أيام من السقوط، كان القرار الأمريكي (والغربي أيضاً) بالحيلولة دون ذلك.

لم يكن من بد عن الموافقة (الضمنية) على التدخل العسكري الروسي المباشر، وفي ذروة التخادم الأمريكي – الإيراني بعد إنجاز الاتفاق النووي العتيد.

استجاب الرئيس الروسي لطلب قاسم سليماني بإرسال القوات الجوية الروسية إلى سورية بعد توقيع الاتفاق النووي بشهرين فقط.

كان التوافق بين القوتين العظميين واضحاً، على تعديل موازين القوى القائمة على الأرض لإفساح المجال للحل السياسي، وفي هذه الفترة ربحت القوة الإقليمية إيران وخسرت القوة الإقليمية تركيا، تلك القوتان المنغمستان في الصراع السوري بالوكالة.

فعند أول احتكاك حقيقي (وقبل الدخول العسكري التركي المباشر إلى سورية) بين الجيشين التركي والروسي عبر إسقاط الطائرة الحربية الروسية.

كان الرد الروسي شرساً، وعدم وقوف الناتو إلى جانب تركيا واضحاً، سياسياً وعملياً عبر سحب إحدى عوامل القوة التركية وهي بطاريات صواريخ باتريوت الدفاعية.

أفرز التوافق بين القوتين العظميين في سورية، تعديل كفة الصراع، ولم يكن صعباً قراءة الصمت الدولي المريب عن الوحشية العسكرية الروسية في تحقيق الأهداف العليا للتدخل بارتكاب شتى أنواع المجازر بحق المدنيين وفصائل الجيش الحر، ولم يصدر بيان أممي واحد عن إدانة إبادة المدنيين السوريين التي كان يقوم بها الطيران الروسي أو حلفاؤه.

عندما أيقنت السياسة الأمريكية أن الجيش الروسي يحاول تجاوز التفاهمات (غير المكتوبة) للوصول إلى حالة تتيح بدء عملية سياسية، والتي تتطلب بالضرورة عدم تحقيق انتصار أو حسم عسكري لصالح النظام السوري، بدأ الخلاف بين القوتين العظميين بسورية.. والتي استفادت منها القوة الإقليمية التركية بالاستفادة من التناقضات الحقيقية بينهما عبر إنجاز أربع عمليات عسكرية خلال الفترة التي تلت كل التدخلات العسكرية السابقة عليها (بمعنى أن الأتراك كانوا آخر المتدخلين المباشرين على الأرض مع أنهم الدولة الوحيدة التي تملك حدوداً مباشرة مع سورية فيما يبحث الآخرون عن مصالحهم وأمنهم القومي في سورية بعيداً عن دولهم مئات أو آلاف الكيلومترات).

أنجز الجيش التركي بالتعاون مع فصائل الثورة السورية أربع عمليات عسكرية خلال خمسة أعوام، أتاحت الحفاظ على مساحة تعادل مساحة دولة لبنان تقريباً، ولم يكن ذلك ليتم لو أن روسيا والولايات المتحدة متفقتان على منع التدخل التركي.

اللحظة التوافقية الروسية – الأمريكية حدثت في خريف 2019، عندما وضعت واشنطن وموسكو خطوطاً حمراء أمام القوات التركية لاستكمال عملية نبع السلام وإيقافها عند حدودها الحالية والتي لم تحقق إلا النزر اليسير من الأهداف التركية.

وحدث لحظة توافقية أخرى تجلت بوضع فيتو روسي – أمريكي عن عملية عسكرية تركية تم الإعداد لها سياسياً وعسكرياً وشعبياً العام الماضي.

وبالطبع أدرجت الحكومة التركية الخطط للتنفيذ، لحين حدوث افتراق مصالح عليا بين الولايات المتحدة وروسيا ولم يخب ظنها، ولم يتأخر هذا الافتراق الذي كان أكبر من المتوقع بل أشد هولاً منه، إذ أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى صدع سياسي كبير بين القوتين الأعظم تنعكس آثاره الآن في كل أرجاء المعمورة، وما على اللاعبين الإقليميين الجاهزين أو المتوثبين إلا استثماره، فتلك لحظة تاريخية سيندم كثيراً من لا يحاول استغلالها.

الحاجة الدولية والإقليمية لدور تركي جديد

أثبتت الحرب في أوكرانيا مدى أهمية الوضع الجيوسياسي لتركيا كنقطة التقاء قارات العالم القديم، التي تقع على حدود قوتين معاديتين للنظام الدولي، وتسعيان لتحطيمه عبر التمدد لدول الجوار وإحياء الإمبراطوريات التاريخية و(أو) الدينية.

تركيا العضو الرئيسي في حلف الناتو ولما تمتلكه من قوة ذاتية، وقبل الغزو الروسي تم فتح الأبواب لها في الشرق الأوسط، وتم نزع الشمع الأحمر عن الأقفال الموصدة بوجهها (بغض النظر عن الأسباب) فعادت حرارة اللهيب الإيراني المتوجه للمنطقة والمتربص بها لتذيب الجليد مع الدول الرئيسية فيها وذلك تمهيداً لدور تركي قادم سيكون أساسياً مع القوى الأخرى في المنطقة لتشكيل جدار الصد أمام المشروع الفارسي.

أما دولياً فقد اكتشف الناتو (متأخراً) أهمية الجناح الشرقي والجنوبي له وسيطرة هذا الجناح على المضائق البحرية التي فيما لو أغلقت (بشكل كامل أو جزئي) فإنها سوف تخنق العدو الروسي.

فتم تفعيل اتفاقية مونترو وإغلاق المنافذ البحرية أمام قطع الأسطول الروسي من وإلى البحر الأسود، ويمكن أن تكون هذه خطوة ستتلوها خطوات وفقاً لتطورات الصراع القادم بين النظام الدولي الذي تقوده أمريكا والاتحاد الروسي.

يدرك النظام الدولي أن الدور التركي الأمني المطلوب إقليميا ودولياً لا يمكن لأنقرة القيام به إذا لم يكن الأمن الاقليمي لتركيا مؤمناً ومأخوذاً بعين الاعتبار.

إن الوضع المستجد الآن في سورية، وما شكّله تراجع الدور الروسي بها وما سيشكله غيابه في المستقبل، وعدم التوصل لاتفاق نووي مع إيران واستبعاد الوصول إليه في المدى المنظور، وانهيار قواعد الاشتباك (جزئياً أو كلياً) التي كان يقوم بها الوجود الروسي في السماء والأرض السورية، والفراغ الناتج عن ذلك، ستعمل الميليشيا المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني على ملئه.

علماً إيران الآن في قعر جهنم بربيع إيراني يستعر، وخسارات مؤلمة لحلفائها في العراق ولبنان وعدم تمكنهما من تشكيل حكومات موالية في بغداد وبيروت.

كما أن ملء الفراغ في سورية عبر توسّع النفوذ الإيراني في سوريا – الذي بدا يشكل هلعاً أردنياً – عبر عنه الملك الهاشمي صراحة.

كل ذلك يتطلب دوراً تركياً وازناً في سورية يتيح ملء فراغ القوة الناشئ عن التراجع الروسي ويحظى بدعم العرب والغرب، كل ذلك يرجح توسع الدور التركي في سورية، الذي بدوره يتضمن إنشاء المناطق الآمنة التي طلبتها وتطلبها الآن القيادة التركية كشرط لتأمين أمنها الوطني والمساهمة بالحد من النفوذ الروسي والإيراني في سورية.

قسد ليست حليفاً للولايات المتحدة بل أداة

لا يمكن المقارنة أبداً بين إقليم كردستان العراق بحدوده، وجغرافيته، وديمغرافيته، ونوعية القوى التي تحكمه، كحليف للنظام الدولي وما تسعى قسد لاستنساخه في سورية وفي منطقة الجزيرة خاصة.

إن إقليم كردستان، يتمتع بالحماية الدولية منذ نهاية حرب تحرير الكويت، والحزبان الكرديان المشكلان للقوة الحاكمة فيه، في حالة صراع أزلي مع حزب العمال الكردستاني الأوجلاني صاحب الإيديولوجيا القومية العابرة للحدود.

وكما يعلم الجميع فإن حزب الاتحاد الديمقراطي (النسخة السورية للعمال الكردستاني التركي)، فشل في جمع القوى الكردية حوله أو التشارك معها، كما أنه ليس على وئام مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في إربيل، بل في صراع يظهر عسكرياً أحياناً.

ما أريد قوله، لا تشكل قسد أكثر من أداة محلية للوجود الأمريكي في حربها ضد داعش، والحفاظ على حراسة عشرات آلاف المنتمين لداعش أو المتهمين بذلك، وكل حرب داعش هي لتبرير التواجد العسكري الاستراتيجي في سورية، الذي لم تكن الحرب على داعش أحد أهدافه الرئيسية منذ أربع أو خمس سنوات على الأقل.

إن حزب الاتحاد الديمقراطي، لن يكون حليفاً للولايات المتحدة، إنما أداة عسكرية، ولن يكون بالتالي صعباً على الإدارة الأمريكية تقليص دوره إلى حين التخلي عنه، وقد بدأت بذلك عملياً عبر محاولتها فتح حوار غير رسمي بين وجهاء في الشمال الشرقي والغربي واستثناء تلك المناطق من عقوبات قانون قيصر لتنميتها اقتصادياً.

لذلك أرى أن الإدارة الأمريكية لن تمانع عملية عسكرية تركية في الشمال السوري، تحقق مطالبها الأمنية وتتيح توسيعاً جغرافياً للمناطق الخاضعة الآن للنفوذ التركي، لاستيعاب المزيد من الراغبين بالعودة من السوريين إلى بلدهم واللاجئين الآن في تركيا.

وأملاً بإحداث خلاف تركي – روسي يصب في مصلحة الولايات المتحدة في صراعها المقبل مع روسيا.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني