fbpx

اللائيون

0 119

تقول اللغة عن (لا) إنها حرف أو أداة. ويقول ابن منظور في (لسان العرب): الأَداة التي تسمى الرابِطة لأنها تربُط الاسمَ بالاسم والفعلَ بالفعل، كـ “عن وعلى” ونحوهما، قال الأَزهري: كلُّ كلمة بُنِيَتْ أَداةً عارية في الكلام لتفرقة المعاني اسمُها حَرْفٌ، وإن كان بناؤها بحرف أَو فوق ذلك مثل: حتى وهل وبَلْ ولعلّ. والأدوات هذه المتكونة من أكثر حرف عوملت معاملة الحرف، لأنها فاقدة المعنى إذا جاءت مستقلة.

لا يجري حديثي عن (لا) هذه، بل عن “لاء” أو عن (اللاء)، بوصفها اسماً دالاً على الرفض، وليس حرفاً وأداة. وإن تكدّر خاطر مدرّسي نحو العربية من قولي هذا؛ فإني أحيلهم إلى قول ينسب إلى الفرزدق: “ما قال لا قط إلا في تشهده … لولا التشهد كانت لاءه نعم”.

البيت تأكيد لما ذهبت إليه، فقد عوملت (اللاء) معاملة الكلمة/ الاسم، اللاء هنا اسم يفيد معنى الرفض، فلا هي لا الناهية أو النافية ولا هي حرف جزم، ونعم هي الأخرى عوملت معاملة الاسم؛ فصار يصح أن ندخل ال التعريف على (لاء) و(نعم)، وأل التعريف لا تدخل إلا على الاسم، وعندها تصبح (اللاء) صفة للموصوف: لائي، ودخول الهمزة على (لا) غيّر من وظيفتها وطبيعتها تغييراً كلياً، وحوّل (لا) من حرف إلى كلمة. فاللائي هو الكائن الذي يقول: (لا)ومرادفها في الرفض لن. فماذا يعني أن يكون المرء لائياً؟

اللائي هو الذي ينطق باللاء الرافضة لواقع ولواقعة ولوجود ولحالة ولوضع ذاتي ولآخر ولفكرة ولمصير ولإرادة آمرة، اللاء هنا موقف ينجب ممارسة عملية وخطابية.

ولهذا فإن اللائيين هم تعينات كل أنواع اللاءات الآنفة الذكر. تمنح اللاء لصاحبها قيمة أمام ذاته وأمام الآخر. وهي تختلف عن لاءات الحياة اليومية ذات الوظيفة المعيشية. دعوني أميز هنا بين اللاء الوجودية ولا اليومية التي لا يترتب عليها أية مسؤولية حتى لو فيها كذب عملي. فلو سئلت من صديق :هل أنت مسافر غداً وأجبت بلا. فهذه اللا ليست لاء موقف، إنها جواب عن سؤال متعلق بلحظة من لحظات حياتك اليومية.

ولا يترتب عليه مسؤولية تطال وجودك. ولكن لو سئلت من قبل خادم سلطة هل تحب الطاغية وأجبت لا فإن جوابك جواب وجودي قد يترتب عليه قتلك. إنك لا تعرف الطاغية شخصياً، ليس جارك، ليس نمطاً من الفاكهة، أو الأكلة ليس قميصاً تلبسه، إنه بالنسبة لك كائن شرير، إن لاءك هنا حضور الموقف. اللاء هنا ماهيتك.

هل يمكننا تصنيف اللائيين؟. طبعاً، فالحياة تعج باللائين الذين توافروا على شهرة بسبب اللاء التي أعلنوها.

النوع الأول هي اللاء المتمردة على الشر العام والكلي، الشر بوصفه اعتداء على الحياة وكل ما يرتبط بها، الشر على الإنسان وحريته، على الطبيعة أمنا: هذه اللاء ليست عامة عند جميع البشر، وحتى البشر الذين يؤمنون بها قد لا يسلكون دائماً من وحيها، فقد تكون مصالحهم أقوى دافعاً من دافع الإيمان بمقاومة الشر. إنها لاء الفيلسوف الذي يجعل من الشر موضوع نقد وفضح وتحليل، ليقول للناس لا ترتكبوا الشر، وهذا النمط من اللائيين هم الذين ينتجون النص الفلسفي عن الشر، أو يشيدون فلسفة الرفض والتمرد. ولاءات الفلاسفة لم تتوقف منذ تاريخ بزوغها حتى الآن. وأسطع لاءاتها لاء مقاومة الوعي العام. بل قل إن لاء الفيلسوف هي لاء التمرد المطلق، فما زالت أغراض الفلسفة هي هي بكل أشكال تعيناتها التاريخية: الحق والخير والجمال. فاللاءات الصادرة عن هذه الأغراض الثلاثة لاءات ضد كل من يناقضها.

كالمعري واسبينوزا وماركس ونيتشة وسارتر وكامو. إنها لاء الشعراء، لاء الشابي وأبو ماضي ونزار.

وهناك اللاء المتمردة على الوضع: وهذه اللاء على نوعين: اللاء الرافضة للوضع انطلاقاً من الرغبة في العودة إلى القديم ورفض أي جديد، واللائيون هؤلاء كائنات من كل أنواع السلفيين الدينيين وغير الدينيين، ومن الأجيال القديمة التي لا تتصور تغير الأحوال. في مقابل هؤلاء هناك اللاء المتمردة على الوضع بالمعنى التجاوزي الأرقى، واللائيون المنتمون إلى هذا الصنف من اللاء هم فاعلون إيجابيون أحرار من قيود الحاضر والماضي، ومستقبليون بالمعنى الإيجابي، ويكون منهم رجال دولة وفكر وسياسة، وهذا هو النوع الثاني من اللائيين. إن اللائيين المتمردين على الوضع تجاوزاً أرقى هم غالباً ثوريو النزعة، وأصحاب وعي طوباوي ورومانسي، وبعضهم ثوريون واقعيون، وبعضهم إصلاحيون

أما النوع الثالث فهي اللاء العدمية المطلقة: وهي لاء عبثية، تنطلق من مفاهيم اللاجدوى واللامعنى، متشائمة، والصنف المنتمي إلى هذه اللاء سلبيون، تجاه كل ما يجري في العالم وفي مجتمعاتهم، وينظرون إلى الحياة بوصفها مسخرة.

فيما النوع الرابع من اللاء هو النوع الذي لا يفكر إلا بعالمه الجزئي: حيث اللاء هنا مرتبطة بتحسين حياته ورفض وضعه الخاص، وهؤلاء اللائيون عامة الناس الذين يتوسلون الخلاص الفردي فقط، وليس الخلاص الكلي، وتحسين وضعهم الخاص فقط، أو زيادة سعادتهم، وهؤلاء اللائيون لا علاقة لهم بالشأن العام، ويميلون إلى حياة الهدوء والسكينة.

بقي أن نقول: إن الفاعلين الإيجابيين السياسيين والاجتماعيين والفكريين والعلميين والاقتصاديين والإبداعين هم اللائيون الذين ينتمون إلى النوع الأول، وإلى الصنف الثاني من النوع الثاني. صحيح أن كل لاء هي سلب، لكن السلب هنا إيجاب، لأنه سلب لواقع لقاء الإيجاب لواقع متجاوز أرقى.

إن اللائيين الإيجابيين يمارسون دورهم في سبيل: الحرية، الحق وعن طريق النقد والخطاب المبدع.

 ويرسمون صور المستقبل المنشود دون تحفظ، وذلك كلٌّ في حقل العالم المنتمي إليه.

إذا كان الفلاسفة يشتطون أحياناً لرسم صورة زاهية لمستقبل البشرية، ويدعون إلى يوتوبيا – مدينة فاضلة كالفارابي وأوين وماركس؛ فإن اللائين الفاعلين الإيجابيين يتمتعون بدرجة عالية من الواقعية، أو يجب أن يتمتعوا بالدرجة العالية من الواقعية، الواقعية التي تجد العلاقة بين الممكن والواقع، الممكن الذي يعيش في قلب الواقع، ويحتاج إلى الإرادة لكي ينتقل إلى الحياة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني