
المصالح غير المُعلنة: قراءة في خلفيات رفع العقوبات عن سوريا
في تطور بدا للكثيرين مفاجئاً بدأت الولايات المتحدة ودول أوروبية باتخاذ خطوات نحو تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا وبالرغم من أن الخطاب الرسمي يربط هذه الخطوات بأسباب إنسانية وسياسية إلا أن المعطيات الإقليمية والدولية تشير إلى أن ما يحدث يتجاوز بكثير الشعارات المعلنة فرفع العقوبات لا يأتي بمعزل عن ترتيبات عميقة تُعيد تشكيل الجغرافيا السياسية لسوريا وتُحدِث توازنات جديدة في المنطقة
أولاً: من الإنسانية إلى هندسة النفوذ
الرواية الغربية الرسمية تتحدث عن الاستجابة الإنسانية وتشجيع الحل السياسي لكن في العمق هناك حسابات استراتيجية معقدة
1- تحجيم روسي لا… إنهاء كامل للدور الروسي
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا انشغلت موسكو بجبهة استنزاف مفتوحة جعلتها تتراجع سياسياً وعسكرياً في ملفات كثيرة أبرزها سوريا مع مرور الوقت لم يعد وجود روسيا في سوريا يشكل فاعلية حقيقية بل تحول إلى عبئ مالي وأمني الأمر الذي دفعها إلى إعادة تموضع حذر دون القدرة على فرض إرادتها كما في السابق
اليوم ومع بروز ترتيبات جديدة تقودها واشنطن وبعض الدول العربية انتهى فعلياً دور موسكو كلاعب مقرِّر في مستقبل سوريا الحضور الروسي أصبح هامشياً بل يُنظر إليه كتركة ثقيلة للعهد القديم دون حظوظ حقيقية في التأثير على ملامح المرحلة الجديدة
الترتيبات الجديدة تجري بمعزل عن موسكو ولا يُطلب منها رأي ولا يُعرض عليها شراكة وهذا في لغة السياسة يعني: انتهاء الدور لا تقليصه فقط.
2- بناء شراكة بديلة على أنقاض المحور الروسي/الإيراني
المصلحة الغربية لم تعد تكمُن فقط في إضعاف النفوذ الروسي بل في استبداله كلياً بشراكات جديدة في الداخل السوري تقوم على أرضية سياسية وعسكرية واقتصادية مغايرة ضمن هذه الرؤية تُطرح اليوم سوريا كشريك محتمل في ملفات الطاقة والأمن الحدودي وحتى إعادة الإعمار شريطة الانفصال التام عن موسكو وطهران.
ثانياً: عقيدة عسكرية جديدة… بلا أثر روسي
الجيش السوري الذي عرفته المنطقة لعقود بتركيبته العقائدية والهيكلية المرتبطة بالعقيدة الروسية لم يعد موجوداً انهيار النظام السابق أدى عملياً إلى تفكيك البنية العسكرية التقليدية وفتح الباب أمام تأسيس نواة جيش جديد بملامح وطنية مستقلة ولكن بتوجيه خارجي محسوب
هذا الجيش الجديد أو ما يُراد له أن يكون لا يستمد عقيدته من التجربة الروسية بل يتجه نحو عقيدة دفاعية غربية مرنة ومهنية تمكّنه من:
- مواجهة التهديدات العابرة للحدود
- التنسيق مع دول الجوار تحت مظلة غربية
- العمل ضمن تحالفات دولية أمنية لا عقائدية
وهنا أيضاً يُغلق الباب تماماً أمام أي دور روسي مستقبلي في صياغة أو دعم هذا الجيش
ثالثاً: قواعد أمريكية راسخة… بلا توازن مقابل
في العهد السابق كان وجود القواعد الأمريكية في سوريا كقاعدة التنف جزءاً من لعبة توازن مع الروس والإيرانيين أما اليوم فإن الوجود العسكري الأمريكي يتحول إلى واقع استراتيجي دائم دون توازن مقابل قاعدة الضمير التي يُعاد تفعيلها قرب دمشق وقاعدة التنف الاستراتيجية أصبحتا بمثابة مراكز مراقبة إقليمية طويلة الأمد، الجديد أن السلطة السورية الجديدة لا تعارض هذا الوجود بل تتعامل معه كعنصر استقرار مطلوب في ظل انكفاء الروس وانسحاب الإيرانيين.
رابعاً: الخروج الإيراني… بلا ضجيج
على عكس ما كان متوقعاً لم تُبدِ إيران مقاومة عنيفة لتحول المشهد في سوريا. فمع سقوط النظام الذي راهنت عليه لعقدين ومع تصاعد الضغوط الاقتصادية عليها باتت طهران عاجزة عن مواصلة تموضعها العسكري في سوريا
المعادلة الجديدة لا تتسع لطهران ولا تسمح بوجودها المسلح ولا السياسي. وحتى دمشق الجديدة تتفادى إعطاء طهران أي إشارات إيجابية بل تعمل ضمن تفاهمات عربية غربية تقتضي تصفية الوجود الإيراني تدريجياً دون ضجيج أو تصعيد.
خامساً: الغاز القطري… أنبوب المصالح الكبرى
في جوهر إعادة رسم العلاقات تبرز مسألة الطاقة كعامل حاسم. مشروع أنبوب الغاز القطري الأوروبي عبر الأراضي السورية لم يعد مرفوضاً من دمشق الجديدة بل يُنظر إليه كفرصة استراتيجية.
السماح بمرور هذا الخط:
- يُنهي الاحتكار الروسي للطاقة في أوروبا.
- يُعيد إدماج سوريا في سوق الطاقة الإقليمية.
- يُوفر لسوريا عائدات مالية ضخمة من رسوم العبور.
- ويمنح الغرب مبرراً قوياً لرفع العقوبات واستئناف العلاقات.
ختاماً: لا عودة للوراء… سوريا تُعاد هندستها
المشهد السوري يشهد إعادة تركيب كاملة لا تستند إلى المصالحة مع النظام السابق بل إلى إعادة هندسة السلطة والدولة وفق معايير جديدة في هذه الهندسة:
- لم يعد لروسيا دور يُذكر.
- خرجت إيران نهائيا من المعادلة.
- أصبح للغرب موطئ قدم مستقر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
رفع العقوبات ليس مكافأة بل صفقة مشروطة مع سوريا الجديدة للدخول في منظومة المصالح الغربية العربية الناشئة.