fbpx

أسّ المعضلة

0 164

قُرع الجرس، أُوقِف اللعب،  خرجوا وهم في أوج نشاطهم هائجين كعجول بريّة يتزاحمون كتفاً بكتف، يتدفقون إلى الشارع كأنهم سيل عرم، أيديهم تتشابك وأصواتهم تعلو أناشيد تشق أنسجة الهواء، تمزّقه وتصل إلى أبراج السماء تهزّها هزّاً، توقظ ملائكة الجنّ والإنس، وتصمّ آذانها بهائج حدائها الصاعد من الأعماق “بلادي، بلادي…”، “ويلك ياللي تعادينا…”، يدقّون حجارة الأرصفة بأقدام كمطارق الحدادين، ويلوّحون بأيديهم يهددون خيال مارد يفغر فاهه لابتلاع الشمس، وينشر ظلّه غيوماً داكنة تحبس مطرها عن العباد؛ ليجفّ نسغ الأرض، ويذوى النبات، ويُحرَم ساكنوها من ثمارها.

عاملوا المدرسة والمعلمون يراقبون المشهد، بعضهم يبتسم، وبعضهم تجلجل ضحكته. همس شيخهم: “يا للأولاد، بُرمِجَت عقولُهم على التعصب، وشُحِنَت بشعارات تلقّنوها، امتلأت قلوبهم حباً بها، ونسوا الصفعات على الخدود، ونكز العصي في الخواصر”. وظلّت العيون تحرسهم، وتحفظ أناشيدهم، وحركاتهم في ملفاتهم المدرسية.

ليست مدرستهم الوحيدة التي تبثّ في النفوس حب الوطن، والرمز، والتضحية بالدم، وبذل الغالي رخيصاً. تتنوّع طرق التربية، تصبح مدارسَ، وعشائرَ، وأفخاذاً، يُصهَر الإنسان فيها ويتشكّل، تختلف نماذجها، وتتفق على الولاء للأعلى والأعز فيها. وفي سباق المسافات تستيقظ روح القبيلة وتصحو من رقادها، تحمرّ العيون، وتتدافع الأكتاف، وتتشظّى وحدة الدم والمصير، وتجمح النفوس، وتُغذّى بالحقد وبالكراهية فتُشهَر السكاكين، وتُسلّ الخناجر من أغمادها، وتقرع السيوفُ السيوفَ، ويسيل لعاب الأفاعي، وينزف الحبّ قطراته على مذبح العزة. المعلمون تبرق أعينهم، يشاهدون ويوجّهون، تلهج ألسنة “حيّا على القتال”، وتستمر اللعبة، فتُنتَهك الكرامات، والمتفرجون، بين فَرِح وغيرِ مبالٍ، ينتظرون صفّارة الحكم.

أُنهِك الجميع، واستُنزِفَت القوى. اللعبة أوشكت أن تنتهي. تعالت أصوات: ما بكم؟ لماذا تختلفون؟. قفوا، أغمدوا حرابكم وانسوا البسوس وداحس والغبراء، فكّروا بأولادكم، بأحفادكم، بمستقبلهم، بكرامتهم الإنسانية، أنسيتم أنكم أخوة وأبناء عمومة، وأنّ “الدم لا يصير ماء”؟ تحابوا، تعالَوا على سوآتكم، وتسامحوا.

انفرجت شفتا حنظلة عن ابتسامة نمّت عمّا يجول في نفسه من حزن دفين، وقال: الحبّ، الحبّ، تسامحوا، نعم! وانسوا كيف كان دم الأخوة بول بعير تتطهرون به من أدرانكم!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني