fbpx

إعادة رسم الشرق الأوسط بعد انتصار الثورة السورية

0 2٬367

كانت الأيام القليلة الماضية حافلةً بزياراتٍ هامة للرئيس السوري، بدأت بحضور منتدى أنطاليا في تركيا، حيث قُدِّم الرئيس السوري إلى المحافل الدولية، وحظي حضوره باهتمام إعلامي خاص، كونه صاحب الإنجاز الأكبر الذي حدث في المنطقة مؤخرًا. وقد أجرى لقاءاتٍ في منتهى الأهمية.

من تركيا، انتقل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي قطبٌ عربي وإقليمي هام، ولها أدوارٌ دولية تتجاوز البعد الإقليمي. وبسبب الحساسية المعروفة لدى الإمارات تجاه ما يُسمى بالإسلام السياسي، تأخر اللقاء مع الرئيس السوري، فضلًا عن أن الشيخ محمد بن زايد لم يحضر بنفسه القمة العربية الطارئة في القاهرة حول غزة. وكان كسر الجليد بين دمشق وأبو ظبي مهمةً ليست سهلة.

ولأن مركز الثقل في قيادة العالم العربي يتموضع الآن في الخليج العربي، ويتركز تحديدًا في المملكة العربية السعودية التي تُعد الرأس، فيما تمثل أبو ظبي والدوحة الجناحين، فلا يُمكن للخليج العربي أن يُحلّق بشكل سويٍّ إلا بتناغم الرأس مع الجناحين. وهو ما يبدو أنه تهيأ لسوريا الجديدة؛ حيث كانت الرياض أول وجهة خارجية للرئيس السوري، وكان الأمير تميم أول زعيمٍ يزور سوريا الجديدة. وقد ردّ الرئيس الشرعي الزيارة له بعد زيارة أبو ظبي، وشاهد الجميع الحفاوة والحرارة التي أحاطت بزيارة الدوحة.

لم يكن انتصار الثورة السورية انتصارًا سوريًّا بحتًا يُكلِّل تضحيات شعبٍ أراد التحرر من الطغيان واستعادة حريته، بل كان زلزالًا استراتيجيًّا هزّ المنطقة والعالم، وسوف يكون له تداعيات كبيرة. وتتبلور نتائج ذلك الزلزال تباعًا.

ولأول مرة منذ عقود، أو بالأحرى منذ انهيار الدولة العثمانية، تصبح المنطقة من بحر العرب جنوبًا إلى البحر الأسود شمالًا كتلةً جيوسياسيةً واحدة متناغمة مع النظام الدولي الحالي، ويمكن للبعض تسميته بالمحور الإسلامي أو السنّي.

في العقود الماضية، وبعد الانهيار العثماني الكبير، انكفأت تركيا الكمالية إلى داخل حدودها، وحاولت التعلّق بالذيل الغربي، وتصالحت مع من هزمها، وقطعت كل الروابط مع تاريخها العثماني الإسلامي. وبالتالي، لم تلتفت جنوبًا إلى عمقها العربي الاستراتيجي، وأمعنت في تلك القطيعة، وأقامت علاقات طبيعية مع إسرائيل على حساب العرب.

وفي المقابل، نشأت في سوريا أنظمة غير مستقرة، وتوالت الانقلابات العسكرية، إلى أن حصل الانقلاب الكبير في آذار 1963 بشعارات قومية عربية وبنية طائفية علوية شكّلت سابقة تاريخية. وأحاطت بالخليج العربي من الشمال، وكان جوهر خطابها البعثي معاديًا لكل الممالك العربية، ويتهمها بالرجعية والتخلّف وهدر الثروات والانصياع للهيمنة الأمريكية. وإذا قرأنا بين السطور في خطاب البعث السوري، نستشف منه عداءً طائفيًا مستورًا، إذ كان يعتقد الأسد وممالك الخليج أنهما لا يشبهان بعضهما.

كان نظام الأسد في سوريا يعادي النظام التركي على أسسٍ قومية، ويعادي أنظمة الخليج للأسباب التي ذُكرت. وقد فُتِحت طاقة القدر لنظام الأسد بوصول الثورة الخمينية الشيعية للسلطة في طهران، وبدأ التنسيق والتعاون بينهما باكرًا بموقف الأسد من الحرب العراقية الإيرانية، وكان على النقيض من الموقف الخليجي. وتشكل محور أقليات في المنطقة بين طهران ودمشق معادٍ بالضرورة للخليج العربي.

ازداد الأمر سوءًا، وسقطت الأقنعة المزيفة بعد موت الأسد الأب، وإسقاط الأمريكيين لحكم الرئيس الراحل صدام حسين. وسقطت دولة العراق في براثن ولاية الفقيه، وأصبحت صلة الوصل مع سوريا ولبنان، وتشكل الهلال الشيعي الذي يقطع المنطقة من أفغانستان إلى البحر الأبيض المتوسط. ولم يُخفِ قادة هذا الهلال أهدافهم الحقيقية بالسيطرة على كل المنطقة الإسلامية في الشرق العربي.

ومما ساعدهم في ذلك أيضًا، مراهنة أو تخادم أمريكي إسرائيلي مع الإسلام السياسي والجهادي الشيعي، وتوكيله إدارة المنطقة بعد تقاسم النفوذ معه.

كان انحسار الدور المصري الخارجي، والفراغ الذي تركه، واضحًا للعيان، حيث ذهب مشروع الرئيس عبد الناصر بخسارته للحرب مع إسرائيل عام 1967. ومما زاد الطين بلة، خروج مصر السادات جيوسياسيًّا من المنطقة بعد إبرامها صلحًا منفردًا مع إسرائيل، وقطعها علاقاتها مع العرب جميعًا.

لكن، وُجد أملٌ بتعديل في موازين القوى في المنطقة إثر بروز تركيا جديدة، يقودها شباب أتراك لهم خلفية إسلامية، ينظرون إلى الجنوب العربي بودٍّ وشوق، ويرنون إلى إعادة العلاقات مع العمق العربي الجنوبي. وقد حدث ذلك عمليًّا بصعود نجم حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، فعاد الأمل في الحد من الخطر الإيراني ببروز مكافئه ومنافسه التركي في المنطقة. ومع ازدياد القوة التركية واهتمامها بالمنطقة العربية، برز دور سوريا الأسدية التي كانت الحاجز الطبيعي أمام عودة وصل الخليج العربي مع تركيا.

بعد ثورات الربيع العربي، وفي ذروة تخادم الرئيس الأمريكي أوباما مع نظام الملالي للوصول إلى اتفاق نووي، تمدد الهلال الشيعي وأحاط بالخليج العربي، وسيطر الحوثيون الزيديون على أجزاء واسعة من الجمهورية اليمنية. وبات الهلال الشيعي يُطوّق الخليج العربي من جهاتٍ ثلاث، وبات حلمهم بالسيطرة على الحجاز على مرمى حجر. وعندما تعثّر مشروعهم في سوريا، هرع الروس لنجدتهم، وأنقذوهم من هزيمة محققة على يد أبطال الثورة السورية.

وبعد الضعف الروسي الواضح في سوريا نتيجة الانغماس في الحرب في أوكرانيا، وبعد زلزال “طوفان الأقصى”، والضعف الذي اعترى إيران وأذرعها، بات احتمال هزيمة نظام الأسد واردًا من قِبل قوى الثورة السورية؛ لأن عوامل ضعفه الذاتية متحققة، والعوامل الموضوعية أصبحت في أوجها. وقد ترجمت قوى الثورة ذلك باستغلال الفرصة السانحة، وانتفضت من خنادقها في الشمال، وبوثبةٍ من أحد عشر يومًا، اقتلعت النظام من جذوره، وبالتالي غيّرت وجه الشرق الأوسط كله.

هذا التغيير الجذري في موازين القوى أطاح بأهم حلقات محور إيران في المنطقة، وتم إبعاد إيران عن سواحل المتوسط، وهو الحلم الذي عملت عليه منذ 46 سنة، وتحقق مرحليًا لكنها عجزت عن الحفاظ عليه. ويبدو أن فاعلها الاستراتيجي الأول، “حزب الله”، بات في تراجعٍ واضح، وقد يكون مصيره كمصير الأسد.

أما روسيا، فقد خسرت كل أحلامها في نفوذ استراتيجي دائم في المياه الدافئة، لأنها راهنت على وجودها على الجواد الخاسر، وكان رهانًا وحيدًا وخسرته، ولن تستطيع ترميم ما فقدته في سوريا أبدًا.

خسر الروس والإيرانيون الصراع، وربحه السوريون وحلفاؤهم الأتراك والعرب، وقوى أخرى كانت متضررة من المحور الإيراني وأذرعه.

وبالتأكيد، بات محورٌ سنيٌّ جديد يتشكّل في المنطقة بعد عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي. ولا شك أن الأوروبيين والأمريكيين استفادوا كثيرًا من التحول الجيوسياسي في المنطقة، وسيسعى كل الرابحين إلى دعم الدولة السورية الوليدة، لتكون قوية وتملك سيادتها وتحقق ازدهارًا اقتصاديًّا يضمن استمرار الأمن والاستقرار.

د. باسل أورفه لي

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني