
الطائفية في سوريا: جذورها، تداعياتها، ومستقبلها بعد التحولات السياسية
الطائفية في سوريا ليست مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة أو مسألة تاريخية جامدة، بل هي بنية سياسية متشابكة ترسخت عبر عقود من التحولات السياسية، والتدخلات الخارجية، والصراعات الداخلية. ولفهم هذه الظاهرة بعمق، لابد من تفكيك جذورها التاريخية، وتحوّلاتها خلال حكم البعث، ودور القوى الإقليمية والدولية في تأجيجها، وانعكاسات سقوط النظام السوري على مستقبل التوازنات الطائفية، وأيضاً تحديات جديدة تتعلق بإدارة الانقسامات الطائفية في ظل الحكومة الانتقالية، وسط مخاوف من إعادة إنتاج الطائفية بصيغ جديدة تهدد وحدة البلاد.
الجذور التاريخية للطائفية في سوريا:
الطائفية في سوريا بدأت تتشكّل كإحدى أدوات السياسة منذ عهد الاستعمار الفرنسي، حيث اعتمدت سلطات الانتداب سياسة “فرق تسد”، فعملت على تعزيز الفروقات الطائفية لضمان سيطرتها على البلاد، فأنشأت جيش الشرق الخاص الذي ضم مجندين من الأقليات، خصوصاً العلويين والدروز، وأقصت الغالبية السنية عن مراكز القوة العسكرية والإدارية. هذه السياسة لم تكن مجرد أداة استعمارية، بل تركت إرثاً طويل الأمد انعكس لاحقاً في بناء الدولة الحديثة، حيث ظلت مسألة “الخوف الطائفي” تتحكم في الكثير من القرارات السياسية.
بعد الاستقلال عام 1946، شهدت سوريا محاولات لتأسيس دولة وطنية تتجاوز التقسيمات الطائفية، لكن الحكم ظل يتأرجح بين القوى المختلفة، مع وجود مخاوف متصاعدة لدى الأقليات من هيمنة الأغلبية السنية على القرار السياسي. إن هذا القلق تصاعد بشكل أكبر بعد الانقلابات العسكرية المتكررة، إلى أن وصل حزب البعث إلى السلطة عام 1963، حيث بدأت الطائفية تأخذ منحى جديداً، لم يكن معلناً لكنه كان مترسخاً في بنية الدولة.
الطائفية كأداة للحكم في عهد حافظ الأسد:
عندما استلم حافظ الأسد السلطة عام 1970، كانت سوريا قد خرجت من مرحلة الانقلابات العسكرية ودخلت مرحلة حكم الفرد الواحد. فالأسد أدرك أن استقرار حكمه يتطلب السيطرة الكاملة على الدولة، وهنا، لعبت الطائفية دوراً مركزياً في ترسيخ سلطته. لذا اعتمد الأسد على بناء شبكة قوية من التحالفات داخل الطائفة العلوية، حيث منح امتيازات واسعة لأبناء الطائفة في الجيش والأجهزة الأمنية، مع تهميش السنة سياسياً. ورغم أن هذا التوجه لم يكن معلناً، إلا أنه كان واضحاً في هيكلة الدولة، حيث باتت المراكز العسكرية الحساسة محصورة في يد الضباط العلويين.
إن الاستراتيجية التي اتبعها الأسد لم تقتصر على تعزيز النفوذ العلوي، بل اعتمد على تحييد الطوائف الأخرى عبر سياسات اقتصادية وأمنية هدفت إلى إبقاء حالة التوازن الطائفي داخل الدولة، لكنه أيضاً لعب على مخاوف الأقليات، مروجاً لفكرة أن نظامه هو الضامن الوحيد لاستقرار البلاد أمام تهديدات الإسلام السياسي. إن هذه السياسة كانت فعالة على مدار العقود الثلاثة لحكمه، لكنها تركت إرثاً ثقيلاً ورثه ابنه بشار الأسد.
بشار الأسد والتحوّل الطائفي في سوريا:
عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، لم تكن في بداياتها ثورة من لون واحد، بل كانت احتجاجات شعبية ضد الفساد والاستبداد. إلا أن النظام أدرك سريعاً أن القمع وحده لن يكون كافياً لإخمادها، لذا لجأ إلى الطائفية كأداة لتفكيك المعارضة. فاستخدم الأسد خطاباً طائفياً لتصوير الاحتجاجات على أنها “مؤامرة سنية” تهدف إلى القضاء على العلويين والأقليات، مما دفع قطاعات واسعة داخل الطائفة العلوية إلى دعم النظام خوفاً من مستقبل غامض في حال سقوطه.
في المقابل، بدأت بعض الفصائل المسلحة المعارضة في تبني خطاب طائفي مضاد، خصوصاً مع تدخل إيران وحزب الله لدعم الأسد. إن هذه الديناميكيات جعلت الصراع يتحول تدريجياً من ثورة سياسية إلى حرب طائفية مفتوحة، وأصبحت هوية كل طرف جزءاً من معركته السياسية والعسكرية. السنوات التي تلت ذلك شهدت عمليات تهجير واسعة للسكان بناءً على الانتماءات الطائفية، وتحولت مناطق بأكملها إلى معازل مغلقة طائفياً.
سقوط الأسد وتوازنات القوة الجديدة: مع سقوط نظام الأسد2 في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة جديدة من إعادة تشكيل المشهد السياسي، لكن الطائفية لم تختفِ، بل أعيد إنتاجها بصيغ أخرى، بل أصبحت أكثر وضوحاً في ظل الخطاب الانتقامي الذي تبنته بعض الفصائل السنية المتشددة، ما يزيد من خطر إعادة إنتاج الطائفية في المجتمع السوري.
محدودية تمثيل السلطة الانتقالية لمكونات المجتمع:
رغم أن الحكومة الانتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع قد تشكلت، إلا أنها لم تنجح في استيعاب كل المكونات السورية، خاصة الأقليات التي كانت تعاني من تهميش مزدوج؛ أولاً بسبب سياسات النظام السابق، وثانياً بسبب سياسات الحكومة الجديدة التي لم تضع ضمانات كافية لحمايتها. إن هذا التهميش يجعل مخاوف الأقليات مشروعة، حيث يرون أن المرحلة الجديدة قد تعيد نفس الديناميكيات السابقة، لكن بوجه آخر.
التراخي مع الخطاب الطائفي والجماعات الجهادية:
عدم وجود سياسات حازمة لمواجهة الخطاب الطائفي داخل السلطة الانتقالية أدى إلى تفشي الروايات الطائفية في النقاشات السياسية والإعلامية وعلى ميديا التواصل الاجتماعي، مما جعل التحريض الطائفي أكثر انتشاراً. كما أن وجود فصائل جهادية متطرفة داخل التركيبة السياسية يعزز هذه الاتجاهات، حيث تقدم هذه الفصائل نفسها كمدافعة عن هوية معينة، وهو ما يعمق الانقسامات داخل المجتمع.
انعكاسات أحداث اللاذقية:
أحداث اللاذقية الأخيرة كشفت مدى هشاشة الوضع الطائفي في سوريا، إذ شهدت المدينة اشتباكات دامية بين القوات الأمنية ومسلحين موالين للنظام السابق، ما أسفر عن سقوط أكثر من ألف قتيل. هذه المجزرة أثارت ردود فعل دولية قوية، حيث طالبت فرنسا وألمانيا بمحاسبة المسؤولين عنها، بينما اعتبرت الولايات المتحدة أن الفصائل المتطرفة مسؤولة عن التصعيد. هذه الأحداث أكدت أن سوريا لا تزال تواجه خطر الطائفية.
انعكاسات أحداث اللاذقية، جرمانا، صحنايا، والسويداء:
الأحداث الأخيرة في اللاذقية، جرمانا، صحنايا، والسويداء أظهرت بوضوح أن الطائفية لا تزال تشكل تهديداً خطيراً للنسيج الاجتماعي في سوريا، حتى بعد سقوط النظام السابق. ففي اللاذقية، أدت الاشتباكات بين القوات الأمنية والمسلحين الموالين للنظام إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، معظمهم من الطائفة العلوية، مما كشف عن مدى الاستقطاب الطائفي الذي تفاقم نتيجة سياسات النظام السابقة. هذه الأحداث لم تكن مجرد مواجهات عسكرية، بل عكست واقعاً اجتماعياً مأزوماً، حيث تسعى بعض الجماعات إلى إعادة ترتيب نفوذها الطائفي في ظل غياب سلطة مركزية قوية.
أما في جرمانا، فقد كشف الحادث المتعلق بتسجيل صوتي مسيء للنبي محمد عن مدى هشاشة العلاقات الطائفية، حيث أدت ردود الفعل الغاضبة إلى مواجهات عنيفة بين أطراف مختلفة، وسط تصاعد الخطاب الطائفي في النقاشات السياسية والاجتماعية ومواقع التواصل الاجتماعي. هذا الحدث أكد أن الطائفية ليست فقط إرثاً سياسياً، بل أصبحت محفزاً رئيسياً للنزاعات المجتمعية، مما يعكس حجم التحديات التي تواجه سوريا في مرحلة إعادة البناء.
وفي السويداء، شهدت المنطقة تحركات سياسية وأمنية تعكس المخاوف المتزايدة من التدخلات الخارجية في إعادة تشكيل خريطة النفوذ الطائفي، حيث اجتمع القادة المحليون لمناقشة مستقبل المنطقة في ظل تغيرات المشهد السياسي. هذه التوترات المستمرة تبرز أن الطائفية لم تنتهِ، بل دخلت مرحلة جديدة من إعادة التشكيل، حيث تحاول أطراف مختلفة فرض مصالحها من خلال استغلال الانقسامات الطائفية.
التحديات المستقبلية:
رغم أن سقوط النظام يمثل لحظة تاريخية لإعادة بناء الدولة، إلا أن هناك مخاطر تتعلق بإعادة إنتاج الطائفية بشكل جديد، خصوصاً إذا لم تتم إدارة المرحلة الانتقالية بحكمة. فبعض الفصائل المسلحة قد تلجأ إلى استغلال الطائفية لتعزيز نفوذها، بينما قد تسعى القوى الإقليمية إلى استغلال الانقسامات لضمان نفوذها المستقبلي في سوريا. إن هذه التحديات تفرض على الحكومة الانتقالية مسؤولية كبيرة في اعتماد سياسات تعزز مفهوم المواطنة، وتحد من تأثير الطائفية في الحياة السياسية والاجتماعية.
إحدى الخطوات الضرورية في هذا الاتجاه هي إصلاح النظام التعليمي ليكون قائماً على قيم العدالة والمواطنة المتساوية، وليس التقسيم الطائفي. كما يجب على الإعلام أن يكون أداة لتعزيز الوحدة الوطنية، بدلاً من تأجيج الانقسامات. إن سنّ قوانين تحظر الخطاب الطائفي في السياسة والإعلام سيكون خطوة محورية نحو خلق بيئة أكثر استقراراً، كما أن تشكيل حكومة تعتمد على الكفاءة بدلاً من الولاءات الطائفية سيمثل نقطة تحول في بناء سوريا الجديدة.
يجدر بالذكر أن إعادة بناء البلاد تتطلب أيضاً التركيز على التنمية الاقتصادية، حيث يجب معالجة الفجوات الاقتصادية بين الطوائف المختلفة لمنع استغلال الفقر والبطالة في تأجيج الطائفية. ومن جهة أخرى فإن إنشاء برامج للحوار المجتمعي بين مختلف المكونات السورية سيساعد في تعزيز الثقة المتبادلة، وكسر الصور النمطية التي تعززت خلال سنوات الحرب. وبالتالي هذه الجهود ستكون ضرورية لضمان أن يكون المستقبل السوري قائماً على أسس المواطنة الحقيقية، وليس على حسابات طائفية ضيقة.
في نهاية المطاف، فإن تجاوز الطائفية في سوريا يتطلب إرادة سياسية ومجتمعية جادة لإعادة بناء الدولة، وضمان أن تكون الهوية الوطنية قائمة على أساس المواطنة لا الولاءات الطائفية التي قادت البلاد إلى أزمات متتالية. خلاصة القول هذه لحظة تاريخية قد تحمل في طياتها فرصة نادرة لإعادة تعريف الهوية السورية، وإذا ما تم التعامل معها بحكمة، فقد يكون المستقبل أكثر استقراراً وعدالةً لجميع السوريين.