fbpx

أمريكا وتركيا في مواجهة روسيا في سوريا

0 5٬382

بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتوقيع اتفاقية لوزان كحدود نهائية للدولة التركية التي صبغت نفسها بالصبغة القومية والعلمانية وتَخلّت عن إرثها العثماني بل بالغت في إزاحة الدين من الفضاء العام والمجتمع، وبرسوخ تلك التجربة تحولت تركيا إلى دولة غير عقائدية، وحسمت مستقبلها بإدارة الظهر للشرق واللهاث نحو الغرب وخاصمت الجغرافيا والتاريخ والهوية بهذا العمل لكنها قررت السير فيه ومازالت.

وبرزت حاجة الغرب الماسّة لتركيا بشكل أكبر بعد انتصار الثورة البلشفية، حيث كان النموذج الشيوعي السوفييتي مناقضاً للنموذج الغربي، وبات دعم تركيا ضرورة إستراتيجية للمنظومة الغربية، وارتاحت تركيا للوضع الجديد وتأقلمت معه وأثبتت رسوخ التجربة العلمانية داخلياً ورسوخ مفهوم الدولة القومية التي لا تبحث عن تَوسّع تحت دعاوى تاريخية أو دينية.

وبعد تَوغّل الاتحاد السوفييتي نتيجة الحرب العالمية الثانية في أوروبا وآسيا، كان الحل الطبيعي للغرب ضَمّ تركيا إلى حلف شمال الأطلسي لتكون الدولة الوحيدة من الحلف التي تشترك بحدود برية مع السوفييت.

وطوال فترة الحرب الباردة كانت تركيا عضواً رئيسياً في الناتو، وعندما يَتعمّق التحالف العسكري ويصل للـ DNA بين الجيوش فهذا تحالف إستراتيجي لا يُؤثّر عليه الاختلاف في بعض المواقف السياسية للدول.

لم تفقد تركيا أهميتها الجيوسياسية للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تَخلّى الغرب عن أنظمة وظيفية موالية له كان يدعمها فقط لأنها كانت ضِدّ تَمدّد الشيوعية.

وكان الغرب مرتاحاً في تسعينيات القرن الماضي للتطور البطيء في بنية النظام السياسي لتركيا حيث بدأت بواكير التحوّل الديمقراطي من القمة وتَمّت إزاحة العسكر رويداً رويداً عن الاستئثار بالسلطة الحقيقية عبر واجهات صورية مدنية وولّى زمن الانقلابات وبدأت خطة لِتمَديُن تركيا ونزع العامل العسكري من الفضاء العام للدولة والمجتمع، وتَمّ دعم تلك التجربة التي كان نجمها حزب العدالة والتنمية ورئيسه، وتَمّ خلق نجاح اقتصادي تركي أقرب للطفرة لكن على أسس إنتاجية رأسمالية تشبه النموذج الغربي أو تتماهى معه، وأصبحت تركيا مصنع أوربا للصناعة المتوسطة والمتدنية التقنية، كون تقوية تركيا اجتماعياً واقتصادياً وتشكيلها لواحة من الاستقرار تقف سدّاً منيعاً أمام أوربا من كل الرياح الشرقية العاتية سواء كانت صينية أو روسية أو حتى إيرانية، وباتت من أولويات الأمن القومي الأوربي، ولم يَكُن الغرب مُخطِئاً في ذلك فقد كان الدور التركي يَكسر السّمّ الزعاف الإيراني في المنطقة، وبوقوع الغزو الروسي لأوكرانيا لم تَخب النظرة الغربية في تركيا فكانت مواقفها وخياراتها ومصالحها غربية بالكامل بحيث بقيت صواريخ الـ S400 في صناديقها، وكان ثبات الـ DNA الإستراتيجي بين تركيا والناتو واضحاً ونتيجة لتحالف عمره ثلاثة أرباع قرن مضى، وخابت كُلّ مساعي الإمبراطور الروسي ورهاناته على نزع جينات تركيا الأطلسية وحقن جينات أوروآسيوية تحت التاج القيصري.

لقد راهن بوتين رهاناً خاسراً يؤكد ضيق أفقه الإستراتيجي الذي أودى به وبروسيا إلى دروب التهلكة.

عند لحظة الحقيقة اختلفت المواقف بشكل كامل بين القيصر والسلطان، حيث عارض الرئيس التركي كل السردية البوتينية لتبرير غزو دولة أخرى وقام بدعم الجيش الأوكراني بدعم عسكري مباشر، ولم يلتزم بالعقوبات الغربية تجاه روسيا في الرئيسية أو المفصلية منها وتم ترك الباب مفتوحاً للأتراك لاستنزاف ما يستطيعون من أموال روسية عبر تمرير السلع لهم واستقبال أموال الأليغارش الروس الفارين من جحيم بوتين والعقوبات عليه.

ووافقت تركيا على عضوية السويد وفنلندا في حلف الناتو وهي ضربة قوية للقيصر أجهضت كل أهداف سردية حرب القيصر بإبعاد النانو عن حدوده، وطرأ التحسن الواضح على العلاقة بين أنقرة وواشنطن فَتمّت الموافقة على صفقات عسكرية كانت مُجمّدة بين البلدين، ويشترك الجيش التركي في أضخم مناورات لحلف الناتو تجري منذ بداية العام وحتى شهر أيار في جوار أوكرانيا يُرسل رسالة للروس بثبات وقوة الدعم الأطلسي لكييف، ويشترك الأتراك في كل الخطط الموضوع لتسليح الجيش الأوكراني على مدى السنوات القادمة لتحقيق هزيمة روسية بطيئة تستنزف الدولة والمجتمع والجيش الروسي.

ترى تركيا نفسها مُؤهّلة للعب دور إستراتيجي في المنطقة سواء بامتدادها التركي الآسيوي وقد أنجزت تأمين نصر تاريخي لأذربيجان على أرمينيا زاد في تأمين فرص لأدوار أكبر، ودور إقليمي جنوبها في الشرق الأوسط حيث تلاقت معها أبو ظبي والرياض والقاهرة وأزالوا كل العوائق من طريق تعاون مستقبلي عميق، وأتت الفرصة لأنقرة على طبق من ذهب باضمحلال الدور الروسي الوليد في المنطقة وانكفائه، وبروز مخيف للدور الإيراني التخريبي الذي لابد من لجمه وإرجاعه إلى حجمه الحقيقي وذلك يجري الآن.

ويتوفر لدى تركيا مُقوّمات لعب هذا الدور لإملاء الفراغ والتعاون مع العرب والإسرائيليين والأمريكان والأوربيين لبناء الشرق الأوسط الجديد.

يُدرك الروس أنّ المصالح المشتركة بين واشنطن وأنقرة أكبر بكثير من قضية قسد ومشاريعها الانفصالية، وأنّ الولايات المتحدة التي تسعى لترتيب الإقليم كله بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وعملية طوفان الأقصى، مع استعمال كامل قُوّتها ودون النزول إلى البر في أماكن الاضطرابات كل ذلك يجعل من واشنطن بحاجة ماسة لحلفائها التقليديين، فتركيا الفتية تملك قاعدة عسكرية في الخليج وتواجداً مهماً في شمال أفريقيا وبدايات طموحة لنفوذ متنام في أفريقيا وعلاقات معقولة وستتطوّر أكثر مع ثلاثي العرب الإستراتيجي (السعودية، مصر، الإمارات) إضافةً لاحتفاظها بعلاقات إستراتيجية مع قطر، وبالتالي من البديهي بعد انهيار كل التوافقات الأمريكية مع روسيا وانهيار التفاهمات الضمنية (أو التخادم) مع إيران أن تكون تركيا شريكها الرئيسي في سوريا لملء الفراغ، وإذا أراد العرب لعب دور رئيسي في سوريا (وهم يريدون ذلك) فعليهم الارتكاز على أحد الأطراف الفاعلة على الأرض وتقويته ومن البديهي ألا يكون هذا الطرف هو إيران أو روسيا أو عصابة الأسد الحاكمة في دمشق.

لم يبقَ الكثير من الأوراق القوية في يد موسكو وطهران للحيلولة (أو على الأقل دون الذهاب بعيداً فيه) دون التوافق التركي – الأمريكي في سوريا سوى التصعيد العسكري في إدلب عبر استخدام أسلحة جديدة كالمُسيّرات لأنهم لا يملكون القوة الحقيقية لتغيير موازين القوى على الأرض عبر عمليات برية، ولم يعد بالإمكان إلّا الضغط على أنقرة عبر إحراجها أمام السوريين في الشمال باستمرار انتهاك وقف إطلاق النار وتخريب المشاريع التركية لإعادة لاجئين سوريين من داخلها إلى بلادهم وتخريب بناء قصة نجاح في شمال سوريا بجهد تركي – أمريكي عربي تُؤسّس لاستقرار اجتماعي وإمكانية توافق أنقرة وواشنطن على ترتيبات بكسر الجليد بين غرب الفرات وشرقه عبر سلسلة من الإجراءات بهيكلة ما لقسد وتنظيفها من الأدران القنديلية والعصابات الإجرامية وإدخال مكونات أخرى من المنطقة في تمثيل حقيقي للسكان يرضى عنه السوريين والأتراك، ويكون مُقدّمة لخلق جبهة معارضة سورية في الشمال تتوافق بالأهداف وتدخل بقوة لتطبيق القرار الدولي 2254 وبدء عملية سياسية سيراها الطرف الآخر مُلزمة له أو خياره الوحيد بعد جلاء ضباب الحروب الجارية الآن في البحار الثلاثة الأسود والأبيض والأحمر والتي ستكون نتيجتها خروج الروس والإيرانيين من سوريا.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني