fbpx

ثورة شعبية.. ليست حرباً أهلية أو طائفية

0 5٬138

وَثب حافظ الأسد إلى السلطة المطلقة وبدون منازع بعد انقلابه على آخر منافسيه في عام 1970.

وبغضّ النظر عن الرضى الخارجي على حكمه بعد إطاحته بخصمه صلاح جديد وما يُمثّله، فقد تَفرّغ باكراً إلى بناء دولة أمنية، وصادر كل بقايا الحياة السياسية التي كانت تقاوم للبقاء على قيد الحياة بعد انقلاب البعث في 1963 وأهمّها الحركة الناصرية والتي ضعفت كثيراً بعد هزيمة 1967 وخارت قواها تماماً بعد موت الرئيس عبد الناصر ومحاربة خَلفِه أنور السادات لكل الإرث الناصري في معاقله، وبالتالي كان سهلاً على حافظ الأسد محاربة التيار الناصري في سوريا وتدجين بعض رموزه، ثم اختزال كل الحياة السياسية بتشكيل الجبهة الوطنية التقدمية والتي يعرفها الجميع أنها كانت ديكوراً فقط للقول بتعددية سياسية.

كان على حافظ أسد ليستتبّ له الأمر أن يكسب ولاء ورضى القوى المجتمعية المؤثرة في سوريا بالترغيب والترهيب.

كانت البرجوازية التجارية الدمشقية والحلبية هي همّه الأول فتقرّب منها وقرّبها منه، حيث كانت طبقة التجار ترى فيه أفضل بكثير من صلاح الجديد وقادة اليسار الطفولي الآخرين، وفي عقد غير مكتوب ترك لهم حرية التجارة بشرط أن يتركوه يحكم كما يريد، وتجذّرت تلك العلاقة بينهما إلى أن ورثها ابنه ولازالت سارية لحد الآن.

القوة المجتمعية الثانية التي كسبها حافظ الأسد الى جانبه كانت التيار الديني السوري المحافظ، وأنشأ حوله دائرة مهمة من رجال الدين وسمح لهم ببعض المؤسسات وحرية الحركة بشرط ألا يتدخلوا في السياسة ويساهموا بتدجين الشباب المتدين.

حدث صدام لم يتوقعه الأسد المنهمك في مغامراته الخارجية والواثق من أجهزته الأمنية وولاء جيشه المطلق له، كان الصدام مع جماعة الإخوان المسلمين وبعض البرجوازية الحلبية الداعمة لهم والناقمة على امتيازات البرجوازية الدمشقية.

كان قمع الأسد وحشياً لانتفاضة الإخوان وانتهى بمجزرة حماة 1982.

دان المجتمع السوري كله لسطوة الأسد وقبضته الأمنية وبدأ الحكم الاستبدادي والدولة الشمولية تتطور نحو الأسوأ إلى أن وصلت لحكم العائلة الضيقة للأسد، وكانت كل القوى في خدمتها، ولم يكن ذلك يتمّ مواربةً بل بشكل علني وواضح ووفق شعارات تكتب على الجدران أو تُكرّر عبر أجهزة الإعلام باستخدام مصطلح سوريا الأسد والذي لازال سارياً حتى يومنا هذا.

مات حافظ الأسد وخلال دقائق تم توريث ابنه دون أيّ تحدي أو معارضة علنية من أيّ قوى مجتمعية أو من داخل النظام نفسه في تعبير واضح عن الحال التي وصلت لها سوريا بعد ثلاثين عاماً من حكمه، حيث لم يبقَ أيّ منافس له.

وسعى حافظ الأسد إلى هدم كل مقومات الشعب السوري والتي من الممكن أن تُشكّل خطراً عليه، فإضافةً إلى تصحير وتجريم الحياة السياسية ومنع تشكيل أيّ هيئة أو منظمة أو منتدى أو حتى مجلس قرية نائية ممكن أن يَتجمّع فيه السوريين، كما أنه حطّم المجتمعات الأهلية دون أن يسمح ببناء مجتمعات أو تجمعات مدنية صلبة، فامعن في إضعاف العشائر والقبائل والبيئات المحلية المناطقية، وشقّ الطوائف بتقريب ثُلّة من رجال الدين يكونون فقهاء السلطان وإبعاد الأكفاء منهم، وبذلك لم يساعد نظام الأسد على تشكيل قوى أهلية أو مدنية وازنة ممكن أن يلتفّ حولها الناس، فلا صورة ولا تقديس ولا مديح إلا للحاكم الأوحد.

في بدايات عهد بشار حاول بعض السياسيين التنفس قليلاً ومنهم من خُدِعَ بالرئيس الإصلاحي الجديد الطبيب، القادم من بلاد الإنكليز، الذي ينزل بين الناس ويلبس بنطال الجينز والبلوزة السبور ويقود سيارته بنفسه ويتكلم الإنكليزية، إلا أنه سرعان ما عاد لسياسة أبيه وقمع أيّ مسعى إلى إنشاء جوّ آخر من الحريات والحياة السياسية.

كان أغلب المتنفذين في النظام واثقين من عدم انتقال شرارة الربيع العربي إلى سوريا وهدم ما تمّ بناؤه خلال 40 عاماً من القمع والاضطهاد والظلم، وانطلقت الثورة السورية بعد أن وصلت الرياح من مصر وليبيا وتونس، ولم تكن نسمات غربية ربيعية منعشة بل إعصاراً زلزل الأرض من تحت أقدام النظام.

وكشفت بواكير الثورة السورية فقدان أيّ قوة مجتمعية منظمة (سياسية أو غير سياسية) في مقابل تنظيم محكم لعصابات الأسد ؛الأمر الذي ينفي أي حرب أهلية أو طائفية لقوى منظمة تنازع النظام على مكاسب معينة، وكانت صيحات الجماهير المطالبة بالحرية وإسقاط النظام عزلاء من القيادات والسلاح، وهي تعلم أنها غير قادرة على إسقاط نظام طائفي قوي مُدجّج بالأسلحة والحقد الطائفي ويملك علاقات إقليمية ودولية بناها طيلة العقود السابقة، وكانت المطالبة بإسقاط النظام دون وجود مشروع جاهز هو أشبه بالصرخات الموجهة للنظام لإصلاح نفسه تدريجياً تَجنّباً لمواجهة دموية كبرى كان الشعب يعلم أنّ النظام سيجرهم إليها وحاول السوريون تَجنّبها طيلة الأشهر الأربعة من عمر الربيع العربي.

كان نظام الأسد قد أخذ قراره مُسبقاً بالتصدي بالعنف لأيّ ارتدادات ستصل لسوريا وأكّد ذلك حسن نصر الله في حديث نُشِرَ مؤخراً له مع غسان بن جدو وقال فيه إنّ قاسم سليماني وبمعاونة من الروس كان قد أنشأ غرفة عمليات جاهزة لذلك.

 لم يتمكن النظام وحلفاءه من وأد الاحتجاجات السلمية والتي لم يخطر ببالهم يوماً أن تعمّ رقعة الجغرافيا السورية كلها، وعمل النظام بالمشورة الإيرانية للانسحاب مُضطراً من كثير من المناطق واختار التحكّم فيها دون السيطرة على الأرض، ولجأ إلى السيطرة في مراكز المحافظات الكبرى ليتمكن من الدفاع عنها.

وبرأي لم يرغب النظام أن تتسلح الثورة تسليحاً حقيقياً ولا أيّ ديكتاتور يلجأ لهذا الخيار لأنه غير معروف العواقب ولا يمكن السيطرة عليه والتحكم به، وإنما رغب الأسد بوصول قطع سلاح فردية وبذخيرة محدودة لإطلاق نار على شبيحته وتصوير ذلك لتبرير سرديته بألا ثورة شعبية مدنية ضِدّه وأنّ عصابات مسلحة تقوم بالقتل من الطرفين واستهداف قوات الأمن أيضاً، وفد صرف الكثير من الجهود والأموال لتسويق تلك السردية.

وكانت سردية نظام الأسد ولازالت هي محاربة الإرهاب المدعوم من عشرات الدول والذي يهدف لإسقاط سوريا ونظامها الممانع، وما أودّ قوله أنّ نظام الأسد لا يعترف بخوضه حرب أهلية في سوريا، وأنه يوضع خارجياً على قدم المساواة مع أمراء الحرب الأهلية الآخرون، بل هو المركز والشرعي وفي الأطراف إرهاب مدعوم من الخارج.

أعتقد أنّ أقصى أمانيه ان يتمّ الحلّ السوري (يوماً ما) باعتماد صِيَغ حل النزاعات الداخلية ليتمّ إعفاءه من كل الجرائم التي ارتكبها بوصفه ديكتاتوراً يقتل شعبه المنتفض عليه.

ولكن بعد تعاون خليجي – تركي بغضّ طرف أمريكي وفق ضوابط وضعتها واشنطن، تمّ السماح ببعض من تسليح للثورة وإمدادها بالأموال ولكن دون المستوى المطلوب الذي يتيح لها إسقاط النظام، وعندما كَسَرَ الثوار تلك المعادلة وكانوا على أبواب القصر الجمهوري في دمشق ولم يتمكن فيلق القدس من الدفاع عن قصر وسلطة الأسد، أتى الدخول الروسي المباشر ليحول دون سقوط النظام.

لعب الأسد ورقته بدعم من الإيرانيين عندما أيقن أنه لم يعد بمقدوره وقف تدفق السلاح والمال للقوى المدنية الشعبية التي تسلحت وأنشأت فصائل محلية تحت مسمى الجيش السوري الحر.

وتلك الورقة كانت إخراج قادة من الجهاديين كانوا معتقلين في سجن صيدنايا، وتأمين سبل دعمهم غير المباشر وأقله بعدم استهدافهم بالطيران وترك السلاح يمرّ لهم دون التعرض له، ومع استفزاز الجمهور المنخرط بالجيش السوري الحر بفيديوهات طائفية وقتل وحشي ومجازر بسبب الانتماء المذهبي، وتوقّع ردود أفعال حتمية بانضمام الشباب إلى تلك التنظيمات الجهادية التي تُصَدّر خطاباً طائفياً مضاداً يساعدها في التحشيد المعنوي والمادي، وبالطبع هذا خدم النظام كثيراً لأنه يعلم أنّ تلك التنظيمات لا تستطيع التعايش مع أهداف الثورة السورية، وأنّ خطاباتها وشعاراتها وراياتها سيتم التركيز عليها اعلاميا وسيراها العالم أجمع وينفضّ عن دعم الثورة السورية بعد تقديمها كنزاع طائفي.

وقد عمل قاسم سليماني ونوري المالكي على كل ما بوسعهما لإخراج د ا ع ش من السجون العراقية وتمويلها ودفعها إلى سوربا لطعن الثورة السورية من الداخل وإكمال جهود الأسد في سوريا.

لا ينطبق توصيف الحرب الأهلية على الثورة السورية لأنه لم تكن توجد قوى متكافئة تتنازع على زيادة حصتها من السلطة، بل الموجود نظام حاكم ظالم وشعب قرر الخروج عليه من مختلف ألوان الطيف السوري.

ولا توجد حرب أهلية بين مكونات سورية يشترك فيها ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية وإيرانية وميليشيات فاغنر، إلا إذا كان كل شذاذ الآفاق الذين أحضرهم سليماني إلى سوريا هم من السوريين.

ولا توجد حرب أهلية بوجود نظام يملك بقايا شرعية قانونية وصوت ومقعد في الأمم المتحدة ومدعوم من قوى إقليمية ودولية كبرى ويحارب مدنيين من السوريين تسلحوا حديثاً بأسلحة متوسطة للدفاع عن أنفسهم ودون وجود حليف داعم لهم (إلا من رحم ربي) فالحروب الأهلية تمتاز بالتكافؤ بالموار د والإمكانات، أما الثورات فإنها تعتمد على قوى الشعوب الحية وفي غالب الأحيان تنتصر على قوى الطغيان التي تفوقها في القوة المادية.

لذلك يجب على أبناء الثورة اليقظة والرباط على ثغور المصطلحات لأنّ ذلك خطير جداً، ومنها مصطلح الحرب الأهلية والتي يقع في فخّ تسويقها البعض مُضيّعاً بذلك دماء الشهداء وحقوق المعتقلين والمهجرين والمنكوبين ويُقدّم شهادة براءة للجزار ويُعفيه من نيل العقاب.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني