أجبني…؟!
صدمتني المشاهدة.. شعرت بغثيان.. تغشّت عيناي فأغمضتهما.. أسندت رأسي على حافة الكنبة.. التقطت أذني نبض شراييني.. أحسست بيدها باردة.. همست: جدي، ما بكَ؟! جبهتك تتفصّد عرقاً.. مسحتها بمحرمة..احتضنت رأسي بكفين لدنتين.. لثمت جبيني.. سرى تيّار شفتيها فأنعشني.. قرّبتها مني.. طوّقتها بيدين مرتعشتين.. اطمئني يا حبيبتي، أنا بخير. قالت: أخفتني، ونظرت إلى التلفاز فشاهدت انهيار المباني، وتصاعد الغبار ضباباً كثيفاً، وألسنة اللهب تتراقص عالياً، والناس رجالاً ونساء وأطفالاً يتصايحون ويركضون في كل اتجاه.. أمسكت جهاز الريموت وضغطت على زر، فاختفت المشاهد.. ابتسمت.. أزفتِ الساعة.. أهدتني قبلة وانطلقت إلى المدرسة.
لوّحت بيدها وسط دعواتي.. أغلقت الباب.. أعادت لي ذكريات طفولة بائسة وأنا أحمل – أيام الشتاء – تحت إبطي قرص روث الحيوانات وأغدو إلى المدرسة، والجلوس فوق الأرض على فرو خروف قبل أن نعرف المقاعد، وعصا المعلم وهو يشير إلى الأسطر احفظوها غيباً “موطني.. موطني…” ويرفع عقيرته “الشهادة عزّ في سبيل الوطن، أموالنا وأرواحنا فداء له”. وكبرنا نحلم بوطن معافى؛ لكنّه لم يكن كذلك. أتذكّر دروس التاريخ والحروب التي مني بها، والاحتلالات المتتابعة: سيطرة المماليك، وحملات الصليبيين، والاحتلال العثماني، والاستعمار الأوربي… فيعتصر قلبي ألماً، وأنكمش في ثيابي.. أشعر بيد تضغط على عنقي.. أكاد أختنق. أقاوم.. أبتلع لعابي.. أغصّ به.. أعبّ هواء ملء رئتيّ وأزفره حاراً.. ألعن الزمن… وأتساءل: ماذا ورّثنا للأحفاد غير العنف والأحقاد؟!
رجعت صغيرتي قبّرة تغرّد وتتقافز في سيرها. حقيبتها تعلو ظهرها وعلى شفتيها ابتسامة تجلو صدأ السنين، وتسعد القلب، وتزيل الهمّ. حيّتني وارتمت عليّ تحضنني، وتداعب شيب لحيتي، وتخبرني عمّا تعلمته… قالت المعلمة: الوطن غالٍ.. أغلى من الروح والمال…
– وماذا أيضاً؟
– ونحن كلّنا مشروع شهادة
– نعم، الوطن غالٍ
– لكنّي فكّرت وأنا عائدة
– بماذا فكّرتِ؟
– إذا كنّا كلّنا مشروع شهادة يعني كلّنا سنموت، فمَن يبقى للوطن؟
سؤالها استثارني.. هذه الطفلة الصغيرة بعفوية وببراءة مطلقة سألت سؤالاً تصعب إجابته على مثل سنها.. احترت بمَ أجيبها؟ وكيف يمكن تبسيط الإجابة لها؟ وهل تستطيع استيعابها؟ نظرت في عينيّ وابتسمت.. ماذا تقول؟
– لا تشغلي تفكيرك، لن نموت جميعاً
– كيف؟!
– لأسألك، مَن بنى هذا الوطن؟
– قالت المعلمة: الأجداد والآباء…
– ومَن دافع عنه؟
– هم…
– يعني لم يموتوا جميعاً
– نعم، صحيح…
– ومَن سيدافع عنه؟
– المعلمة تقول: الشباب، ونحن عندما نكبر
– هل سيستشهدون كلهم؟
– لا أعرف…
– سيستشهد كثيرون، ويبقى آخرون يبنون ويعمرون…
– أفهم… لن يموت الجميع في هذه الحرب التي نراها؟
– أيّة حرب؟
– اليمن، وغزّة، وسوريا، والسودان، وليبيا…
– نعم، هناك مَن يبقون أحياءً…
– أنا أكره الحرب، ولا أحبّ الموت، أريد أن أصبح عجوزاً كجدتي
– الوطن يريدك أن تعيشي.. يريدك شابة قوية تبني وتعمّر ما تهدّم…
– ستنتهي هذه الحرب؟
– نعم، بالتأكيد
– متى…؟
– عندما نهزم الشرّ…
وضممنا بعضنا…