fbpx

أختي السبب…

0 88

رآها.. لمعت في ذهنه ومضة برق. وقعت عينها عليه نبض في صدرها. تولّد سؤال أيعقل أن…؟! تقدّم نحوها، تدارت نظراته وتابعت تدفع عربة مريضتها نحو الغرفة.

لم يصدّق ما رآه، جلس على مقعد في ردهة الاستراحة. زفر ما في جوفه متمهلاً.. لعلها تشبهها.. يخلق من الشبه أربعين. ما بك ياسمير؟! أيمكن أن ألتقيها بعد تلك السنوات؟ لا أظنّ!! مسّته حيرة.. خرج إلى الشرفة، سرّح نظره في أشجار وأزهار حديقة المشفى وهو يراجع تفاصيل لعبت بقلبه الغض، وأشعلت فيه ناراً كان يظنها خبت أنفاسها، وما كان يدري أن جذوتها لم تخمد، عاندت وظلّت تعسّ تحت رماد السنين تنتظر من يؤجهها.

أيقظت رؤيتها ساعة رآها تنزل من سيارة والدها الفخمة. شعرها شلال ذهب ينسدل على كتفين يتوجان قامة ممشوقة، ووجه يضاهي بدر ليلة صيف قمراء. التفاتتها نحوه لسعة تيار أجفل قلبه.. انتظرها.. لم يُسمح له بالدنو منها.. همسات عينيها صباحاً شجّعته على مغامرة عندما سنحت فرصة انتهزها فدسّ في جيب حقيبتها المدرسية رسالة مراهق مقتضبة «أحبّ-ك» ولم تردّ جواباً. ظنًها غنيّة متعجرفة فصمت على مضض حتى رآها تلوّح له وهي تغادر الحارة مع أهلها. ظنّ النسيان طواها فأيقظته مصادفة اليوم.

أسندت أختها فوق السرير، وجلست على كرسي ترقب أنفاسها متسائلة: أيمكن أن يكون هو؟! ولمّا شاهدتها تغفو تسللت إلى الردهة، رأته يقف في الشرفة يسند يديه على حافتها المعدنية. رغبت أن تلحق به.. خطت خطوة واحجمت.. استدارت نحو باب الخروج… رآها تغادر المشفى.. تنهّد…

رجع إلى البيت، ومن خلف زجاج نافذته نظر إلى الشباك الذي كان خيالها ينوس خلف ستارته دون أن يراها. الصمت يتسيّد.. يهيمن على المكان، وقع خطواته همسات تقطع حبله. امتدت يده إلى المذياع.. تماوج صوت فيروز يخلخل استبداد الصمت «أنا وشادي تربينا سوا…». أخذ نفساً.. زفره وعاد إلى النّافذة.. أغمض عينيه.. رأى الستارة تنزاح ويطلّ وجه وسط ضباب كثيف.. تحسّر.. أشعل لفافة وغرق في خيالات مراهق استيقظت اليوم بعد أن غشّاها الزمن…

وصلت البيت.. دخلت غرفتها.. أخرجت صندوق أسرارها.. بحثت فيه.. نكشته سراً سراً حتى وجدت تلك الورقة.. فتحتها «أحبّ-ك». تُرى هل ما زال يتذكرها؟! باعدتنا الأيام، لا بدّ أن لديه زوجة وأولاد.. أظنه نسي، ألم تكن تلك نزوة مراهق ليس غير؟ أتراني مازلت مراهقة لأحتفظ بها؟ هناك سر قد تكشفه الأيام.. طوتها وأعادتها إلى سجنها…

بكّر في الزيارة.. اطمأن على أخته. جلس في الردهة يترقّب…، وعندما رآها تعمّد عدم الاهتمام.. مرّت به متجاهلة.. غادر وفي نفسه شوق ليكلمها. بعد دقائق عادت.. لم تجده انتابها هاجس…

تكرّر الانتظار.. وتكرّر التجاهل وازدادت التساؤلات. خشي أن لا يراها ثانية. وأملت أن يكلمها حتى جاءت المصادفة. وصلت إلى المشفى، وجدت أختها في الردهة مع مريضته مسترسلتان في الحديث، حيّتهما وانتظرت…، دخل.. رآهن مجتمعات.. انتشت جذوة ناره.. تقدّم محيّياً.. مدّت يدها تسرب تيار.. انطوت سنوات.. سرى دفء.. اختلجت حنايا.. تكسّر جدار الوهم.. تفتحت مصاريع الأبواب.. اتجها إلى الشرفة.. عبّ-ا نسمات رطبة.. تلاقت العيون.. ابتسما.. تورّدت وجنتاها، قال: أنا سمير، وتلك أختي

– عاشت الأسماء، أنا عفاف، وهي أختي

– تشرّفت بكما، ظننتها أمّك

– إنها بمثابتها

– أظنّ أني أعرفك

– وهذا ما أحسبه

– هل سكنتم في حارة الزاهرة؟

– نعم…

– وكنتِ يومها طالبة في الثانوية

– أجل

– وكان والدك يوصلك بالسيارة إلى المدرسة؟

– لا، إنّه أخي سائق مدير الشركة

– ويغار عليكِ؟

– ككل الأخوة، ذاكرتك ممتازة!

– أعتقد أصبحتِ جدة؟

– بل مطلقة عزباء لأني لم أنجب

– آسف للسؤال

– وأساعد في تربية أبناء أخي كما ربّاني

– وهو…؟

– ضحية العنف الذي يجتاح البلاد

– رحمه الله

– وأنتَ؟

– أرمل منذ ست سنوات، ولي ولدان مهاجران

تردّد النداء معلناً انتهاء الزيارة.. ودّعا أختيهما وغادرا، وقد لاحظتا انسجامهما. وعند مدخل المشفى استقلت الحافلة ملوّحة.. نلتقي…

أمضى ليلته يسترجع حوارهما.. أيمكن بعد السنين أن نعيد الماضي؟… نام على أمل. قضت ليلتها تفكّر بفعل القدر، هل ما زال يتذكّر…؟ بماذا أردّ لو قالها…؟ وبمَ أجيب عن أسئلة الأولاد؟… غفت هاجسة.

التقيا عند مدخل المشفى.. تبادلا التحية، ودلفا إلى الردهة، وجدا الأختين فرحتين ومستعدتين. اليوم نغادر المشفى، هكذا قال الطبيب. شكروا للعاملين عنايتهم المميّزة. وعدتها أخته بزيارة. قال: لكما مفاجأة.. ابتسمت.

استشار أخته… استشارت أختها… ورتبت الأختان لقاء…

طرق الباب.. فتحت.. أهلاً وسهلاً.. تفضّلا.. قدّم لها طاقة ورد، ودلفوا إلى غرفة الاستقبال. رحّبت أختها بهما وتشعّب الحديث.. سألته هناك مفاجأة؟

– نعم، لي الشرف بالتقرب منكن وأرجو أن تقبل بي زوجاً

– نتشرف بك… القرار لها

احمرّ وجهها خفراً.. همست موافقة. أدخل يده في جيبه وأخرج علبة حمراء فتحها.. لمع خاتم.. قال: أتسمحين؟ هاتي يدكِ.. وضعه في إصبعها

– وعندي مفاجأة.. اتجهت إلى غرفتها وعادت في يدها ورقة اسمرّت.. تناولها.. وقرأها مترنماً.. ترقرقت الدموع في عينيهما.. زغردت الأختان.. وعلا التصفيق…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني