fbpx

الدولة الحقيرة: سوريا في عهد الأسدين

0 123

منذ أن اعتلى حافظ الأسد سدة الحكم في انقلابٍ عسكري نُعِم عليه باسم “الحركة التصحيحية”، حيث دخلت سوريا نفقاً مظلماً امتد لعقودٍ من الزمن. نفقٌ عنوانه الخوف، وأعمدته المخابرات، وسقفه الحديدي لا يسمح حتى للفكرة أن تخرج دون إذن. لم تكن الدولة، كما ينبغي لها أن تكون، حامية لمواطنيها، بل تحولت تدريجياً إلى كيان متغوّل، يلتهم الحياة من كل زاوية.

جمهورية الخوف

بنى الأسد الأب دولة أمنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. خمسة عشر جهازاً أمنياً، عشرات الفروع، ومئات آلاف المخبرين الذين يعيشون بين الناس ويتنفسون معهم، لا لشيء سوى لجمع الكلام وتسجيل الأنفاس. وصار المواطن لا يثق بجاره، وأحياناً لا يثق بأخيه. إن تفكيك المجتمع لم يكن نتيجة جانبية، بل سياسة متعمدة. والخوف؟ كان عملة يومية، وخبز النظام الحاكم وشرابه.

الفساد كمنهج حكم

ما أن استتب الأمر لحافظ، حتى بدأت الدولة تتحول إلى “شركة خاصة”. فالفساد لم يكن انحرافاً عن المسار، بل صار هو المسار. حيث المناصب تُباع، والمشاريع تُمنح، والولاء الشخصي يغلب الكفاءة، حتى غدت سوريا مزرعةً كبيرة تُدار بمنطق العائلة والعشيرة والطائفة. وعندما جاء بشار، الذي بُشّر به كوجه شاب يحمل الأمل، ورث المزرعة بكل أدواتها، وأضاف عليها لمسة “تحديثية” جعلت من أمراء الحرب ورجال الأعمال شركاء في النهب المنظم.

الطائفية كسلاح

ما أن أحس النظام بالخطر، حتى سلّ سلاح الطائفية. حافظ، رغم طائفيته البنيوية، أبقاها تحت الطاولة في كثير من الأحيان. أما بشار، ففتحها على مصراعيها. الجيش، الأمن، القضاء، الإعلام… تحولت إلى أدوات ترسيخ للهيمنة الطائفية، ليس دفاعاً عن طائفة بقدر ما هو استخدام وقح لها لتثبيت حكمٍ يستفيد من الانقسام. حتى صار كثير من السوريين لا يرون في بعضهم شركاء وطن، بل منافسين على البقاء.

من تدمر إلى صيدنايا

في سوريا الأسد، المعتقل ليس مؤسسة عقاب بل آلة طحن. من سجن تدمر، حيث أُبيد آلاف الإسلاميين في الثمانينيات، إلى صيدنايا، “المسلخ البشري” كما وصفته تقارير دولية، حيث تسلسلت جرائم ضد الإنسانية بصمتٍ محلي وتواطؤ دولي. آلاف المختفين قسراً، وعشرات آلاف الجثث، وملايين القصص التي ما زالت تبحث عن عدالة.

الثورة: المرآة التي كشفت العفن

حين خرج السوريون إلى الشوارع في 2011، لم يكونوا مجرد حالمين. كانوا شهوداً على حقارة لم تعد تُحتمل. لكن رد النظام لم يكن مجرد قمعٍ سياسي، بل إعلان حرب على مجتمع بأكمله. براميل، كيماوي، اغتصاب، تهجير… لقد كشف الأسد الابن عن الوجه الحقيقي للدولة التي بناها أبوه: دولة لا ترى في الشعب سوى عدوّ، ولا ترى في الوطن سوى مزرعة يجب أن تبقى بيدها أو تُحرق.

بين الاحتلالات: سوريا بلا سيادة

بعد تفكك السيطرة المركزية، لم تعد سوريا تُدار من دمشق، بل من موسكو، وطهران، وأنقرة، وواشنطن وتل أبيب. الروس قصفوا ووقّعوا اتفاقيات، والإيرانيون نشروا ميليشيات، وإسرائيل قصفت مراراً دون رد، وتركيا أصبحت موجودة في شمال البلاد تدريجياً. ولم يعد الأسد حتى دمية، بل حارساً بوظيفة رمزية في قصر محاط بجيوش أجنبية. بين مناطق النفوذ وتقاسم الحصص، حيث تلاشت السيادة، وضاعت الدولة.

إعلام التزييف والتواطؤ

الإعلام في عهد الأسدين لم يكن سلطة رابعة، بل كلب حراسة للنظام. من تسويق “القائد الخالد” إلى تبرير الجرائم اليومية، فأصبح الإعلام الرسمي ماكينةً ضخمة للتزييف، تحوّل الكارثة إلى نصر، والمجزرة إلى “عملية تطهير”. ومع انطلاق الثورة، لعب دوراً رئيسياً في التحريض، والتضليل، ونزع الإنسانية عن الضحية.

أما الإعلام المعارض، الذي كان من المفترض أن يكون منبراً للحقيقة، فقد سقط في فخ الولاءات والتمويل، وتحوّل كثير منه إلى أدوات لتصفية الحسابات أو تلميع وجوه المعارضة المهترئة. وهكذا، ضاعت الحقيقة بين أبواق النظام وصدى الخصوم.

ختاماً: وطنٌ مسروق وجرحٌ مفتوح

سوريا في عهد الأسدين لم تكن وطناً، بل غنيمة. دولة تحوّلت إلى شركة أمنية، جيشها إلى ميليشيا عائلية، ومؤسساتها إلى أدوات قمع وفساد. وما الثورة إلا صرخة في وجه هذه الحقارة الممتدة. صرخة لم تُكتم، ورغم الدم، ورغم الخراب، ورغم تواطؤ العالم. سوريا اليوم لا تزال جرحاً مفتوحاً، لكن التاريخ لن يُسامح، ولن ينسى. فالدولة الحقيرة، مهما طالت، مصيرها الزوال.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني