fbpx

المواجهة والطعنة في الظهر.. إلى نكرة مقصودة

0 54

كتب الشاعر العزيز محمد علي اليوسفي على صفحته بتاريخ 15 ديسمبر 2019 قائلاً: “سؤال يحيّرني: لماذا يُسلِّح الفيسبوك الخجولَ بالوقاحة والجبانَ بالجرأة؟” وسؤال كهذا سؤال مهم جداً في هذه المرحلة المعيشة. إن سؤال الشاعر محمد علي اليوسفي سؤال احتجاجي بالأساس، وأعتقد بأنه على دراية بالجواب. غير إني وجدت في السؤال فرصة لفض هذه الظاهرة المشينة. مشينة لأنها تنتمي إلى قيمة سلبية يدينها الوعي الأخلاقي ألا وهي الوقاحة الجبانة، فوقاحة الجبناء تختلف عن مواقف الشجعان، الأولى طعنات في الظهر وهروب من المواجهة والثانية مواجهة، والمواجهة كما سأبين معركة وجهاً لوجه.

ولتحليل هذه الظاهرة وفهمها لابد للعودة إلى مفهوم المكبوت. المكبوت نوعان: نوع لا شعوري لا يظهر إلى في حال تراخي سيطرة الأنا (في الحلم، في حال السكر، في زلات اللسان) وهذا ما أشار إليه فرويد. وهو مكبوت ليست الذات بمسؤولة عن وجوده وظهوره. أما النوع الثاني فهو المكبوت الشعوري، حيث يقوم الفرد بكبت ذاته إرادياً، إما خوفاً أو مصلحة، أو خجلاً أو تآمراً. وأسوأ أنواع الكبت الشعوري كبت الشر تجاه الآخر. لأن كبتاً كهذا ينتظر الشرط الملائم للظهور. وتكون الدهشة كبيرة في ظهور المكبوت العدواني لدى فرد تجاه آخر أظهر له وجه المحب زيفاً. إذا تنتمي ظاهرة الطعن في الظهر إلى المكبوت الإرادي، الذي يظهر في تنمر الجبان ووقاحته. اشتقت العرب المُواجَهة من الوَجْه، حيث تكون المحاورة أو المشاجرة، أو الاختلاف الصراعي بين اثنين وجهاً لوجه. دَعْنِي من الحروب بين جيوش الدول، أو الصراعات الجماعية، وتأمَّلْ معي المُواجَهة بين رأيَي اثنين. قد تنتهي المواجهة إلى اتفاق، أو إلى تعميق الخلاف، أو إلى وقوف كل طرف عند رأيه، وتنفض المواجهة. في المواجهة الفكرية ليس هناك غالب ومغلوب بالمعنى الحربي للكلمة، بل كل طرف هو غالب، حتى لو لم ينجب القناعة لدى الآخر برأيه. ولكن قد تختلف آثار المواجهة النفسية عند الطرفين، فقد يشعر طرف منهما بقلة الحيلة في التعبير عن زاوية رؤيته، وقد يختار الصمت موقفاً مهذَّباً من أن تصل المواجهة، إذا كانت حارّة، إلى حد الخصام. وقد تترك المواجهة أثراً غير محمود عند الطرفين أو عند أحدهما، وقد يكون هذا الأثر مؤقتاً، وقد يكون طويلاً. وتكون المواجهة -كل أشكال المواجهة الفكرية مهما اتسمت بالحدة- طقساً نبيلاً. حتى لو كان أحد الأطراف حارّ العقل والآخر بارده. ففيها شجاعة الصراحة والتعبير الواضح. ولهذا ليس من شِيمَة المواجهة الفكرية أن تنجب الأحقاد المُتبادَلة. إلا إذا كان الطرفان نذلين أو أحدهما نذلاً. ولعَمْرِي إن الروح الأرستقراطية الفكرية، غالباً، ما تتسم بالتسامح، واعتبار الاختلاف عابراً إذا ما كانت المواجهة الفكرية بين الأصدقاء. فروح الصداقة لا تنال منها المُواجَهات النظرية. وتختلف المواجهة بهذا المعنى عن الطعنة في الظهر. فالطعنة في الظهر تفيد الغدر والخيانة لآخر تربطك به علاقة معشرية ما. فالطعن في الظهر لا يكون مع عدو، فكل أشكال نفي العدو مشروعة. ولهذا فالطعن في الظهر سلوك منحطّ أخلاقياً. لأنه عدوان غير متوقع من صديق أو ما شابه ذلك. ما هي أسباب الطعن في الظهر؟ قد تكون الأسباب أحقاداً دفينة اعتملت في النفس نتيجة الشعور بالدُّونية، قد تكون حالة انتقامية من موقف ما عجز الشخص عن مواجهته، وقد تكون الطعنة هذه رغبة في الحضور أو شهوة حضور سببها العجز، أو قد تكون ثمرة عقدة الخِصَاء، أو بسبب شعور خَفِيّ بالحسد، أو ثمرة تربية سيئة، أو ثمرة ذهنية جماعة تتسم بالغدر والخيانة. وتثير الطعنة في الظهر حالة غَضَبيَّة في نفس المطعون؛ لأنها غير متوقَّعة من شخص ظُن بأنه صديق أو زميل أو مُحِبّ. وكانت الطعنة، قبل ظهور “الفيسبوك”، تتم عَبْر النميمة والقِيلِ والقَالِ، وإذا كان الطاعن من أهل القلم فقد يكون النقد الوَقِح وسيلة الطعن. وبعد ظهور “الفيسبوك” وسواه من وسائل التواصل الاجتماعي صار الطعن في الظهر حالة يتسم بها الجبناء والرعاديد. فهؤلاء المتنكرون الذين كانوا يتخوفون من المُواجَهة حصلوا على أهمّ وسيلة في الطعن عن بُعد. فإذا كانت المُواجَهة تُظهِر شجاعة التعبير عن الاختلاف، فإن الطعن في الظهر، وبخاصة بأدوات التواصل الاجتماعي، يبرز وَضاعةَ النَّفْسِ وتفاهة الشخصية. لقد وفَّر “الفيسبوك” للرعاديد مكاناً يختبئون خلفه بعيداً عن المطعون الذي يترفع عن الرد عليهم خوفاً من أن تصيبهم الشهرة من قلمه النبيل. وعندي بأن الذي سرت فيهم أرواح الأرانب في فترة طويلة من العيش الخانع هم الذين تحولوا إلى هذا النمط من الانحطاط القيمي. والبُرْءُ من هذا الداء يحتاج إلى وقت طويل. الوقح الجبان يخاف بالأصل، الآخر الموجود أمامه بشحمه ولحمه ويكرهه، هو الآن بعيد عن عيني الآخر الذي يكره ويحقد عليه، بعيد عن رد فعله. فليمارس إذاً انتقامه من الآخر المخيف ومن ذاته الخالية من الشجاعة. كل من يتطاول أو تتطاول على آخر بلغة وقحة إنما يعبران عن الانحطاط الأخلاقي والشعور بلذة النيل من القوي البعيد، من جهة، وعن ذات هي في طبيعتها وقحة وجبانة، من جهة ثانية.

وبعد: وهناك فرق كبير بين الإنسان القوي والإنسان الضعيف، ما هو الإنسان القوي والإنسان الضعيف؟

وأنا استخدمت هنا (ما) للسؤال عن الماهية تحسباً من أن ينبري جاهل في العربية لنا بالنقد والاعتقاد بأن (ما) تستخدم لغير العاقل فقط. ‏ الإنسان القوي هو الذي ينظر إلى ذاته أنها قيمة عليا، وغاية الغايات، وذات حضور فاعل في الحياة، إنسان إيجابي، ممتلئ بالكرامة والاعتراف بالحق. وليس هذا فحسب، الإنسان القوي هو الذي يعلن انتماءه للقيم الأخلاقية عملاً وخطاباً، فيوحد على نحو واضح وصريح بين الفعل والنظر. ويعلن عن ذاته من دون تورية أو أي تقية تسمح له بأن يظهر على الضد من حقيقته. إذا كان الإنسان القوي هو هذا، وهو هذا، فإن الإنسان الضعيف هو الصورة المعكوسة لصورة الإنسان القوي، إنه أداة ووسيلة، وعاجز سلبي، وخالٍ من الكرامة. ‏ إنه ذلك الذي يضمر الشر ويعلن الخير بلسانه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني