fbpx

الغرب يستدرج إيران للحرب

0 5٬071

قام قاسم سليماني بتنفيذ أهمّ إستراتيجية لنظام الولي الفقيه عندما أنشأ ورعى الجيوش الستة التابعة لإيران في المنطقة وفقاً لنظرية الدفاع الإستراتيجي المُتقدّم عن نظام الملالي في طهران.

إنّ الهدف الرئيسي لتلك الأذرع ليس الدفاع عن إيران كدولة بل عن بقاء نظام الحكم فيها بشكله الحالي بعد الثورة الخمينية، كما أن غاية المشروع النووي الإيراني هي الحفاظ على بقاء نظام الحكم، وبالتالي إنّ دور ميليشيات الحرس الثوري في الخارج تتجلّى بهذه الوظائف، لأنّ مشروع ولاية الفقيه لو كان مشروعاً تبشيرياً دينياً فقط وهو الغاية وليس الوسيلة، لكان تَمّ سلوك طرق أخرى غير ما حصل على الأرض، مثل الاقتفاء بإنشاء الجامعات والمراكز الثقافية والحسينيات.. إلخ.

لا شكّ أنّ مشروع ولاية الفقيه استفاد كثيراً من حماقات ومراهقات بعض الجماعات السنية المتشددة (ويقال عند بعض المراقبين إنّ الحرس الثوري وقاسم سليماني بالذات هو من أوحى أو خطّط للـ ق ا ع د ة بتنفيذ هجمات 11 أيلول 2001) وبعد ضرب قلب أمريكا، حدث الجنون الأمريكي الذي طال أفغانستان والعراق، وكان الرابح الوحيد هو مشروع ولاية الفقيه من الضربة في أمريكا والرد عليها.

وبدأت مرحلة من التخادم أو التعايش في المنطقة بين مشاريع مختلفة بل ومتناقضة وأحياناً متصارعة، وكان الإيرانيون يحلمون بانسحاب أمريكي من المنطقة كلها بعد تَمكّنهم من أجزاء واسعة منها لإحكام سيطرتهم عليها، وسعوا إلى ذلك بإفشال الغزو الأمريكي للعراق، ما اضطر الأمريكان للانسحاب جزئياً من العراق، وعندما أيقن الحرس الثوري أنه غير قادر على إكمال مهامه بمفرده، أخرج تنظيم (د ا ع ش) وأتى بالأمريكان والروس للحرب على السنة في سوريا والعراق بعد أن هيّأ كل الأسباب لذلك.

كان الديمقراطيون الأمريكان (ومرحلة الـ 8 سنوات للرئيس أوباما مفصلية في تلك المرحلة) يرون في مشروع الملالي التخريبي في المنطقة فوضى خلاقة، بإمكانه مع ثورات الربيع العربي التي نجحت أم لم تنجح أن تكون البداية لتحطيم بُنى مجتمعية وسياسية واقتصادية لإعادة تشكيلها وفق الرؤية والمصلحة الأمريكية.

وقد تكون إيران أدّت مَهمتها بنجاح (وفق رؤيتهم) وبدأ خطرها يفوق فوائدها.

لم يصل مشروع ولاية الفقيه في المنطقة لبناء نموذج سياسي واجتماعي واقتصادي يُتيح قدراً من الاستقرار في المنطقة، سواء داخل مناطق سيطرته، أو بالتعاون والتفاهم والتسليم بوجود مشاريع او مصالح على الأقل للأمم الأخرى في المنطقة (العرب، اليهود، الترك).

كان المشروع الإيراني مُتوحّشاً مادياً وخططياً إذ لا يرى غيره في المنطقة ويريد السيطرة عليها بمفرده، وكان خطابه واضحاً للعرب يحمل كل أنواع العداء لهم، ويسعى للانتقام من أحداث التاريخ ويُحمّلهم مسؤوليات لا ذنب لهم بها عدا عن كونها غير صحيحة، واستحوذ منهم على القضية الفلسطينية لتحقيق مآربه.

أيضاً كان خطابه مع الدولة العبرية خطاباً لا يتمّ الركون إليه، فإلى جانب شعارات إزالة إسرائيل من الوجود وتحرير ببت المقدس كان العمل جاري على بناء قدرات عسكرية وميليشيات تُحيط بإسرائيل من كل الجهات. استكانت إسرائيل لتعقّل القادة الإيرانيين بإدراكهم لحجم قوة الردع الإسرائيلية، والقيام بعرقلة الأنشطة الإيرانية مثل اغتيال علماء الذرة في إيران وسرقة الأرشيف النووي من قلب طهران، مع بعض الهجمات السيبرانية في الداخل الإيراني، بالإضافة لضربات عسكرية في سوريا على مدى عقد من الزمن تستهدف تلك الضربات مرافق مهمة لتصنيع الأسلحة أو شحنات قادمة من العراق إلى حزب الله في لبنان.

كان التصادم الغربي مع المشروع الإيراني قادم لامحالة، إذ لا يُعقل أن تصل طهران إلى العتبة النووية رغم كل الصخب الطفولي الأمريكي – الإسرائيلي، وإحاطة إسرائيل ومنابع النفط والغاز بكل أنواع الميليشيات والأسلحة وأخذها رهينة بيدها، ورغم أنّ الرئيس ترامب قتل قاسم سليماني جَرّاء فِعلته النكراء بتدمير منشآت آرامكو في السعودية في أيلول 2019 ومحاولته التحكم بإنتاج الطاقة العالمي، وتهديد دول الخليج العربي إلى التصالح مع المشروع الإيراني والرضوخ له، والابتعاد عن النفوذ الأمريكي.

وكانت الأسئلة المخيفة تدور في أذهان صنّاع القرار الغربيون، ماذا لو أنتجت إيران القنابل النووية وزوّدت ميلشياتها في المنطقة بقنابل صغيرة منها؟ خاصةً أنّ كل ما تُنتجه الصناعة العسكرية الإيرانية يذهب للميليشيات حيث يتمّ تزويدها بالأحدث من المنتجات.

بدأ الترهّل والتردّد الأمريكي والغربي عموماً بالتبدّد بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022 حيث لمس الجميع مشروعاً شرقياً خَرَجَ من الأدراج ليتمّ تنفيذه على الأرض، وكان رائده القيصر الروسي وأهداف ذلك المشروع هو إنزال الولايات المتحدة من قيادة النظام الدولي ودحرها عن التفرّد في القطبية العالمية وإنشاء نظام دولي جديد يكون على شاكلة النظام الذي كان سائداً قبل خسارة السوفييت للحرب الباردة.

باتت المعركة على السيادة الدولية مكشوفة وعلنية، وأحد أهمّ ميادينها العالم القديم وهو أوربا والشرق الأوسط، وتمّ إيقاف الاندفاعة الروسية العسكرية، وتمّ كسر سلاح الطاقة الروسي الذي كان يُهدّد به القارة الأوربية؛ وبات امتداد ساحة الصراع إلى الشرق الأوسط مسألة وقت ليس أكثر.

ظهر التحالف العسكري الروسي الإيراني جلياً للعيان، خاصةً أنّ شعرة معاوية التي تَربط عودة إيران للاتفاق النووي قد قُطِعَت.

كانت الترتيبات الأمريكية في الشرق الاوسط للاستعداد لاستحقاقات ساحة الصراع الجديدة تسير على قدمٍ وساق، حيث تمّ إصلاح العلاقات المتوترة مع المملكة العربية السعودية والانخراط في مفاوضات جَديّة لتوقيع اتفاقية أمنية كبرى، وكان توسيع السلام الابراهيمي ليشمل المملكة ودول أخرى لإنهاء حالة الصراع العربي والإسلامي السني تُسابق الربح العاتية.

انقض المحور الشرقي على تلك الجهود في 7 أكتوبر 2023 محاولاً استباق الاستعدادات الأمريكية، وكانت الضربة موجعة ومفاجئة لإسرائيل والغرب عموماً.

ولم تلبث أن انخرطت جماعة الحوثي بالصراع الدولي لِتهدّد الملاحة التجارية الدولية عبر عرقلة العبور في باب المندب.

كانت سلسلة الحروب في البحر الأسود والأبيض والأحمر هي معركة واحدة تُدار بشكل أساسي من موسكو وتحت إشرافها وتُنفذها إيران وأذرعها.

تطورت المواجهات إلى أن اشتبكت إيران وإسرائيل بشكل مباشر في 1 و14 نيسان بالأصالة وليس عبر الوكلاء.

كان القضاء على حركة ح م ا س عسكرياُ في القطاع هدفاً مُشتركاً لإسرائيل والولايات المتحدة بحيث لا تكون جزءاً من معادلة اليوم التالي ولو بأدنى درجات المسؤولية السياسية والادارية وبالتالي زوال اي نفوذ إيراني على الساحل الشرقي للمتوسط تمهيداً لإزالته من سوريا ولبنان.

وبتصاعد التوتر في الإقليم، وللردّ على زيارة نتنياهو للولايات المتحدة والتفويض الذي ناله من الأمريكان، ضرب حزب الله قرية مجدل شمس في تصعيد خطير وحافة هاوية بأخذ الحرب لمنطلقات خطيرة، وإقحام جبهة الجولان في المواجهة، حيث يُناسب إيران وأذرعها حرب مُنخفضة الحدّة تستنزف إسرائيل وطويلة على أمل إنقاذ ح م ا س في غزة، والتوصل لاتفاقات تهدئة في الإقليم تؤدي لفوز الديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية وليس ترامب الزاحف بقوة إلى الببت الأبيض بعد محاولة اغتياله وانسحاب بايدن من السباق الرئاسي

يبدو أنّ الخطط الأمريكية تبلورت بإنهاء حالة ترتاح لها إيران وتناسبها كثيراً، وهي النأي بنفسها عن الحرب والاكتفاء بخوضها عبر الأذرع، ويبدو أنّ نتنياهو عاد من واشنطن ويريد فتح المعركة الكبرى والحاسمة، فقام بقتل فؤاد شكر وهو الرجل الثاني في حزب الله وفي قلب الضاحية الجنوبية لبيروت والتي حذّر حسن نصر من استهدافها، وإن فَعَلَ الإسرائيليون ذلك فهذا يعني الردّ في تل ابيب وحيفا وممكن إشعال الحرب الشاملة، ولم تتأخّر إسرائيل في استدراج إيران للحرب أيضاً، عبر اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران والذي كان في منطقة مُحصّنة في حراسة الحرس الثوري، وفي وقت ذروة استنفار أمني لوجود ضيوف أجانب في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزكشيان.

اعتبر حسن نصر الله وقبله المرشد أنّ قتل هنية ليس فقط اعتداءً على السيادة الإيرانية واختراق الأمن القومي لإيران بل إنه اعتداء على الشرف الإيراني بالذات وإهانة لإيران أمام العالم.

وعملية قتل هنية مدروسة ومخططة لاستدراج إيران لردّ، وكانت الغارات التي دمرت ميناء الحديدة اليمني على بعد 2000 كم من إسرائيل هي بروفة وعتها إيران بأنها ممكن أن تتكرّر في إيران ذاتها لضرب منشآت نووية.

أيضاً حزب الله مُضطرّ للردّ وقد أعلن ذلك حسن نصر ذلك بنفسه في تشبيع القتيل.

مرحلة جديدة دخلها الصراع في المنطقة الغاية منه اقتلاع الأذرع الإيرانية من المنطقة تمهيداً لبناء الشرق الأوسط الجديد، والذي طالما تحدث عنه الأمريكان والإسرائيليون ولم يلقَ إلا السخرية والاستخفاف من أولئك المنفصلون عن الواقع والمستقبل والذين يعيشون في التاريخ ويتنبؤون باضمحلال الدولة اليهودية وزوالها استناداً لروايات لاهوتية غير دقيقة، دون الأخذ بالأسباب لإزالتها أو التعايش معها على الأقل.

لن ينجو الأسد من الحرب طالما أنّ وجوده مرتبط بالاحتلال الإيراني، أو أنّ زواله سيؤدي لزوال الاحتلال الإيراني فهذه معركة خاسر – خاسر ولن تفيده نصائح بوتين المتأخرة جداً عندما استدعاه لموسكو ليبلغها له شخصياً.

نحن على أعتاب شرق أوسط جديد خالٍ من الميليشيات والمسيرات والمخدرات واللطميات.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني