الحرب وأثرها على الالتزامات التعاقديّة
وردتنا عدّة تساؤلات حول الرأي القانونيّ فيما تقوم به “سلطات أسد” من عمليّات الاستيلاء غير المشروع على العقارات والشقق السكنيّة العائدة للمكتتبين عليها لدى الجمعيّات السكنيّة، أو الجمعيّات الفلاحيّة، أو حتى البنوك والمصارف الرسميّة أو الخاصّة بسبب تأخّر أصحابها عن سداد قيمة الديون المؤجّلة “الأقساط”، وطرحها للبيع في المزادات العلنيّة استيفاءًا لتلك الأقساط. واستجابةً لتلك التساؤلات نبيّن رأيّنا القانونيّ حولها الذي يحتمل الأخذ والردّ.
يلعب الزمن دوراً مهمّاً في بنيّة العقود القانونيّة فهو محل اعتبار لجهة بدء وانتهاء الالتزام، كونه معيار تحديد زمن الاستحقاقات القانونيّة، وسريان المهل والمُدَد القانونيّة أو الاتفاقيّة، سواء كانت مدد سريان الالتزام أو مهل سقوطه، وتنقسم العقود من حيث الزمان إلى عقود فورية “عاجلة”، وعقود مستمرة “آجلة”. فالعقود الفورية هي تلك التي لا يتدخل الزمن في تحديد مقدار ما يؤدّى من الالتزامات المتولّدة عنها مثل عقد البيع الناجز. أما العقود المستمرّة “الآجلة” فهي تلك التي يتوقف مقدار ما يؤدّى من الالتزامات الناشئة عنها على الزمن، إذ أنّ هذه الالتزامات تضيق في مداها أو تتسع، بحسب قِصَر أو طول المدة التي يتم تنفيذ العقد خلالها. ومثال العقود المستمرة عقد الإيجار وعقد العمل وعقد التوريد وعقود البيع بالتقسيط طويل الأجل.
الأصل في البيع الآجل، أو بيع التقسيط، أن تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري بمجرد البيع، وقد بيّنت المادة 398 من القانون المدنيّ السوري أحكام البيع ” مؤجّل الأداء” حيث أجازت للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوفاً على أدائه الثمن كله ولو تم تسليم المبيع. كما أجازت في حال كان أداء الثمن يُدفع أقساطاً، للمتعاقدين أن يتفقا على أن يستبقي البائع جزءاً منه تعويضاً له عن فسخ البيع إذا لم توفَّ جميع الأقساط. وإذا وفيت الأقساط جميعاً، فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مستنداً إلى وقت البيع.
كما فرضت المادة 407 منه على البائع عدم التعرّض للمشتري في الانتفاع بالمبيع كلّه أو بعضه، سواء كان التعرض من فعله هو أو من فعل أجنبيّ يكون له وقت البيع حق على المبيع يحتجّ به على المشتري. ويكون البائع ملزماً بالضمان، ولو كان الأجنبي قد ثبت حقه بعد البيع، إذا كان هذا الحق قد آل إليه من البائع نفسه. وحمّلت المادة 428 منه تبعات هلاك المبيع على البائع إذا كان قد هلك بفعل البائع.
وفي حال وقوع حوادث استثنائيّة غير متوقّعة فقد بيّنت المادة “148” من القانون المدنيّ أثرها على الالتزام التعاقدي حيث اعتبرت أنّ العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون. ومع ذلك، إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الواسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي، تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.
الأصل يقول: إن العقود لا تنحل. ولكنّ هذه القاعدة ليست مطلقة فقد ينحل العقد نتيجة أسباب معينة في الأساس ومنها “الفسخ والانفساخ والإقالة، وقد بيّن القانون أحكام انحلال العقد في المواد “158إلى161”:
الفسخ: وهو نوعان قضائيّ وقانونيّ:
الفسخ القضائي: وهو ما نصّت عليه بالمادة “158” التي تمنح الدائن حقّ طلب فسخ العقد في حلال إخلال المدين بالتزامه، حتى يتخلص من التزاماته، فالفسخ جزاء اختياري يمنحه القانون للدائن ضد مدينه المخلّ بالتزامه. والأصل أن الفسخ يتم بحكم القاضي، بناء على طلب الدائن، شريطة توافر شروطه. وللقاضي إذا ما طُلب منه الفسخ سلطة واسعة الحدود، فله أن يُنظِر المدين إلى ميسرة، بأن يمنحه أجلاً للوفاء بالتزامه، وله أن يرفض الفسخ كلّه، على الرغم من توافر شروطه، وذلك في الحال التي يرى فيها أن مالم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى التزاماته في جملتها.
الفسخ القانونيّ “الاتفاقي”:
وهو ما نصّت عليه المادة”159″ وهو فسخ العقد من تلقاء نفسه وبقوة القانون إذا تضمن العقد شرطاً قاطعاً في الدلالة على ما سبق.
انفساخ العقد:
وهو ما نصّت عليه المادة “160” وهو انقضاء التزام المتعاقدين وزوال آثاره القانونيّة لاستحالة محلّ الالتزام عندما يصبح تنفيذ التزام أحد طرفيه مستحيلاً استحالة موضوعية مطلقة لسبب لا يُعزى إليه، على أنه قوة قاهرة أو من فعل الغير، فينقضي هذا الالتزام لاستحالة محله، وينقضي الالتزام المقابل له لزوال سببه.
وإذا انحل العقد بسبب الفسخ أو الانفساخ زال من وقت إبرامه وعدّ كأنه لم يكن أصلاً. فانحلال العقد يحدث بأثر رجعي، ويستثنى من هذه القاعدة العقود المستمرة كالإيجار وعقد العمل، إذ لا يكون لانحلال العقد أثر إلا من تاريخ وقوعه، على قاعدة “يُستثنى من رجعية الفسخ ما من شأنه أن يؤدي إلى حماية من لا يكون حسن النية”.
وسنداّ للمادة “160” إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه، كحادث مفاجئ، أو قوة قاهرة، أو خطأ من المضرور، أو خطأ من الغير، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر، ومن باب أولى عدم إرهاقه في تنفيذ الالتزام أو نزع ملكيّة المبيع منه لا قضاءً ولا اتفاقاً، فالأولى العودة إلى الأصل في العقود هو” العدالة ” أي التوزان بين المتعاقدين ومن مقتضياتها نَظِرة المدين المُعسر إلى حين ميسرة أو تعديل شروط العقد بما يتناسب مع الحادث الطارئ مع حفظ الحق للمتضرر بالتعويض عمّا لحقه من ضرر نتيجة تأخّر تنفيذ الالتزام.
وتعرّف الظروف الطارئة قانوناً: بأنها حوادث طارئة تسمح للأطراف بإعادة المفاوضات فيما بينهم من أجل تعديل اتفاقهم أو التزاماتهم وذلك عند حدوث ظروف استثنائية مؤثرة في التوازن العام للاتفاق أو الالتزام ومعطياته الأساسية التي وقع العقد استناداً إليها. وهذه الظروف تُنشئ صعوبة في الالتزامات ولا تشكل استحالة مطلقة. وقد أخذ بها المشرّع السوري في المادة 148 المذكورة أعلاه.
كما تعرّف القوة القاهرة: بأنّها هي صورة من صور السبب الأجنبي الذي ينفي علاقة السببية بين فعل المدين وبين الضرر الذي لحق بالمضرور. وهي كل حادث خارجي عن الشيء لا يمكن للمدين توقعه، ولا يمكن له دفعه. وقد تنشأ القوة القاهرة إما عن فعل الطبيعة، كالزلازل والصواعق والفيضانات والثلوج، أو عن فعل الإنسان. وفي الحالة الأخيرة لا فرق بين مصدر الفعل الذي يمكن أن يكون العنف الواقعي، كثورة شعبية أو سرقة مسلحة، أو أن يكون العنف القانوني؛ كأن تقوم الدولة بنزع ملكية عقار من مالكه عن طريق الاستملاك، أو المصادرة، أو أمر السلطة “القوة القاهرة بفعل الأمير”.
وبما أنه ما زال مبدأ “الظروف الطارئة ” معمول به في إطار القانون الدولي العام، في حال تغيّر في الشروط الأساسية المؤدية لتوقيع المعاهدة، فإن من الممكن الاعتداد بهذه الظروف لإلغاء هذه الاتفاقية على أساس التغيير الجوهري في الظروف. إذا لم تلجأ الدول المعنّية للمفاوضات فيما بينها ثانية من أجل تعديلها، ويستند إليه النظام للتحلّل من الالتزامات القانونيّة الدوليّة، وخاصّة القانون الدوليّ لحقوق الإنسان والقانون الدوليّ الإنسانيّ، والتحلّل من التزاماته الماليّة المترتّبة عليه من جراء التزاماته العقديّة مع الدول الأخرى ويعمل على جدولة ديونه.
وبما أنّ السلطة النظام “سيّئ النيّة” هو الذي أوجد الظرف الطارئ والقوة القاهرة المتمثِّلة بحربه على الشعب السوري، فقد استخدم كل أنواع القوى العسكريّة والأمنية، والعقوبات الاقتصاديّة، وسنّ مجموعة من القوانين الاستثنائيّة وعدّل في البنية القانونيّة الأساسية السورية بما يخدم حربه على هذا الشعب، مما أدّى إلى اعتقال مئات الألاف تعسّفيّاً، وإخفاء أمثالهم قسريّاً، وقتل وتهجير الملايين من السوريين وتدمير مدنهم وقراهم ونهب ممتلكاتهم، وسرقة أرزاقهم ومصادرة أمولهم المنقولة وغير المنقولة بدون وجه حق مشروع، إضافة إلى تدمير البنية الاقتصادية للبلاد من خلال بيع الثروات الوطنية أو تأجيرها للغزاة الإيرانيين والروس، وانهيار قيمة العملة السوريّة كل ذلك أدّى إلى انعدام الأمن الغذائي وبلوغ أكثر من 90% من الشعب السوري تحت خطّ الفقر وفق التقارير الدوليّة. فقد أصبح من المستحيل على الشعب دفع الحرب أو تدهور الوضع الاقتصادي، أو التحكّم بقيمة العملة الوطنيّة أو تلافي آثارها المعيشيّة أو الماديّة وحتى القانونيّة، الوصول إلى أملاكهم المنقولة وغير المنقولة بفعل “السُلطة” وهي التي تتخِّذها ذريعة لنهب المال العام، ونهب الممتلكات الخاصّة، ولا يُمكن للمدينين للدولة أو المؤسسات أو المصارف العامة أو الخاصّة، أو الجمعيّات الفلاحيّة أو الجمعيّات السكنيّة أو غيرها بموجب عقود “آجلة” الوفاء بالالتزامات التعاقديّة، وهذه الاستحالة لا تسري على المتعاقدين فحسب وإنّما على كل سوري أو غير سوري يُمكن أن يكون في موقف المدين ووضعه، كونها تُكِّل ظرفاً إقتصاديّاً طارئاً غير متوقع ولا يمكن دفعه، خارجا عن إرادة المتعاقد، الحق خسائر فادحة بالشعب وانعكس على البنيّة الاقتصاديّة للعقود وقلبها رأساً على عقب.
وحيث أن الميليشيات الطائفيّة والمرتزقة الأجانب يسيطرون على مناطق واسعة من البلاد، ما أدّى إلى انهيار المنظومة الأمنية، والقضائية، والتشريعية، وسقوط شرعية السلطة الاستبداديّة وجعل من سورية دولة فاشلة وتعتبر الدولة السادسة في تعداد الدول الفاشلة في العالم وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية، بالإضافة إلى أن حالات الاعتقال والاخفاء القسريّ، والقتل، والقصف العشوائي تسبّبت بفقدان وجهالة مصير مئات الآلاف من السوريين، وفقدان الأوراق الثبوتية ومستندات الملكيّة، وإنّ تعقيدات إجراءات إدارة أملاك الغائبين والمفقودين، واشترط “الموافقة الأمنيّة” عند القيام بأيّة إجراءات قانونيّة تُعتبر من قبيل القوة القاهرة كونها تُعرّض ورثة أو أقرباء هؤلاء الغائبين والمفقودين لخطر الاعتقال التعسفيّ والتعذيب وبالتالي للقتل أو للحكم عليهم بالإعدام من قبل محاكم الإرهاب أو المحاكم الميدانيّة العسكريّة، وهي حالة طارئة مستمرّة وممتدّة تتفاقم آثارها الكارثيّة كلّ يوم، مما يجعلها ظرفاً “طارئاً أمنيّاً قانونيّاً” يحول دون تنفيذ المدينون التزاماتهم التعاقديّة، لأن حفظ النفس مُقدّمٌ على حفظ المال.
وعليه فإنّ الظروف الطارئة والقاهرة التي يعيشها السوريون جميعها من فِعل “النظام” وهو السبب الرئيسي في وقوع الضرر، مما يوجب نفي المسؤولية عن المدينين للقطاع العام والخاصّ، ومنحهم الحقّ بالإعفاء من تنفيذ الالتزام نهائياً، أو وقف تنفيذ الالتزام حتى زوال الحادث الطارئ، حتى ولو وُجِد إتفاق على الإعفاء من تحمل التبعة الناجمة عن الحوادث الطارئة لأنّ هذا الاتفاق باطل لمخالفته النظام العام استناداً للمادة “148” من القانون المدني.
وبما أنّ هذا النص لا يحدّ من حق الإدارة في الموافقة على تمديد مواعيد التسليم، ولا يخلق لها حقا في التعويض عن ضرر حدث بفعلها،حسبما كرّسته المادة “53” من القانون رقم”51″ لعام 2004 المعروف بنظام العقود الموحد لكافة الجهات العامة التي نصّت على أنّه: لا يكون المتعهد مسؤولا عن التأخير الواقع بسبب من الجهة العامة أو الجهات العامة الأخرى، ويعفى المتعهد من غرامات التأخير إذا كان ضحية خالصة لقوة قاهرة لا يد له فيها وذلك عن المدة التي تأخر فيها بسبب تلك القوة القاهرة. فإنّ العدالة العقدية تقتضي منح المدين الحق بحبس الثمن أو دفع المُستحق إلى حين زوال الظرف الطارئ.
وحيث أنّ على الدائن تنبيه المدين بالوفاء عبر إخطاره بالطرق القانونيّة تحت طائلة بطلان الإجراءات اللاحقة، فإن الأغلبية العظمى من أصحاب العقارات والمساكن المستهدفة هم من المهجّرين قسريّا التي تحول حالة التشتّت في مناطق النزوح أو دول اللجوء دون تبليغهم الإخطارات وفق الشروط القانونيّة، وبالتالي فإن عمليات البيع بالمزاد العلني كلها باطلة تبعاً لعدم إخطار المدين أو تبعاً لبطلان التبليغ وكان هذا الأخير وهو الذي يباشر الإجراءات قد أدعي حصول هذا النبيه فإنه بذلك يسير مدعيا بهذا الادعاء. ومطالباً بأن يقيم الدليل علي ما يدعيه بغض النظر عما إذا كان هو المدعي أصلا في الدعوى أو المدعي عليه فيها، وتكون مطالبته بتقديم هذا الدليل لا خطأ فيها.
وعملا بالمبدأ القانوني المستقِّر الذي ينصّ على أنّه: لا يجوز أن يتخذ الإنسان من عمل نفسه دليلاً يحتج به على الغير. وهذا المبدأ مُستمدّ من حديث سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم: “لو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادّعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على الطالب، واليمين على المطلوب”.
فإنّه لا يجوز أن يتخذ الإنسان من عمل نفسه دليلاً يحتج به على الغير، سواء باختلاق دليل إدانة، أو إتلاف دليل براءة ذمة المدين، أو إضعاف الوضع القانوني للمدين عن سابق قصد وتصميم وإلا فقد نظام الإثبات وجودة بالكامل.
وبناء على ما سبق يمكننا القول ببطلان كافة القرارات والإجراءات المُتّخذة بحق المدينين سواءًا كانت من قبل “النظام” أو من قبل الأطراف المتعاقدة غير الحكوميّة والتي تطال أصل ملكيّة العقارات والمساكن استيفاءً لديون وأقساط متأخرة، وعدم سريان هذه الإجراءات بحق المدينين، أو بحقّ خلفهم القانونيّ الخاصّ والعام، بسبب الظروف الطارئة التي أوجدها “النظام” والتي ما زالت قائمة بفعله، التي أرهقت الشعب السوريّ جميعه دائنين ومدينين، وأرهقت الدولة نفسها وأوقعتها بالعجز عن تحمّل مسؤوليّاتها الدستوريّة والقانونيّة في تأمين أبسط الحقوق الأساسيّة للشعب وهي الحق بالغذاء والدواء والحق بالأمن، والحق بالعمل، وتكافؤ الفرص، فكيف لهذا النظام المجرم أن يُسآئِل هذا الشعب ضحيّة إجرامه؟!.