fbpx

مالك بن نبي ..جدلية الحضارة والتخلف

0 950

مقدمة :

تدخل العلاقات بأنساقها الثلاثة ” السياسي والاقتصادي والاجتماعي ” في علاقات جدلية فيما بينها تحدّد ملامح التنمية بشموليتها في مجتمع ما. ولا يمكن فهم التنمية ومعوقاتها الحقيقية بغير معرفة الأسباب الجوهرية التي تضع هذه التنمية في مرتبة دنيا، أو في حالة تخلفٍ مُبين قياساً على تنمياتٍ أخرى في البلدان المتقدمة.

ولعلّ التركيز على الأسباب العميقة للتخلف سيخدم بالضرورة النهضة الفكرية . ويُعتبر ” مالك بن نبي أحد أعلام العرب المتخصصين في مجال الفكر الإسلامي خلال فترة القرن العشرين، وهو من الأشخاص الذين ساهموا في إحداث نهضةٍ فكريةٍ إسلاميةٍ في العالم، ويُعتبر واحداً من الأشخاص الذين أكملوا مسيرة ابن خلدون “(1).

مالك بن نبي الذي ” وُلدَ في يوم الفاتح من جانفي (كانون الثاني ) عام 1905 بمدينة قسنطينة، وهو ابن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي “(2). عاش في مدينته، حيث درس القرآن في طفولته، ثم انتقل ليكمل تعليمه الابتدائي في المدرسة الفرنسية.

لم يدرس مالك بن نبي الدين كدينٍ، بل حاول معرفة الجذر الحقيقي الذي ترتكز عليه النهضة الحضارية، وهو بالتالي كان معنياً باكتشاف العلاقات الجدلية بين النهضة الحضارية والتخلف، وهو ما ستذهب إليه هذه الدراسة بغية تسليط الضوء حول هذه الجدلية.

إنّ ” عدم محدودية نظر بن نبي ونضوجه الفكري جعلاه يربط ثقافته الاسلامية بالقضايا المجتمعية المحيطة به، لذا نجد أن أفكاره جمعت بين الفلسفة الاسلامية والغربية، وركّزت دائماً على البناء والنهضة “(3).

الواقع الحقيقي وفق رؤية بن نبي :

يمكن للباحث والمفكر مثل مالك بن نبي أن يحاول معرفة الواقع الحقيقي من منطلق مكونات هذا الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقبل كل المكونات يبرز المكون الفكري الذي يحكم منهج الرؤية إلى الواقع، ويحكم آليات ومفاهيم تحليل هذا الواقع. وتقوم رؤية بن نبي على مفهومٍ متوازٍ من العلاقات بين معطيين، هما ” الكمُّ والكيفُ “، أو بصورة أخرى ” الروح والمادة ” هذه العلاقات بينهما هي قوة الدفع الأساسية لمفهوم الحضارة لدى مالك بن نبي.

إنّ البحث في جدل هذين المعطيين يدفعنا لاعتبار أنه ” ما كان للحضارة أن تقوم إلا على أساسٍ من التعامل بين الكمّ والكيف، بين الروح والمادة، بين الغاية والسبب. فأينما اختلّ هذا التعادل في جانب أو في آخر كانت السقطة رهيبةً قاصمة “(4).

إنّ اختلال العلاقة بين الروح والمادة سيؤدي بالضرورة إلى ظهور أمراض الأمة، هذه الأمة التي تعاني من تدنٍ كبيرٍ على مستوى نهوضها الحضاري، بسبب علاقتها بالاستعمار. فالاختلال سيؤثر على جوهر قوة الدفع الحضارية، ولذا يمكن القول أن مالك بن نبي لم يكن رجل دعوة إصلاحية ذهبت دعوته إلى إصلاح الواقع بإجراءات محدّدة، بل كان بن نبي مفكّراً معرفياً، يمتلك منهجاً واضحاً في البحث والدراسة والاستخلاص. ولهذا طرح السؤال الأهم الذي يتلخص بعبارة ” لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم “.

هذه العبارة تدفع إلى البحث في الأسباب المادية والروحية التي تسبّب تأخر المسلمين رغم إيمانهم وتقدّم غير المسلمين رغم كفرهم. ولهذا يمكننا اعتبار أنّ مالك بن نبي اشتقّ بنفسه مدرسةً فكريةً كان لها أثر واضح في تحديد وضع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصةً أنّ فكر بن نبي اهتمّ بدراسة مشكلات الأمّة الإسلامية انطلاقاً من رؤية متوازنة ومتكاملة. ووفق هذه الرؤية والمنهجية بدأت تظهر أمراض الواقع الاسلامي أمام عيني وعقل بن نبي، إذ أنه رصد أثر الاستعمار على المجتمعات الاسلامية، كما رصد طبيعة اليقينية الفكرية لدى التيار الفكري الاسلامي السائد. رؤية ومنهجية بن نبي دفعته إلى البحث بضرورة  “الإقلاع الحضاري” من حالة التخلف. ولذا فهو حدّد مشكلة النهضة، وقال أن النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية، هي مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، وأنّ العلاقة بين هذه الأنساق الثلاثة المكونة لبنية النهضة تقوم بينها علاقة جدلية وفق معادلة هي : انسان + تراب +وقت = مُنتج حضاي. وباعتبار أن الإنسان هو الفاعل الحقيقي في النهضة، فهذا الانسان يحتاج إلى وجود قوة روحية هي الدين، الذي يعتقد مالك بن نبي أنه محرّك للإنسان وفق تكوّن معادلة جديدة هي ( انسان + تراب + وقت ) مضروبة بالعامل الديني = حضارة. فالمنتج الحضاري برأي بن نبي، هو المادة الأولى التي يقوم عليها استمرار الشعب وأمنه القومي، ولهذا هناك علاقة بين الطاقة البشرية الفاعلة التي تقدر على انتاج المنتج الحضاري وبين المعادل الفكري والأخلاقي ” الدين “. هذه العلاقة هي من ينهض بالأمة ويبني عمرانها، ويمنحها القوة والمنعة.

معرفة الواقع الحقيقي لدى بن نبي هي معرفة جدل الفكر مع الواقع الحياتي، وهو ما يعني إعادة انتاج وعينا للواقع بعيداً عن النمطية السكونية أو ثبات المقولات التي تعجز عن فهم حركة الواقع وما تُحدثهُ من تغيرات.

بن نبي وابن خلدون والنظرية التنموية :

يصوّر كثير من المهتمين بشؤون الفكر العربي والاسلامي فكر مالك بن نبي على أنه امتداد وتطوير لفكر ” العمران ” عند ابن خلدون. ومعنى العمران لدى ابن خلدون يقابله مصطلح عصري هو التنمية الشاملة. والتنمية هي حصيلة معطيات متعددة متضافرة تُنتج عمراناً أو تطوراً حضارياً. وباعتبار أنّ التنمية حصيلة عناصر متعددة فهي تتأثر بالضرورة  بهذه العناصر المكونة لها وأيُّ اختلال في عمل وصحة أو غياب عمل أحد العناصر سينعكس ذلك على التنمية. لهذا قال ابن خلدون ” إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الأفاق والأقطار والأزمنة والدول “(5).

هذه الرؤية النسبية لحركة الزمن وتطور الجماعات استطاع ابن خلدون أن يلخصها ويكثفها بأطوارٍ تمرّ بها ” الدولة ” تبدأ من لحظة التأسيس إلى لحظة السقوط. فهو وجد ” الدولة ” تمرُّ بخمسة أطوارٍ هي التأسيس والانفراد بالملك والفراغ والدعة والقنوع والمسالمة والاسراف والتبذير. الأطوار هي مراحل زمنية تحتاج إلى الوقت والمراكمة المادية، وبالتالي فإن التراكم المادي سيُحدث تغييراً عميقاً في بنية السلوك الاجتماعي، وهذا ما ينعكس على أداء الدولة ومستقبل وجودها.

ابن خلدون استطاع عبر فهمه لمفهوم ” العمران ” أي التنمية الشاملة أن يكتشف أنّ الإنسان مدني بطبيعته، والمدنية تحتاج إلى مجتمع تتمّ فيه العلاقات الإنسانية وعلاقات العمل والانتاج، وهذا ضرورة للعيش وللدفاع عن المدنية، وهو يتسق مع مراد الله في إعمار الكون المستخلف فيه. لكنّ ابن خلدون يعرف تماماً أن أصل العمران الحضري هو العمران البدوي( علاقة الريف بالمدينة أو علاقة البادية بالمدينة )، وهو اكتشف أن العمران الحضري أكثر قابلية واستعداداً للتطور في المجتمع الحضري منه في مجتمع البادية. العمران يحتاج إلى حرفٍ وصنائع كالفلاحة والصناعة والتجارة، وهذه الأبواب هي من يحقق رخاء المجتمع ورفاهيته، فإذا تطور العمران بصورةٍ ايجابية نجد العلم والتعليم مزدهرين، أما إذا تراجع تطور العمران تراجع معه العلم والتعليم.

بالمقابل وبقراءة عميقة لفكر مالك بن نبي سنجد أن فكره يعبّر عن رؤية منهجية واضحة، إذ أنه قدّم أمر الأزمة الفكرية في الأمة على غيرها، واعتبر أنّ داء الأمة يتعلق بفكرها، وأن أي تغيير لتخلف الأمة يحتاج إلى إعادة النظر في مسلماتها الفكرية أو رؤاها الفلسفية. بمعنى آخر يتلخص الداء ويتكثف في البنية المعرفية والمنهجية لدى الأمة، وهو ما يجب أن تتمّ معالجته.

درس مالك بن نبي دورة الحضارة، وهو هنا يُعيد انتاج فكر ابن خلدون وفق فارق الزمن بينهما. وهو رأى أنّ دورة الحضارة ” التنمية الشاملة ” تمرّ عبر ثلاث مراحل هي مرحلة النهوض، ومرحلة العقلانية، ومرحلة الانحطاط والانحلال.

يعتقد مالك بن نبي أن مرحلة النهوض ناظمها فكرة دينية تستند إلى تركيب عناصر الحضارة، وتحتاج إلى تنظيم الطاقة الفعالة لأفراد المجتمع. العمل والحركة وفق هذه الفكرة يحرران الإنسان في مرحلة صعوده من هيمنة وأسر الغرائز. وتربطه هذه الفكرة بقدرتها الروحية الدينية. الفكرة هنا فكرة توحيد للطاقات وللعقل البشري وللروح الإنسانية، وهذا ما يجعل من دورها عامل ربطٍ واتساقٍ تُظهرُ بنية مجتمعٍ متعاونٍ وقوي. لكنّ هذه المرحلة لها سقف لدى مالك بن نبي يتمثّل بمراكمة الثروات والنجاح في التنمية “الحضارة”. وهو ما يُعيدُ النظر في جوهر المرحلة الأولى، أي دور الفكر الديني، لينتقل الأمر إلى مرحلة العقلانية أو مرحلة الانعطاف. فالتراكم المادي وما ينتج عنه من توسيع العلاقات في المجتمع الوليد سيؤدي إلى تراجع سيطرة الفكرة الروحية ” الدينية ” المغلقة على الذات، ليبدأ دور الفاعلية الاجتماعية المتسمة بالعقل.

إذاً تتراجع الوحدة الروحية لمصلحة عمل العقل ونقده ورؤيته. وهنا تتقدّم الطبيعية لدى الانسان والمجتمع لتفرض سيطرتها شيئاً فشيئاً.

إنّ تراجع الفكرة الدينية كما يرى بن نبي سيقود بالضرورة مسار الحركة الاجتماعية للمجتمع نحو الانحطاط والانحلال. حيث لا يعود للفكرة الدينية أي وظيفة اجتماعية، وتتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية عبر تفكك المجتمع إلى أجزاء لا روابط بينها، وبهذا تنتهي دورة الحضارة  أي ” التنمية الشاملة “.

إنّ مشكلة النهضة الحضارية لدى مالك بن نبي يمكن تلخيصها بثلاث حالات أساسية وهي : مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت.

مالك بن نبي رأى في علاقة هذه المشكلات مُنتجاً حضارياً، فالإنسان هو الفاعل الرئيسي في الحضارة، لأنه هو من يُنتجها، ولكن كيف لهذا الانسان أن يُنتج الحضارة بدون توفر الثروات الطبيعية ” التراب “، وبدون حساب الزمن واستغلاله بصورة صحيحة. هذه الرؤية تقود إلى ضرورة أن يكون لدى المشكل الأول الإنسان محرّكاً هو القيم الأخلاقية، وهذا ما يوفره الدين برأي بن نبي. فالدين جزء رئيسي من معادلة الحضارة ” التنمية الشاملة “. والتاريخ يكشف أهمية هذه الحالة، وبالتالي تُصبح الحضارة هي ( انسان + تراب + وقت ) مضروبة بالعامل الديني. هنا تتضح رؤية مالك بن نبي المتعلقة بمفهومه عن المنتج الحضاري، والذي يشكّل قاعدة الأمن والاستقرار لكل مجتمع. فالإنسان المدرّب والمسلّح بالفكرة الخيّرة، إضافة إلى وجود الثروات واستغلال ذلك خلال زمن محدّد، لا بدّ أن يُثمر بالحضارة ” التنمية الشاملة “.

النهضة ومشكلاتها :

تعتمد النهضة في أي مجتمعٍ من المجتمعات الإنسانية على شروط عديدة، إن تضافرت واتسقت انتجت مجتمعاً حضارياً. ومعنى حضاري هو درجة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعلمي والفكري الخ ..، فلا يمكن لنهضة اقتصادية أو علمية أن تنهض بمجتمعٍ دون توفر الشروط اللازمة لهذا النهوض. النهوض يعني اسقاط التخلف، والتخلف مفهوم يدلّ على تدني عمل الأنساق المشكّلة للنهضة، بحيث تكون في أدنى مستويات عملها، وتكون الروابط بين هذه الأنساق غير متسقة، بل ربما تقع في حقل التناقض والصراع.

إنّ أهم شرط للنهضة هو الفكر الناقد والقادر على تحديد مشكلة التخلف وأسبابها، والمجتمعات الإسلامية لا تجتهد في هذا الباب، بما يخدم تطور مجتمعاتها وفكرها. إنّ ” الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمةٍ ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقولات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلّها، وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها، وهذه الثغرة تعود في تكوينها إلى شيء من التخلف في تطورها الاجتماعي”(6).

يعتقد مالك بن نبي أن التخلف ليس موسوماً بتوفر أو نقص الوسائل المادية ( الأشياء )، وإنما بافتقاره للأفكار، وطريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه بقدر متفاوت من الفاعلية. نقص الأفكار وضعفها وعدم قدرة المفكرين والمثقفين على وضع الفكر ضمن مناهج نقدية علمية، تجعل من هذه الأفكار ذات درجة ضعيفة في فهم وطرح المشكلات الاجتماعية، وهي تحوّل المثقف إلى مجرد إنسان يؤمن بعقيدة يتوهم أنها هي الحقيقة، وهذه وثنية فكرية.

إذا إنّ روح النهضة وتقدمها يعتمد على ضرورة وجود فكرٍ حرٍ ناقدٍ للمجتمع وظاهراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هذا النقد في واقعنا الاسلامي الحالي يكشف لنا كما كشف لمالك بن نبي أننا نفتقد لشبكة اتصالات ثقافية، تحمل مشروعاً نهضوياً حقيقياً.

إنّ المسؤول عن هذه الحالة المتخلفة هو المثقف المسلم، الذي لاتزال مهمة التصدي للخلل الاجتماعي والاضطراب في نظام الفكر من مسؤولياته، كما ان من مهماته الأساسية غياب وسائل الفاعلية. إنّ هذا العزوف لدى المثقف المسلم عن التصدي لكل المشكلات في مجتمعه تعود إلى قناعته الضعيفة بأهمية القيمة الاجتماعية للأفكار، لذلك يمكن القول أن دور المثقف المسلم يؤدي دوراً في تفاقم أزمة نهوضنا الحضاري، بدلاً من الإسهام في التصدي لها والعمل على معالجتها..

ينتقد مالك بن نبي في هذا السياق ما يُطلقُ عليه مصطلح ” المتعالم ” أي المثقف الذي يعتقد نفسه يعلم كل شيء، ويعمل على تحويل فكره بما يخدم حاجاته ومطامعه، وهذا يعني أن من يحمل هذا المصطلح هو مثقف ” سلطة الأمر الواقع “.

بن نبي وسيّد قطب وخلافهما الفكري :

ثمة فوارق بنيوية عميقة تخصّ جوهر الرؤية الاجتماعية والفكرية بين مالك بن نبي وسيّد قطب. ولعلّ حجر الأساس في رؤية أسباب ونتائج تأخّر المسلمين عن الركب الحضاري، وتقدّم الآخر غير المتدين في المجتمعات المتقدمة، هو السؤال الرئيسي : لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم.

بالنسبة لمالك بن نبي فهو ميّز بين الإسلام والحضارة ” التنمية الشاملة ” بصورة يمكن أن يكون المسلم متحضراً أو متخلفاً، هذا التحضر أو التخلف له علاقة بفعالية النهوض الحضاري التنموي، ولا علاقة له بجوهر الإسلام. يقول بن نبي ” تقوم الحضارة على العدل مع الكفر، ولكنها لا تقوم على الظلم مع الإيمان”.

العدل ضرورة للنهوض الاجتماعي، وهو عدل يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما فيها القضائية وغيرها، وهذا لا يرتبط فقط بالإيمان من عدمه، بل تحكمه قوانين اجتماعية ودرجة تطور. هذه الفكرة انتقدها سيّد قطب واعتبرها تمييزاً، فسيد قطب يعتقد أن المسلم بالضرورة متحرر، إذ برأيه أن الإسلام هو الحضارة. هذه النظرة لا تُظهر طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع المسلم، بل تعمل على سترها بغطاء ايديولوجي ديني غير علمي، وهو أن الاسلام هو الحضارة. الإسلام هو رسالة ذات جوهر فكري يقود إلى العدل، ولكن هل حملة الاسلام ومن يدعون الدفاع عنه هم يعملون من أجل العدل أم من أجل ما يرونه هم عدلاً. هذه الرؤية تقود إلى فهم أن التعصب لفكرة هي ” الحضارة ” دون دراسة ركائزها ومعوقاتها وحركتها كما حدث مع سيد قطب يكشف عن عصبوية فكرية ضيقة لا ترى المجتمع وفئاته في حركتها، وفي تشابك علاقاتها، وفي صراع مصالحها ووحدة تكوينها. وهذه العصبوية تنافي جوهر الاسلام ورسالته، وتحصرها في نطاق محدّد كرد فعلٍ على الجهل بطريقة اكتشاف قوانين التطور وعملها باتساق.

يعتقد سيّد قطب أن السؤال لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم هو سؤال خاطئ، فباعتقاده أنّ المسلمين تخلّفوا لأنهم تركوا الاسلام، وهذا يتطلب العمل على إعادتهم إلى الإسلام. وهو يعتقد أن التقدّم الحضاري  “التنموي ”  لا يعني تقدماً ما داموا بعيدين عن الدين، ولذلك هم في جاهليتهم جهلاء.

مالك بن نبي لا يعتقد بما ذهب إليه سيّد قطب، لذلك فهو يرى أن الإسلام كرسالة ليس هو الحضارة، بل أن الإسلام وحي نزل من السماء، بينما الحضارة لا تنزل من السماء، الحضارة يصنعها البشر عندما يُجيدون توظيف قدراتهم، ويُحسنون التعامل مع شروط الواقع المكانية والزمانية والاجتماعية.

إذاً لم يُدرك سيّد قطب معنى مفهوم الحضارة لدى مالك بن نبي، وهو بهذا لم يستطع بناء الرؤية العلمية الصحيحة لانطلاق المجتمع الإسلامي، وإنما عمل على إغلاقه وفق فهمه للنص الديني في حالة سكونيه وليس في صيرورته.

هذا الأمر الخلافي يوضّح أن المسلم إذا نجح في توظيف العلاقة بينه كقوّة فاعلة ذات فكر علمي متحرر وبين ثروات وطنه وفق زمنٍ مدروسٍ فإنه يستطيع بناء النهوض الحضاري، أي تحقيق التنمية الشاملة. والاسلام هنا يمكن ان يمنح قوةً أخلاقيةً من أجل تمتين البناء الحضاري ، لهذا نستطيع القول أن فكر سيّد قطب في مراحله الأولى كان يلتقي مع فكر مالك بن نبي حول مفهوم ” العدالة الاجتماعية ” وحول ” صراع الإسلام مع الرأسمالية ” ولكن ظروف الواقع ابتعدت بسيّد قطب عن مفهوم الحضارة لدى مالك بن نبي.

نقد الفكر السياسي الغربي لدى بن نبي :

تبقى المرجعية الرئيسية لفكر مالك بن نبي مرجعية إسلامية نقدية، فهو ينقد التخلف المجتمعي الإسلامي، ويبيّن أسباب هذا التخلف. كذلك فهو ينقد الفكر السياسي الغربي، الذي برّر العلاقة الاستعمارية بين الغرب والمجتمعات الإسلامية، التي وقعت تحت نير استعمار الغرب لها.

يرى مالك بن نبي أن المجتمعات الغربية لم تحقق الديمقراطية بما تضمنته من فكر، رغم أنها اعتمدت على أنظمة حكم ديمقراطية، وهذا يظهرُ من عدم قدرتها على تحقيق المساواة والعدالة والضمانات الاجتماعية  لها ولغيرها. لذا يرى بن نبي أن ” ما يتعلق بالديمقراطية كمفهوم شامل، يعني سلطة الإنسان، وهو مناقض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله، لأن سلطان الأمة أو الإنسان في الديمقراطية الغربية سلطة مطلقة، لذا تُصبح قراراتها قوانين واجبة التنفيذ، حتى وإن كانت تخالف القانون الأخلاقي، ومتعارضة مع المصالح الإنسانية العامة “(7).

هذه الرؤية تكشف فهم مالك بن نبي لتناقضات الديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية، فالديمقراطية هنا تمرّر مصالح من يستفيدون منها، ولكنها لا تهتم بالشعوب الأخرى، وهذا يوضح مرحلة الاستعمار الأوربي والغربي لدول العالم ومنها الدول الإسلامية. لذلك يعتقد مالك بن نبي أن التعاون لا يتم إلا إذا توفر عامل أساسي هو عامل العقيدة، التي تستطيع وحدها جعل ثمن الجهد محتملاً، مهما كانت قيمته لدى صاحبه. ويعتقد أيضاً أن الفصل بين الدين والدولة ( العلمانية ) لن يكون برأيه سياسة ناجحة لغياب القيمة الأخلاقية. فالدين برأي بن نبي يغرس في نفسية الفرد والمواطن القابلية والاستعداد للتضحية والبطولة والإيثار. حيث يقول : ” إنّ التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد ينبغي أن يقوم وجوباً على عاملٍ أخلاقي لأن السياسة بلا أخلاق خراب للأمة “(8).

لذلك يجد مالك بن نبي أن السياسة الغربية تقوم على مصالح خاصة بها، ولا تستند إلى قيمٍ أخلاقيةٍ ثابتة. بل هي مصالح عاجلة تتسم بعدم الثبات والديمومة. هذه السياسة ليس بإمكانها تحقيق التجانس المشار إليه، مما يؤدي إلى خللٍ ظاهرٍ في علاقة الدولة بالوسط الاجتماعي، وتدهور العلاقة بينهما.

ويرى مالك بن نبي أن النظام السياسي الاسلامي مقيّد بالشريعة، وهذا ما يجعل من العقيدة عامل دعمٍ للتعاون بين الفرد والدولة. ولكن لم يقل مالك كيف يمكن ضبط عمل الحاكم للتقيّد بالشريعة، ما دام هناك غياب لتقسيم السلطة في الدولة كما يفعل النظام الديمقراطي الغربي. وهذا لا يعني أن النظام الديمقراطي الغربي هو نظام إنساني مثالي، ولكن لا يمكن ضبط عمل الحاكم في المجتمع الإسلامي دون مؤسسات تحدّد صلاحياته، وتقيّد عمله، وتمنعه من التحكم بمصائر الناس. هذا خلل بنيوي في فهم الحاكمية الإسلامية، وبالتالي فالدولة هي عقد اجتماعي يمكن الاستفادة من العدالة الاجتماعية والحريات الحقيقية، التي يمكن استنباطها لمصلحة المجتمع الإسلامي، وليس لمصلحة فئاته المتحكمة بقراراته.

يعتقد مالك بن نبي أن الإسلام يوفر حرية الضمير والعقيدة وحرية التعبير والرأي، ومبدأ حصانة المنزل، ويرى في الزكاة وتحريم الربا ومقاومة الاحتكار مبادئ ضرورية لحكم المجتمع، وقيام الدولة فيه.

لماذا هُمّشَ فكرُ مالك بن نبي :

 وقعت الثورة الجزائرية كحدث تاريخي عام 1954، في مرحلة الصعود القومي التحرري في بلدان العالم الثالث والبلدان العربية. وهذه الثورة وجدت سنداً فكرياً واجتماعياً لها من خلال طرحها لحرية الشعب الجزائري، وضرورة بناء دولةٍ اشتراكية بعد تحرره من الاستعمار الفرنسي. ولعلّ ” الخيار الاشتراكي الذي تبنّته الدولة الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة، كان أحد أهم الأسباب الرئيسية وراء انحسار فكر مالك بن نبي لدى نخبٍ قليلة جداً “(9).

ويبدو أن فكر مالك بن نبي كان يختلف عن فكر جبهة التحرير الوطني الجزائرية أثناء الثورة وبعد الاستقلال، وهذا ما جعل جبهة التحرير تنظر إلى فكر بن نبي على أنه جزء من الفكر الإسلامي، الذي يزيد من فعالية جمعية علماء المسلمين، التي حظرتها الحكومة الجزائية بعد الاستقلال. يقول عبد السلام حواس : ” إن بن نبي أبى أن يكون من الجبهة، واعتقد في رسالة وجهها إلى الرئيس بن بلة أن الثورة ضمّت من كان مع فرنسا وليس العكس، وحاربوا تحت رايتها لفترة من الزمن “.

لكنّ الحقيقة أن فكر مالك بن نبي يرفض الخيار الاشتراكي بصورته المعلنة، باعتباره فكراً بعيداً عن جوهر العدالة الاجتماعية الإسلامية، وبعيداً عن تحقيق النهوض الحضاري، لقد عملت حكومة الاستقلال على إضعاف الدور الفكري للنخب الفكرية والثقافية الجزائرية، حين رفعت شعار ” لا بطل إلا الشعب “. فهذا الشعار قدّم إلى الواجهة الفكرية والسياسية والثقافية أشخاصاً لا يمتلكون مقدرةً في هذه الأبواب، وهو ما أضعف عملية النهوض الحضاري في الجزائر نتيجة عدم الاتساق بين أنساق هذا النهوض، وتحديداً بين الإنسان ومؤهلاته العلمية والفكرية والثقافية.

معنى القابلية للاستعمار :  

أثار مفهوم مالك بن نبي ” المجتمعات القابلة للاستعمار ” نقداً واسعاً، حيث لم ينتبه هؤلاء المعارضون إلى العلاقة الجدلية التي تتشكل بين الحلقة الضعيفة والحلقة القوية في العلاقات الدولية في مرحلة النظام الرأسمالي العالمي.

فقول مالك بن نبي بوجود ” قابلية للاستعمار ” لدى المجتمعات والدول الضعيفة، لا يعني هذا الأمر إقراراً بضرورة الاستعمار، أو تبريراً لفعله حيال الشعوب المستعمرة(بفتح الميم )، فالدول الرأسمالية تبحث عن مصادر للثروات الباطنية واليد العاملة الرخيصة، وهذا يتحقق لها وفق رؤيتها عبر استعمارها لدولٍ ضعيفةٍ تمتلك ثروات جيدة.

إنّ رأي مالك بن نبي يقوم على فهم أن الدول والمجتمعات التي استعمرها الغرب هي دول ومجتمعات عاجزة عن بناء نهوضها الحضاري، وعن الدفاع عن نفسها، نتيجة عوامل مختلفة في مقدمتها العوامل السياسية والفكرية والاقتصادية. هذا الضعف لعب دوراً في استدعاء الخارج الغربي القوي، ولهذا يلعب الضعف لدى المجتمعات الضعيفة دوراً حاسماً في قبول المستعمر الغربي، فالقوة تنتقل من وسطها العالي التركيز إلى وسط منخفض التركيز والقوة.

هنا مسؤولية المجتمعات القابلة للاستعمار، فهي لم تعمل على تجاوز ضعفها، بل بقيت تدور في مربع فكرها وممارستها اللتين تضعانها في هذا الموقع القابل للاستعمار.

يقول الكاتب الفلسطيني غازي التوبة : ” لم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أصبحت عناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، وربط مالك بن نبي بين الانحطاط وبين القابلية للاستعمار، فاعتبر أن هذه القابلية عامل باطني يستجيب للعامل الخارجي، وأبرز مظاهر هذا العامل الباطني البطالة، وانحطاط الأخلاق، الذي يؤدي إلى شيوع الرذيلة، وتفرّق المجتمع الذي يؤدي إلى الفشل من الناحية الأدبية.

إن معرفة عيوب المجتمع الداخلية ونقدها يتطلب ” إلقاء الضوء عليها في بنى المجتمعات التي وقعت ضحية الاستعمار، بعد أن كان التركيز المعتاد لحركات التحرر ينصبّ أساساً على الدور الذي قامت به القوى الاستعمارية في تأييد التخلف، أو حتى في صناعته، بعد إذ لم يكن موجوداً “(10).

لذلك يعتقد مالك بن نبي أن قابلية المجتمعات للاستعمار تعتبر بحدّ ذاتها نتيجة سياسات الاستعمار الدولية، وليست هذه القابلية وليداً طبيعياً لدى هذه المجتمعات.

بن نبي وموقفه من المرأة :

لا يزال الفهم التقليدي لتحرر المرأة فهماً قاصراً، فهو يقوم على منح المرأة حقوقاً، ويرتب عليها واجبات، وكأنه دعوة إلى التمييز بين المرأة والرجل في البنية الاجتماعية الواحدة. فمناقشة هذا الأمر على هذا المستوى تبدو بعيدة عن فهم طبيعة المجتمع الإنساني وتكوينه والعلاقات المتحكمة بأفراده.

جوهر الأمر يتعلق بأن الرجل والمرأة كليهما يتعرضان في البنية الاجتماعية المتخلفة إلى وضعٍ لا إنساني يبتلع حقوقهما، ويميّز بينهما. فقضية الرجل والمرأة هي قضية ” الفرد والمجتمع “، لذلك يجب أن تناقش وضعية المرأة على هذا المستوى، ولا يمكن الاعتداد بأولئك الذين عملوا على دور المدافعين، والذين يذودون عن حقوق المرأة سواءً من كتّاب الشرق أو الغرب، فليس مجدياً ” عقد مقارنة بين الرجل والمرأة، ثم نخرج بنتائج كمّية تُشير إلى قيمة المرأة في المجتمع، وأنها أكبر أو أصغر من قيمة الرجل أو تساويها، فليست هذه الأحكام سوى افتئات على حقيقة الأمر، ومحض افتراء، بل أن الأقاويل عن حقوق المرأة وتحريرها، أو المطالبة بإبعادها عن المجتمع مجرد تعبير عن نزعات جنسية لا شعورية “(11).

هذه الرؤية لدى مالك بن نبي تُظهر سعة وعمق فهمه لطبيعة المجتمعات الإنسانية، التي لا تزال تخضع لقوانين الملكية والصراعات والتطور الرأسمالي.

إنّ تحرير المرأة وفق رؤية مالك بن نبي تعتمد على تحرير المجتمعات من أسر استبداها البشري وقهرها الاجتماعي، والعبور بها من عتبة التخلف الذي يشكل علّة العلل في المجتمعات الاسلامية.

 

ثبت بالمراجع :

  • mawdoo3.com بحث عن مالك بن نبي – إحسان العقلة – 30 يونيو/حزيران 2018
  • binnabi.net مالك بن نبي رجل فكر ومفكر حضارة – المولد والنشأة.
  • me نماذج من فكر مالك بن نبي في ” مشكلات الحضارة “- تماضر حسين 22/12/2016
  • net مالك بن نبي وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة 7 فبراير 2013
  • kantakji.com النظرية التنموية في فكر ابن خلدون ومالك بن نبي
  • islamonline.net النقد الذاتي والمساءلة الحضارية عند مالك بن نبي – حسان عبدالله -31 مارس/آذار/2016
  • islamtoday.net  نقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث – د. يوسف حسين 31/ ديسمبر/ كانون أول 2009
  • المصدر السابق
  • sasapost.com لماذا هُمّش فكر مالك بن نبي في الجزائر – إبراهيم الهواري 13/2/2017
  • binnabi.net في النقد المنطقي لمفهوم القابلية للاستعمار
  • albayan.co.uk المرأة في مرآة المفكر مالك بن نبي 24/7/2017 أ.د. حفيظ اسليماني

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني