fbpx

حرب غزة تكشف هشاشة الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة

2 5٬441

استثمرت إيران أكثر من أربعين عاماً في مشروعها الإمبراطوري القائم على قواعد مذهبية وقومية. مشروع تُريد فرضه على الحاضر والمستقبل وهو في جوهره يَتبنّى أنموذجاً من الماضي يكون غايته الرجوع إليه. فيه انتقام من التاريخ الذي يَعتبره عدواً له.

يربد إعادة كتابة التاريخ والانتصار لمظلوميات وقعت منذ أربعة عشر قرناً.

يَخلط المشروع الفارسي ببن التاريخ والدين والسياسة ويكتنز مظلوميات وبُكائيات لا حدود لها. ويريد تفريغ لطميات وإدماء للأجساد على قومٍ يَعتبر أنّ أجدادهم هم من تَسبّب بها واقترفها بيديه عمداً.

وبعد الثورة الإيرانية واستحواذ رجال الدين عليها عام 1979 بدأ النظام الجديد بعد كتابة دستوره الذي يُحدّد طبيعة النظام وأهدافه. بدأ في إنشاء حرس ثوري عقائدي ديني مسلح عابر للحدود تحت غطاء أو شعار تصدير الثورة الخمينية لتنفيذ تلك الأجندات في المنطقة. وفي العام التالي لانتصار الثورة الإيرانية شَنّ حرباً على العرب عبر العراق محاولاً تحطيم ذلك الجدار والعبور من البوابة الشرقية للأمة العربية ولم يَتمكّن من ذلك. وسنحت له الفرصة بعد الغزو الأمريكي للعراق.

 تَبين بعد فترة خفوت بريق الشعارات الدينية وزيف دعاوى محاربة الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر. وتَبين أنّ هذا النظام مُستعدّ للتخلي عن كل ذلك في سبيل تحقيق مصالحه الخاصة. فبعد أن استعان بأسلحة إسرائيل عبر صفقة إيران كونترا للاستمرار في حربه على العراق. أتى القرن الواحد والعشرون بما لا يُمكن لمن أراد أن يرى حقيقته أن يُكذّب ما تراه عيناه. فقد تعاون مع الولايات المتحدة في حربيها 2001 على أفغانستان و2003 على العراق.

 يَحمل المشروع الإيراني عوامل ضعفه في بنيته الذاتية. فهو كالبلدوزر يعرف التدمير فقط ولا يجد للبناء سبيلاً. يُحطّم كُلّ ما هو موجود أمامه ولا يبني على أنقاضه أي بناء غير الفقر والفوضى التي يعتاش عليها.

منظومته الدينية والأخلاقية حاقدة وإنتقامية الطابع ودموية السلوك. ليست إقصائية فحسب بل استئصالية واجتثاثية.

أما نموذج الجمهورية الإيرانية ذات الاقتصاد الريعي المُعتمد بشكل رئيسي على عائدات تصدير البترول والغاز. فهو نموذج الدولة الاحتكارية المُتخلّفة الفاسدة والتي لا تملك من مُقوّمات الدولة الحديثة إلا اسمها، فقد أنشأ رجال الدين ميليشيا عقائدية تابعة لهم تملك جيشاً ومنظومة أمنية واقتصاد ظِلّ وتُسيطر على الدولة الظاهرية والمجتمع كله.

وهذا الجسم الطفيلي (الحرس الثوري) يَستأثر بِحصّة الأسد من الاقتصاد ويعتاش عليه، بمعنى نموذج مُعاد للدولة المدنية نصاً وتطبيقاً، وهو كان لا يُخفي تصدير هذا النموذج عبر شعارات تصدير الثورة وهو ما فعله في البلدان التي تَمكّن من التمدّد إليها عبر ما اصطلح على تسميته بالهلال الشيعي.

وبالطبع أول من عارض هذا النموذج هو الشعب الإيراني نفسه في سلسلة متواصلة ودورية من الاحتجاجات يقوم الحرس الثوري بقمعها بقسوة ووحشية.

لم تتأخر الحاضنة الشعبية الشيعية في العراق في الثورة عليه بعد أن اكتشفت حقيقته على أرض الواقع عبر ثورة تشرين في العراق 2019 والتي قمعها الحرس الثوري عبر أذرعه المحلية المتمثلة بالحشد الشعبي بكل قسوة، ويرى كثيرون أنّ لهيب تلك الثورة قد خفت ولكن الجمر مازال تحت الرماد.

ومثل كل الإمبراطوريات العقائدية البائدة (وآخرها الاتحاد السوفييتي) تفوقت الطموحات على الإمكانات ولا يَحرص الاستعمار العقائدي على تحصيل أيّ منفعة اقتصادية لتمويل الاستمرار في التوسع بل على العكس هو من يقوم بتمويل ذلك التوسع من أموال المركز.

وفي الغالب لا يُفكّر القادة العقائديون بايّ استثمار مالي من ذلك التوسع، فقط يهمهم التهام الأرض ومن عليها من البشر ومحاولة تغيير عقائدهم إن أمكن أو جَعلِهِم شيعة سياسية له لقاء منافع آنية، بمعنى عدم ارتكاز الاستعمار العقائدي على مشروع جَذّاب للجمهور يجعلهم يَتمسكّون به، بل إنّ حدود ذلك الهلال أو الإمبراطورية تُحدّدها بساطير الميليشيا في الأرض التي تتواجد عليها وتَحكُمها بِقوة السلاح تحت شعارات أيدلوجيا زائفة.

لا تملك الدولة الإيرانية مُقوّمات الإمبراطوريات فهي الدولة الريعية ذات الاقتصاد المُتخلف وقد عانى نظام الملالي من عقوبات أمريكية وغربية منذ نشأته، ولا تملك إيران جيشاً قوياً ولا موارد غير النفط ولا توجد مقومات الاقتصاد الرأسمالي الحديث المُعتمد بالأساس على التصنيع. وقد سَخّرت مواردها وإمكاناتها وبدون التكنلوجيا الغربية في مسار التصنيع العسكري المتواضع بخبرات شرقية، وقد تمكّنت ذاتياً من تكريس كل جهودها لبناء برنامج نووي عسكري امتص كل مواردها المالية ولم يرَ النور بعد.

ويمكن القول إنّ قوة إيران الوحيدة هي أذرعها التي تنتشر في بلدان عديدة وتَمكّنت من اختراق عدة بلاد منها بشكل كبير بحيث تَمكّنت تلك الأذرع من التحكم بالقرار السياسي للدولة (كما في لبنان والعراق) أو كميليشيا تَغتصب عاصمة الدولة وغير مُعترف بها (جماعة الحوثي) تُسيطر على ثلث مساحة اليمن أو في دعم نظام ساقط أخلاقياً وسياسياً وتمكينه من البقاء في السلطة ويُسيطر على ثلثي مساحة الدولة كما هو نظام الأسد. فيما تمكّن الحرس الثوري من ضم حركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية في غزة إلى منظومته وأصبحت جُزءاً من محور ولاية الفقيه في المنطقة.

فَشِلَ (أو أفشل) نظام الولي الفقيه في الوصول لتفاهم مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية حول توقيع اتفاق نووي، بحيث يُصلح علاقته مع الغرب ويبقى ضمن المنظومة الشرقية المنافسة للنظام الدولي الذي تقوده أمريكا، وإنّ قربه من العتبة النووية قد يحمل مخاطر جَمّة على وجود النظام نفسه إذ وكما هو معلن لن تسمح الولايات المتحدة له بذلك، (ولا الصين وروسيا تتقبّل فكرة امتلاك إيران لسلاح نووي).

والخطيئة الثانية هو تماهيه في معاداته لحلف شمال الأطلسي بانخراطه عسكرياً إلى جانب روسيا في الصراع الدائر الآن في أوكرانيا.

الخطأ الاستراتيجي الثالث والقاتل والذي يُعبّر عن سوء تقدير للموقف الدولي أو إدراك لطبيعة التموضعات الجيوسياسية في المنطقة وتَحدّي التحالف الغربي في منطقة يعتبرها من أمنه القومي وهي اختراق الخطوط الحمر فيما يَخصّ دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأساس بناء تلك القراءة الميل لفرضية أقتنع بها وهي أنّه لا يُمكن لأحد مكونات المحور الإيراني من التَصرّف بمفرده في قرارات كبرى لأنّ للمحور رأس معروف هو الحرس الثوري وأذرع تتبع له، ولا يُمكن للذراع أن يدخل معركة كبرى دون علم أو موافقة القيادة او بتكليف منها، وأنا أميل إلى أنّ القيادة هي من أوكلت للذراع بتنفيذ تلك العملية لأسباب عديدة تهم المصلحة الإيرانية وليس الفلسطينية، وبالتأكيد توجد آراء أخرى تختلف مع تلك الفرضية.

 كان الارتباك الإيراني واضحاً في التعاطي مع عملية طوفان الأقصى، فقبلها كان التغنّي بوحدة الجبهات والساحات أمراً مُعلناً واعتيادياً، ولم نكن نسمع عن استقلالية كبرى (أو مُطلقة) للأطراف بالتصرف بأمور جوهرية دون الرجوع للرأس في طهران.

من الترحيب والتأييد بعملية 7 أكتوبر ثم النأي بالنفس عنها أو التنصل منها، ثُمّ تبنيها من الناطق الرسمي باسم الحرس الثوري كإحدى عمليات الانتقام لمقتل قاسم سليماني ثم تراجع قائد الحرس الثوري عن ذلك التصريح في اليوم التالي.

ومع استمرار حرب المشاغبة المحدودة بين حزب الله وإسرائيل ودخول جماعة الحوثي على الخط وإعلانهم الحرب على إسرائيل واستهداف الأخيرة بطائرات مُسيرة وصواريخ بالستية ثم عرقلة الملاحة البحرية للسفن المتعاونة مع إسرائيل سواء بالشحنات على البواخر أو ملكيتها أو رفع العلم أو كل ما يَمُتّ لإسرائيل بصلة.

يبدو أنّ المُخطِط الإيراني اختار الزمان والمكان الخاطئين بإطلاقه للحرب في غزة، كونه لم يتوقع رَدّ الفعل الغربي (والأمريكي خاصةً) على هكذا عمل وهو الأرجح، أو أن تكون حصلت أخطاء أثناء تنفيذ العملية أدّت لخروجها بالشكل الذي تَمّت به.

لكن على الأغلب كانت تقديرات المُخطِط الإيراني أنّ الولايات المتحدة مُنهكة بصراع ساخن مع روسيا وآخر بارد مع الصين وبالتالي ستلجأ لسياسة الاحتواء التي اعتادت عليها إيران وتحقيق جُلّ طلباتها في ملفات أخرى وتحريك المفاوضات المجمّدة، خاصة أنّ الرئيس الأمريكي يُشبهونه في العام الأخير من عُمٌر ولايته بالبطة العرجاء، ولم يُقدّر المخطِط الإيراني أنّ طوفان الأقصى هو كضربات 11 أيلول بالنسبة للولايات المتحدة حيث قامت على إثرها بتدمير واحتلال دولتين.

وفي خِضمّ الحرب الجارية برز ضعف الحضور السياسي والدبلوماسي الإيراني إذ إنّ كل الوساطات والاتصالات وخطط اليوم التالي للحرب تقوم بها مصر وقطر وأحياناً تُستشار تركيا.

يبدو أن إيران في طريقها لخسارة استثمار عمره 44 عاماً وهو رفع شعارات تحرير فلسطين وبيت المقدس والذي هو المدخل لتنفيذ مخططاتها الحقيقية، إذ إنها في طريقها لخسارة أدوات تأثيرها في القضية الفلسطينية ومن الصعب ترميم صورتها الهزيلة التي ظهرت بها في عجزها عن إنقاذ غزة، ناهيك بعدم الاشتراك في الحرب، ويبدو أنّ طوفان الأقصى سَيولّد طوفاناً عربياً وقد يكون في جوانب أخرى تركياً أيضاً لإملاء فراغ إستراتيجي سيخلفه الاندحار الإيراني المتوقع.

ولأنّ الرياح جرت بما لم تشتهيه الأشرعة الاستراتيجية الإيرانية في شكل وطبيعة وأهداف الحرب على غزة، فإنها للحفاظ على حضورها في الملف الفلسطيني بإبقاء حركتي حماس والجهاد على قيد الحياة عمدت إلى الضغط على التحالف الغربي بتهديد مصالحه والنيل من هيبته عبر عرقلة الملاحة في باب المندب وذلك بهدف إنهاء الحرب على غزة مقابل إنهاء تهديدات الحوثي للملاحة الدولية، وبذلك اقترفت إيران خطأً آخر حيث أتت لِتكحّلها فأعمتها، واستدعت بذلك العمل تحالفاً دولياً معلناً بقيادة الولايات المتحدة ضِدّ جماعة الحوثي حيث كان التحالف الدولي في غزة أمراً واقعاً ولكنه ليس معلناً.

ويمكننا القول إنه بعد 7 أكتوبر ارتكبت إيران الخطايا الاستراتيجية القاتلة التي تَنمّ عن ضعف الرؤية والإمكانات وضيق الأفق وعدم دقة الحسابات فهي الآن مُهددة بخسارة ذراعين مهمين في غزة واليمن بتحالفات دولية ضدهما، مع التلميح بل التلويح بخسارة الذراع اللبناني عبر حرب قد تُشنّ عليه أو يتخلى كُرهاً عن سلاحه.

وفي سوريا، أوصلت إيران المناطق التي يحكمها الأسد للانهيار المجتمعي والاقتصادي وباتت عِبئاً عليها، حيث من المعلوم أنّ إيران وراء إفشال كلّ المبادرات العربية والتركية لاحتواء الأسد مقابل التقليل من نفوذها عليه، وتقليل حضورها العسكري والمدني في مناطق سيطرته، وأبقت تلك المناطق ساحة هَشّة لتنفيس الاحتقانات الدولية والإقليمية عبر رسائل وحروب ظِلّ فيها.

إنّ نظام الأسد وهو الذراع السوري لإيران يُعتبر الحلقة الأضعف في أذرعها وهذا الذراع الضعيف يتمتع بموقع استراتيجي مهم للمشروع الإيراني، وهذا الذراع مُرشّح لدفع تكلفة الفواتير المستحقة عليه وعلى إيران وقد لا ينجو من العواصف الهوجاء التي تَهبّ على المنطقة.

وتتعرض إيران هذه الأيام لاختبارات صعبة فأيديها مغلولةً إلى عنقها ولا تستطيع إحداث أي فرق استراتيجي، فلم تستطع إنقاذ غزة ولن تستطيع إنقاذ الحوثي، وتتعرّض الآن لحملة اغتيالات غير مسبوقة لكوادرها القيادية من الصف الأول في سوريا ولبنان والعراق، ومنهم إيرانيون من كبار قادة الحرس الثوري مثل رضي موسوي، وتبدو إيران ضعيفة وهزيلة بمظهر القوة المردوعة العاجزة ولن يُفيدها التحجج بالواقعية السياسية وتقدير المخاطر فهي ليست دولة طبيعية لتدّعي ذلك، ومن يتغطى برداء الثورة والتغيير وإحداث الفوضى التذرّع بتلك الحجج، والأيام القادمة تشي بانحسار واضح للنفوذ الإيراني في المنطقة ناجم عن هشاشة الاستراتيجية الإيرانية نفسها المبنية على عوامل غير دولية لا تعرف إلا الهدم ولا تجد للبناء طريقاً.

2 التعليقات
  1. ابو همام says

    كان بودي عندما ذكرت المظلومية بأنها في ذهن اولئك وليست حقيقية

  2. Md khalifa says

    الإمبراطورية الإيرانية المزعومة وهمٌ في أذهان قادتها ولاتتعدّى أنها دكتاتورية السلطة من خلال شعارات كاذبة للسيطرة على شعب تم تجهيله تحت عباءة الدين ومحاربة الاستكبار العالمي ، ليكون أداة قتل وخطر متعاظم على شعوب المنطقة ، وعلى الأم والسلم العالميين .

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني