الصراع بين قُوّة الحق، وحَقّ القُوّة
سعى الغرب إلى التخلّص من اليهود عبر إقامة وطن قومي لهم ودفع اليهود في أوربا والعالم إلى الهجرة إليه، وتاريخياً عانى اليهود من الاضطهاد في مجتمعاتهم كونهم يهوداً وخاصة في أوربا من شرقها إلى غربها وكانت المحرقة النازية لليهود هي أعلى درجات الاضطهاد الذي تعرّضوا له.
وفي نهايات الحرب العالمية الأولى تعهّدت القوة العظمى الأولى (بريطانيا العظمى) في العالم عبر وعد بلفور 1917، بإنشاء هذا الوطن، ولأسباب جيوسياسية واستعمارية وخوفاً من نهوض إمبراطورية عربية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية تَمّ اختيار موقعها في قلب العالم العربي تكون رأس الرمح الغربي فيه و تُتيح إعاقة أي مشاريع عربية كبرى، وبذلك تخلّصت أوربا منهم ولم ترمهم في الأرجنتين أو أوغندا أو أي مكان آخر بل استفادت إستراتيجياً من هذا الجنين الذي زرعته.
وكانت مُسوّغات الجذب اليهودي للمشروع الصهيوني تُساعد على اختيار فلسطين حيث التراث الديني اليهودي والأساطير التوراتية والسرديات التاريخية حاضرةً في تلك البقعة من الأرض.
تَولّت بريطانية (والتي نكثت بوعودها وعهودها للعرب بإقامة مملكة عربية مستقلة عاصمتها الحجاز بزعامة شريف مكة) تولت رعاية وعد بلفور وتحويله إلى حقيقة على الأرض وذلك من خلال احتلالها لفلسطين، وتم تهيئة الجو الدولي بعد الحرب العالمية الثانية لإعلانها دولة مستقلة في الأمم المتحدة.
تولّت فرنسا أيضاً الرعاية الكاملة لدولة الاحتلال وكان معظم تسليح العصابات الصهيونية التي تحولت إلى جيش نظامي، والأهمّ أقدمت فرنسا على الخطوة الأخطر لضمان أمن إسرائيل وتفوّقها على جيرانها العرب مجتمعين بمساعدتها في بناء القوة النووية الخاصة بها وبالتالي ضمان عدم جُرأة أحد على مهاجمتها.
أيضاً حظيت إسرائيل برعاية المعسكر الشرقي وكان الاتحاد السوفييتي (صديق العرب) من أوائل الدول التي اعترفت بها وعملت على عدم تسليح جيرانها بسلاح نوعي يُهدّد وجودها.
ثُمّ تولّت الولايات المتحدة (بعد حرب 1967) مَهمّة حماية ورعاية دولة الاحتلال إلى يومنا هذا.
وكان ضمان التفوّق النوعي لها من استراتيجيات الغرب الثابتة، وإضافة إلى ذلك دخلت إسرائيل في قلب السياسات الأمريكية الداخلية حيث تَمّ إنشاء لوبي ضاغط قوي يعمل لصالحها ويخشاه كل السياسيين الأمريكان ولابد لكل طامح في الوصول إلى منصب من مغازلته والحصول على رضاه.
وبالتالي كانت إسرائيل تُساهم في تحديد السياسات الأمريكية والغربية عموماً في المنطقة وصياغتها بل أحياناً تكون تَصبّ في مصالحها ولا تفيد دول الغرب كثيراً.
ودخلت علاقات الغرب الأوربي والولايات المتحدة في أزمات عنيفة في علاقاتها مع الدول العربية بسبب دعمها وانحيازها المطلق لإسرائيل وكانت كفة دولة الاحتلال راجحة على كل العلاقات والمصالح مع الدول العربية والإسلامية، فهي الخط الاحمر الذي لا يُسمح لأحد بتجاوزه ليس مادياً فقط بل حتى معنوياً، بل وكان الراغبون بتبييض صحائفهم أو فتح علاقات مع العم سام يرون أنّ أنسب طريقة لذلك الدخول هو الباب الإسرائيلي وذلك إدراكاً منهم لمدى العروة الوثقى الرابطة بينهما.
قد لا يفهم الغرب الاستعماري أهمية الأرض وحتى المقدسات عند الإنسان العربي، فقد يراها شيئاً غير مُقدّس، والأرض يفهمها الغرب إحدى أدوات الاستثمار، فقد استعمرت بريطانيا وفرنسا لقرون طويلة أجزاءً واسعة من الأراضي المنتجة للثروات أو التي تختزنها ولكنها كانت تَتَخلّى عنها عندما تكون كُلفة الاحتفاظ بها أعلى من مواردها، فالأرض عندهم إحدى أدوات الإنتاج ولا قُدسيّة لها.
حتى إنّ الولايات المتحدة اشترت بالمال أراضٍ من روسيا القيصرية وغيرها بالمال وضمّتها إلى دولتها الوطنية.
وقد يكونون لا يعترفون أيضاً بأحقية البشر بامتلاك أراضيهم التي يعيشون عليها، فقد أباد المهاجرون الأوربيون الأوائل إلى الولايات المتحدة السكّان الأصليين من الهنود الحمر وتملّكوا أراضيهم ونفس الشيء حدث في أستراليا، ما أريد قوله إنهم يؤمنون بأنّ من يمتلك القوة يمتلك الحق وليس للحق أيّ قوة في نظرهم، وهذا بالطبع ما يسعون لتطبيقه في دولة الاحتلال على الأرض الفلسطينية.
ولكنّ الغرب يُدرك أنّ الاحتلال الاستيطاني لكي ينجح لابُدّ من إبادة الشعب الأصلي مادياً وإن لم يكن ذلك مُمكناً فأن يَتُمّ كَسرُ إرادة المقاومة لديه.
وفشلوا في هذا النموذج أيضاً حيث مارست فرنسا مثلاً أقسى درجات الوحشية في الجزائر لإبادة السكان أو كَسر إرادة من تَبقّى طيلة 130 عاماً واعتبرت الأرض الجزائرية امتداداً للأراضي الفرنسية عبر البحار وليست مُستعمرة كباقي المستعمرات، وبالطبع مارست هذه الأفعال الإجرامية حكومات تتبنى شعارات وأهداف الثورة الفرنسية في العدالة والحرية والمساواة، وبالطبع كان الفرنسيون أمينين على تلك الأهداف والشعارات في بلدهم ولشعبهم وليس للشعوب الأخرى.
وفَشِل الفرنسيون في ابتلاع أرض الجزائر وفَشِل البريطانيون في ابتلاع جمهورية جنوب أفريقيا أيضاً رغم كل الأفعال الوحشية التي ارتكبوها وتَحرّر البلدان من الاستعمار الاحتلالي، وسيُثبت التاريخ يوماً ما (وقد لا يكون بعيداً) أنّ الاستعمار الصهيوني لفلسطين طريقه الحتمي إلى الزوال.
انقرض في إسرائيل الجيل العلماني أو ما يُمكن تسميته بالآباء المُؤسّسين لدولة إسرائيل الصهيونية العَلمانية ولم يترك له أيّ قاعدة شعبية وازنة في المجتمع الإسرائيلي، ذلك الجيل الذي كان مُستعداً للتخلي عن أراض عربية محتلة لأهداف دمجها يوماً ما في محيطها العربي، وفعلوا ذلك في مصر بإعادة سيناء كاملةً وكانوا على استعداد لإعادة الجولان فيما لو قبل المقبور حافظ الأسد ذلك، وانسحب شارون من بيروت ومن غزة، وإيهود باراك من جنوب لبنان، وقد يقول بعضهم إنّ تلك الأراضي لا دعاوى أو أساطير توراتية أو سرديات تاريخية حولها ولكنها بالفعل تُمثّل عُمقاً دفاعياً مُهماً لقلب دولة الاحتلال.
يُجمع العلمانيون والمتدينون على استمرار ابتلاع أراضي الضفة الغربية التي تُسميها أدبياتهم يهودا والسامرة، وتَمّ زرع المستوطنات السرطانية فيها، وتُرك الرعاع من قطعان المستوطنين اليهود يعيثون فساداً فبها.
وبِتوسّع قاعدة اليمين الإسرائيلي الانتخابية الذي يُنتج الحكومة والكنيست والذي تِفرّد في الحكم منذ نهايات القرن الماضي، كان في نِيّته عدم الوصول إلى حَلّ دائم ومُنصف للقضية الفلسطينية، عبر عِدّة مسارات.
- تجاهل كُلّ القرارات الأممية والدعوات الصريحة (الخجولة) للعمل على تنفيذ تلك القرارات، واستكان العدوّ لحالة أو وهم أنّه بخروج مصر من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي عبر معاهدة كامب ديفيد فقد انتهى أيّ قُدرة أو أمل عربي بتهديد وجودها.
- عدم تنفيذ إسرائيل للحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية والتي قبل بها (مُكرهاً) الزعيم الراحل ياسر عرفات بإقامة دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين التاريخية.
- السعي الإسرائيلي الحثيث لشق الصفّ الفلسطيني وتمزيق الوحدة الوطنية والقرار السياسي للشعب الفلسطيني، عبر دعم غير مباشر لحركة حماس الإسلامية وتمكينها من حُكم قطاع غزة والنيل من شرعية منظمة التحرير الفلسطينية والتي انبثقت منها السلطة الفلسطينية والتي تُعتبر الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، إنّ دعم اسرائيل لثنائية الشقيقين العدوين فتح وحماس، كان الهدف منه تبديد حلم إقامة دولة فلسطينية واستحالة حَلّ الدولتين على الأرض وتجميع الجهود العربية والغربية الصادقة إلى توحيد السلطتين الفلسطينيتين على الأقلّ قبل حَلّ الدولتين.
- استثمرت دولة الاحتلال الإسرائيلي كثيراً في مشروع ولاية الفقيه القومي والمذهبي المُعادي للعرب على أمل إضعافهم، ولأنّ إسرائيل والولايات المتحدة تعلمان مدى وحشية وتَغوّل المشروع الفارسي والتهديد الوجودي للدول العربية، فكانت تتوقّع (وهو ما حصل فعلاً) إلى تَوجّه دول عربية كثيرة بِمَوجة السلام الإبراهيمي لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال دون حَلّ القضية الفلسطينية وبالأساس هي دول لم تَخُض حروباً مع الدولة العبرية ولا تُجاورها جغرافياً ولكن (وخاصة دول الخليج) تسعى لحماية نفسها من الخطر الفارسي بالتحالف مع قُوّة إقليمية كبرى، بما يُمكن أن نُسميه الأمن مقابل السلام.
بالطبع كان ذلك لا يروق لإيران والذي عارضته بِشدّة، وكانت كل المؤشرات تَدلّ على قُرب تطبيع سعودي – إسرائيلي، أوقفته (ولم تُجهضه) عملية طوفان الأقصى والحرب الجارية الآن على غزة.
يُدرك العدوّ أنّ الشباب الفلسطيني الذي يُقاتل اليوم في غزة والشباب المُنتفض في الضفة والمُهجّر الفلسطيني في الغرب (وقد يكون وُلِدَ فيه) وُلِدَ مع آبائه بعد نكبات الحروب الكبرى مع دولة الاحتلال قبل إعلان إنشاء الكيان وبعد ذلك بل ولد بعد الانتفاضات الفلسطينية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وأوائل التسعينيات منه، وبعد إخفاقات السلام العربي مع الدولة العبرية بل إنّ الشباب منهم وُلدوا بعد اتفاقية أوسلو وسعي الاحتلال لعدم تطبيقها.
هذا الجيل المقاوم لم تهزمه النكبات السابقة ولم يُجدِ نفعاً العنف الإسرائيلي المجنون في إبادة أطفال غزة ولا السعي الحثيث لاقتلاع السكان من أرضهم ورميهم في سيناء وأماكن أخرى، وقد يكون الرُعاة والحُماة الغربيون استوعبوا الدرس الفلسطيني الذي أسقط كل نظريات الردع الإسرائيلي (النووي منها والإلكتروني والتقليدي) وخاض معركة على أرض ما يُعرف بأرض إسرائيل وهزمها وهَزّ وجودها من الداخل خلال الساعات السبع الأولى من عمر العملية.
وأبطلوا دعامة النظرية اليهودية للأمن القومي بأنّ اليهودي العسكري والمدني لا يُمكن أن يقتله أحد في معركة داخل أرض الميعاد وإنّ حروب إسرائيل تكون في أراضي الدول الأخرى.
وإذا سلك الغرب والولايات المتحدة تحديداً المسلك نفسه عشية تحرير الكويت بإغداق الوعود عن ضرورة السلام العادل والشامل واكتفوا بعقد مؤتمرات صورية مثل مدريد2، ولم يبحثوا عن حَلّ يُرغم العدو على الانصياع لتلبية الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية عبر حل الدولتين، فلن يطول الوقت لنرى الجيل الذي رأى المجازر الإسرائيلية في غزة يطوف من جديد ليبتلع معه الأقصى وما حوله.
إنّ أيّ حل عادل للقضية الفلسطينية سَيؤمّن الاستقرار لمنطقة الشرق الاوسط بِرمّتها ويكون مَدعاةً لتصالح تاريخي عربي مع الغرب، ويقطع أيدي الفرس الطامحين والطامعين لبسط نفوذهم على المنطقة العربية تحت ذريعة تحرير فلسطين وهم منها براء.