fbpx

مأزق الثورة السورية: عسكرتها.. وأسلمتها

0 278

مقدمة: 

شكّل تفجّر الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011 فرصةً ذهبيةً لكثير من القوى الداخلية لتحقيق أهدافها، هذه الأهداف كانت بعيدةً عن الهدف الذي خرجت من أجله الجماهير المحتجّة، والذي يمكن تلخيصه برغبتها وتصميمها في الخلاص من نظام الاستبداد، هذا النظام كان خلف “انعدام الحياة السياسية، وتأليه الحكّام، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الفقر المدقع، وانعدام الكرامة، وتفشي الظلم، وانعدام المساواة، وتغوّل الأجهزة الأمنية وسحقها للمواطن”(1).

ولعلّ حجم القمع الدموي الكبير الذي واجه النظام السوري به الفئات الشعبية المنتفضة، وترويجه أن ما يجري في البلاد هو مواجهة لقوى إرهابية ذات اتجاه إسلامي راديكالي، دفع بالعديد من المنخرطين بالاحتجاجات إلى خيار حمل السلاح الفردي دفاعاً عن المتظاهرين، وقد ترافق ذلك مع إطلاق تسميات دينية لمظاهرات أيام الجُمع.

هذه الدراسة تذهب إلى الكشف عن كيفية تسلل الإسلاميين إلى الصف الشعبي المحتج، وعن حرف مسار الاحتجاجات السلمية نحو العسكرة والأسلمة.

الجماعات الإسلامية والإطار الأيديولوجي:

لا يمكن البحث في نتائج ما وصلت إليه المعارضة السورية بعمومها في صراعها مع النظام السوري دون لحظ الزجّ بالفكر السياسي الديني منذ بداية الاحتجاجات، مع التأكيد أن غالبية القوى المحتجة هي ذات أصول ريفية تعرّضت بقسوة للتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي من قبل النظام الحاكم. ويمكن القول “إن السمة الأبرز للحراك الثوري ونشاطاته المتنوعة الريادية واللاحقة هو الريفية، حيث كان أبناء الريف المحرّك الأول للمظاهرات، وصارت سواعدهم المسند الأول لبندقية الثورة”(2). واستطاعت الجماعات الإسلامية كحركة الإخوان المسلمين أن تتسلل إلى عمق محور الحراك الشعبي المحتجّ. وعملت منذ البداية على إلباسه طابعاً دينياً ذا توجه وصبغة طائفيتين. هذه المقدرة الإسلاموية كان يختفي خلفها غياب حقيقي للقوى الوطنية الديمقراطية، التي تريد الذهاب بالبلاد من مربع الاستبداد والقهر الاجتماعي إلى واحة دولة الحرية والكرامة والديمقراطية.

إنّ استخدام الجماعات الإسلامية للشعارات الدينية مثل تسمية أيام الجُمع والتي “تحمل العديد منها دلالات دينية صريحة، بما لذلك من تأثير في توجيه الرأي العام ومساراته” فكانت هناك جمعة أحفاد خالد بتاريخ 22/7/2011، وجمعة الله معنا بتاريخ 5/8/2011، وجمعة الله أكبر بتاريخ 4/11/2011. إضافةً إلى عددٍ آخر من الجمع على ذات المنحى.

هذه التسميات وما كان يُرفع من الشعارات الدينية التي أبرزها الإسلاميون ساعدت النظام السوري على إظهار الحراك الثوري وكأنه دعوة لإقامة دولةٍ إسلامية. لذلك نجد أن ما قدّمه إعلام نظام الأسد في محاولاته لتبرير “الحلّ الأمني” وروايته الرسمية منذ خروج أول المظاهرات السلمية المطالبة بالتغيير عن أنّ ما يجري هو لخدمة قيام “إمارات سلفية” و”فتنة طائفية”(4).

وقد تلاقى السلوك الإعلامي للجماعات الإسلامية المنخرطة بالاحتجاجات مع الضخّ الإعلامي الدعوي الذي كان يقوم به الشيخ السلفي عدنان العرعور. وكذلك تلاقى مع ما طرحه الشيخ يوسف القرضاوي الذي يشغل منصب رئيس هيئة علماء المسلمين، حيث قال في خطبة الجمعة (25 آذار/مارس 2011) أي بعد عشرة أيامٍ على انفجار الاحتجاجات “إن الأسد أسير طائفته، وإن الشعب السوري يعامله على أنه سُنيّ”(5).

هذه التصريحات ذات النبرة الدينية ساعدت الخطاب الأيديولوجي الديني للجماعات الإسلامية على أن يطفو على السطح، وجعلت هناك إمكانية أن تنحرف حركة الاحتجاجات ذات الطابع الوطني عن مسارها الطبيعي المطالب بدولة تؤمّن لأبنائها الكرامة والحرية كمواطنين، إلى مسارٍ وكأنه صراع بين طائفتين هما الطائفة العلوية التي ينتمي إليها رئيس النظام السوري، والطائفة السُنيّة التي ينتمي إليها غالبية المحتجين.

إنّ بروز الجماعات الإسلامية وتحديداً “حركة الإخوان المسلمين” كقوّة مهيمنة على الحراك الشعبي بعد فترةٍ من تفجّره أساسه غياب حقيقي للقوى الوطنية الديمقراطية، التي تمزّقت أوصالها خلال عهد نظام الأسد الأب. ذلك النظام عمل على سحق كلّ القوى الوطنية والديمقراطية المعارضة لنظامه الديكتاتوري عبر السجون والمطاردة السياسية والتصفيات الجسدية. ولهذا ونتيجةً لغياب القوى المنفتحة على التطور الفكري والاجتماعي فإنّ “الردّة الدينية اكتسبت أرضيةً لا بأس بها، فاستطاعت أن تتغلغل في نسيج المجتمع السوري، فالرقابة الممارسة على الأفراد، سهّلت للدين المتشدد بالتسللّ إليهم، ليكون ملجأهم الأخير”(6).

هذه الردّة تكتسب قوتها الأيديولوجية من الثقافة والوعي السائدين في المجتمع. وهما أساساً يرتكزان على الإيمان بحتميّة القضاء والقدر. هذا النمط من التفكير هو من استغلته الجماعات الإسلامية لإشاعة خطابها الأيديولوجي المتناقض مع الديمقراطية ومجتمع الحريات.

ووفقاً لهذه الحالة التي وفرتها الجماعات الإسلامية للنظام السوري ليقول ويكرّر إنّ ما يجري هو من فعل عصابات مسلحة ومن إرهابيين سلفيين، وإن هذا الحراك هو حراك تقوم به جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وإن المستهدف الأساسي هو “الدولة العلمانية” والأقليات الدينية والقومية والطائفية في البلاد.

هذا الخطاب السلطوي وجد متسعاً رؤيوياً حقيقياً له في خطاب الإسلاميين. وبذلك انفضّت كثير من القوى الداخلية والدولية المؤيدة للاحتجاجات الشعبية عن دعم الحراك بسبب الاستقطاب الطائفي، الذي مارسه الإسلاميون والنظام في آن واحد.

ذراعا المعارضة السياسي والعسكري الضعيفتان: 

لم تجد حركة الاحتجاجات الشعبية السورية منذ انطلاقتها فرصةً لتشكيل قيادة سياسية واحدة للحراك على مستوى البلاد، وهي بذلك فوّتت هذه الفرصة، التي تعتبر ركيزة عملها السياسي الأساسية، إذ أن وجود قيادة سياسية واحدة للحراك الشعبي، يفترض بالضرورة وجود برنامج عملٍ سياسي واضح الأهداف على المستويين التكتيكي والاستراتيجي. وباعتبار أن قيادات الحراك الشعبي لا تمتلك خبرات عمل سياسي سابقاً، فإن ذلك منع فعلياً تشكيل هذه القيادة الواحدة على الأرض، ما سهّل في المجال لقوى المعارضة التقليدية المختلفة في التقدم نحو موقع قيادة الحراك الشعبي، وتشكيل “المجلس الوطني”، وفي مقدمة هذه القوى حركة الإخوان المسلمين، والتي كان أغلب أعضائها خارج البلاد منذ فترة صراعهم مع النظام في الثمانينيات. إضافة إلى شخصيات معارضة، وبعض القوى الليبرالية السياسية كحزب الشعب الديمقراطي، وبعض تمثيلات حركة الاحتجاج.

إنّ تشكيل “المجلس الوطني” لم يكن غير تشكيل رداءٍ سياسي لجسد حراكٍ شعبي لا صلة حقيقية بينهما. فمن الطبيعي أن تتكون بنية “المجلس الوطني” من تمثيلات سياسية لقوى الحراك على الأرض. ولكنّ ذلك لم يحدث بسبب عدم وجود استراتيجية واحدة لدى المحتجين. وهذا ما جعل فاعلية “المجلس الوطني” ثم فاعلية الجسد السياسي الوريث له “ائتلاف قوى الثوة والمعارضة” ذراعاً سياسيةً ضعيفةً، لا تستطيع رسم مسارٍ لحركة الاحتجاجات وقيادتها، بما يخدم استراتيجية الخلاص من نظام الاستبداد. هذا الخلل في العلاقة بين الإطار السياسي (المجلس الوطني ثم الائتلاف) وبين جسد حركة قوى الاحتجاج في الميدان، ساهم في فتح المجال لقوى إقليمية ودولية للتحكم بهذا الإطار السياسي وتوجيهه، وعمل على إغلاق دائرة الفعل السياسي لمصلحة الأنانية الأيديولوجية الإسلاموية، التي تمثلها حركة الإخوان المسلمين، ما زاد من ضعف الذراع السياسية الغريبة أصلاً عن جسد الحراك الشعبي.

هذا الوضع دفع بكثير من قوى الميدان الإسلاموية إلى البحث عن سندٍ ماديٍ خارجي، دون بذل جهد في فهم العلاقة الجدلية بين مسار واتجاه الاحتجاجات، وهذا السند الخارجي الذي يمدّهم بالمال والسلاح.

هذه الممارسة الميدانية المرتكزة على غياب استراتيجية مواجهةٍ فاعلةٍ مع النظام الاستبدادي، إضافة إلى طبيعة بنية القوى التي تخوض الصراع، وهي ذات رؤية مشوشةٍ فكرياً، لم يكن هدف بناء الدولة المدنية الديمقراطية ضمن أهدافها، دفع بالأمور إلى تحويل الفعل السلمي للتظاهر إلى مواجهةٍ عسكرية بشكلٍ مباشر مع النظام. وبهذا يمكن القول “إن الثورة السورية تحوّلت من ثورة مدنيةٍ إلى حربٍ أهليةٍ، ومن ثم إلى ساحة صراعٍ دولي بالوكالة، وأنّ هذه التحولات لم تكن منفصلةً عن بعضها، كما لم يحدث بشكلٍ مفاجئ أو جذري، بل كان لها سياقها البنيوي، الذي ساهم في حدوث هذه التحولات منذ بداية الأحداث”(7).

وإذا أردنا فهم عمق اتجاه أسلمة حركة الاحتجاجات الشعبية في سوريا، فإن ذلك سيقودنا إلى فهمٍ جدليٍ بين تكوين السلطة الاستبدادية للنظام السوري وتكوين بنية المعارضة الميدانية. وهذا يمكن تلمسه بشكلٍ واضحٍ من خلال أنّ “السلطة قامت بمجازر طائفية بهدف دفع الثورة إلى أن تأخذ منحى ردّ الفعل الطائفي. ولا شكّ في أنّ ذلك أسهم في “أسلمة بعض الفئات السُنيّة وميلها إلى التعصب”(8).

إذاً إنّ دفع النظام السوري الأمور إلى عتبة المواجهة الطائفية عبر خطابه الإعلامي، وعبر استخدامه للقوّة المفرطة بحقّ الحاضنة الشعبية لحركة الاحتجاجات أوجد له ردّ فعل يتمّمه. وبدل أن تبقى العلاقة الصراعية بين نظام مستبدٍ وشعبٍ يريد الحرية، نجح النظام بتصوير الأمر وكأنه حرب أهلية بين طائفتين.

إنّ عدم وجود رؤية استراتيجية لدى قوى الاحتجاج الميدانية سهّل لقوى إقليمية التدخل في هذا الصراع من باب اعتباره صراعاً طائفياً، على اعتبار أن النظام الحاكم هو نظام أقلوي طائفي متحالف مع عدوٍ إقليمي طائفي هو إيران. ولهذا ونتيجة غياب قيادة سياسية واحدة لدى المعاضة، ظهرت قوى عسكرية لديها ارتباطات بأجندات إقليمية وبعضها لديه ارتباطات دولية. هذه القوى لم يكن لديها القدرة على الاتحاد ضمن جيش وطني واحد معارض. والسبب أن جهات التمويل والتسليح ليست جهة واحدة، بل جهات بمصالح مختلفة. وبذلك بدت الصورة واضحة أكثر، من أنّ حركة الاحتجاجات لم تمتلك أداةً عسكرية واحدة، تتبع لمركز قيادةٍ سياسية واحد.

هذه التطورات تكشف عن غياب أيديولوجيا واحدة لحركة الاحتجاجات، والدليل على ذلك أنّ قوى الميدان اختلفت في التعبير عن أهدافها بين دولة حريةٍ وكرامةٍ، ودولة ذات طابع إسلامي، أو دولة خلافة إسلامية متشددة. وهذا الأمر يبيّن العمق الفكري لدى قادة الميدان، الذين لم يميزوا بين كونهم مسلمين وكونهم من دعاة بناء دولة إسلامية يحتاج بناؤها إلى شروط موضوعية وذاتية غير متوفرة في الوضع السوري.

ولذلك ونتيجة غياب العمق الفكري، فإن الفصائل العسكرية المسلحة كانت تخوض معارك ضد بعضها، وأساس هذه المعارك ليست قضية مواجهة الاستبداد وتوحيد الرؤية حوله، بل كانت لمنافع مادية مباشرة. هذا الخلل بين القوى السياسية التي تصدرت المشهد السياسي وغياب الرؤية الفكرية الحاسمة تجاه طبيعة الصراع مع الاستبداد لدى قوى الميدان هو من سهّل فعلياً لتسلّل الإسلاميين الأكثر تشدداً ايديولوجياً (كجبهة النصرة وداعش). فالحاضنة الشعبية التي لم تكن محروسةً بفئة دعاة الديمقراطية والحريات بصورة مدروسة، بقيت ذات مرجعية اجتماعية وفكرية تقليدية تنتمي إلى الإسلام الطبيعي.

لم تميّز قوى المعارضة السياسية التي شكّلت المجلس الوطني والائتلاف درجة خطورة تسلل القوى الجهادية، وهذا ظهر جلياً في خطبٍ متعددة لبعض رموز المعارضة، ما أعطى دوراً لقوى الاسلام السياسي بعيداً عن إلغاء الاستبداد، والاقتراب من مفهوم الاستيلاء على السلطة السياسية. و”باتت جبهة النصرة توجد بالفعل مع الكتائب الإسلامية الأخرى وتشاركها في تصفية كل ملمحٍ وطني بين الفصائل، وتصفية الثورة ذاتها بذريعة التكفير، وإقامة المحاكم الشرعية”(9).

إنّ بقاء الذراع العسكرية والسياسية للمعارضة السورية في حالة ضعف، نتيجة عدم القدرة على بناء المكوّن الوطني، دون تحكمٍ إقليمي أو دولي فيه. هذا المكّون هو من يرسم سياسة الخلاص من الاستبداد، ويضع أولويات واستراتيجيات عمله من صلب الأجندة الوطنية، بحيث تتمّ عملية الاستفادة من الدعم الخارجي بما يخدم حركة الخلاص من الاستبداد، وليس من أجل خدمة أهداف إقليمية تضرّ بأهداف حركة الاحتجاجات الشعبية. ولذلك تبدو إعادة النظر ببنية القوى الفاعلة والمسيطرة على العمل المعارض ضرورةً تاريخيةً، لتصحيح اتجاه حركة الاحتجاجات والانتفاضة، بما يخدم قيام دولة مدنية ديمقراطية.

دور الإسلام السياسي في مأزق الانتفاضة السورية: 

يظهر مأزق الانتفاضة السورية بصورةٍ جليةٍ مع تسلل الإسلاميين، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين إلى صفوف المتظاهرين. ولعلّ إحجام الإخوان عن الظهور العلني كانت تقف خلفه عوامل عديدة، أهمها، أن النظام السوري لا يزال يتمسّك بالقانون قم 49 لعام 1980 والذي ينصّ على تجريم وإعدام كل من تثبت صلته بهذه الجماعة. وحين حاول الإسلاميون المنحدرون من حركة الإخوان إظهار شعاراتهم الإسلامية اندفع المتظاهرون إلى الهتاف بشعارهم المعروف “لا سلفية ولا إخوان.. ثورتنا ثورة إنسان”. عبر هذا الموقف استطاع الإخوان المسلمون التغلب عليهم بأسلوب التقية السياسية، حيث تلطّوا خلف شعارات المتظاهرين في انتظار الفرصة المناسبة لفرض وجودهم، والدفع بالانتفاضة لخدمة أهدافهم السياسية. 

كان همُّ الإسلاميين عموماً إبعاد القوى الوطنية الديمقراطية عن واجهة الاحتجاجات، تحت شعار يقول: إن العلمانية كفر. وهذا ما دفع النخب العلمانية إلى التراجع إلى الخلف، وبذلك سمح هذا التراجع لحركة الإخوان المسلمين بالطفو على سطح الفعل السياسي والاعلامي والإغاثي والعسكري لاحقاً.

لقد مارس الإخوان المسلمون “تقيةً عروبية وعلمانية زائفة، وكانوا متحمسين جداً للانتقام ودخول النزال الطائفي مع النظام، فاقتحموا ميادين الثورة معضودين بسيولة هائلة من داعمين كثر، فأغرقوا العمل المدني والإعلامي والعسكري في أشهر قليلة بشتى أنواع الدعم”(10).

هذه الرؤية والممارسة الإخوانية عملت على تفتيت فعل الحراك الثوري، الذي يريد الخلاص من الاستبداد، إذ استبدلت تدريجياً هدف الانتفاضة الذي يريد إزالة الاستبداد، ونيل الحريات، وبناء الديمقراطية، بهدفٍ آخر هو إقامة دولة إسلامية وفق المنظور الإخواني.

وقد أدّى حراك الإخوان المسلمين على الساحة الداخلية للاحتجاجات الشعبية إلى حالةٍ “غادرت عشرات الشخصيات، أو تمّ تغييبها مقابل ظهور أصوات تقترب من لغةٍ جديدة تميل إلى العسكرة والتقرّب من المجتمع الدولي طمعاً في الحظر الجوي أو المنطقة العازلة”(11).

وقد لعب الدور الإقليمي والمال السياسي الكبير دوراً في سيطرة الإخوان المسلمين على المجلس الوطني، الذي صار هيكله الرئيسي ذا بنية إخوانيةٍ واضحة. بهذه الطريقة تمّ القبضّ على الذارع السياسية المشكّلة أساساً في خارج البلاد من معارضةٍ إخوانية، ومن بعض رموز المعارضة الوطنية. وبنفس الأسلوب تمّت السيطرة على كثير من الأذرع العسكرية، التي تعمل ضدّ النظام، وتصفية المختلف عنهم أيديولوجياً أو سياسياً مثل فصائل “الجيش السوري الحر”.

لذلك يمكن القول إن غموض الإخوان المسلمين ظهر بأن “لم يبد الإخوان رغبةً حقيقيةً في تقديم إسلام مدني، تجنباً لإشكالية توصيفه (بالليبرالي الإشكالي). وكانت فرصتهم التمهيدية للتسلط السياسي. كان تسلطهم تسلّطاً لا يقبل الشك فهم لم يمنحوا الدكتور برهان غليون السياسي السوري الوطني الأكاديمي فرصة إنتاج معارضة سياسية ترتقي للمأمول”(12).

إذاً يمكننا رسم مسارين مختلفين حدثا للانتفاضة السورية. المسار الأول هو مسار الاحتجاجات عبر أسلوب التظاهر السلمي. وهو مسار افتقد إلى وجود قيادة حقيقية فاعلة تقوده عبر برنامج واضح إلى تحقيق هدفه الأساس وهو إزالة الاستبداد. والمسار الثاني هو مسار استطاع احتلال مربعات المسار الأول نتيجة فقده لاستراتيجية واضحة. هذا الحلّ كان ذا طابع أيديولوجي اعتمد كرؤيةٍ في ممارسة الصراع السياسي، ضد النظام السوري من موقع ضيّق، هو موقع الطائفية السياسية.

إنّ الذهاب في هذه الطريق قاد الانتفاضة السورية إلى مأزقها الحقيقي، وانسداد الأفق أمامها. فلا يمكن إنجاز مهام وطنية ديمقراطية بأدواتٍ ما قبل وطنية وهي “أذرع طائفية”.

إنّ العمل الثوري وفق منطوق أيديولوجي ديني هو إحلال بالضرورة للمفهوم الأيديولوجي بدلاً من المفهوم السياسي، الذي يشرح طبيعة الصراع الحقيقية، ويبيّن الأدوات المناسبة لهذا الصراع، لاستخدامها في حلّ مأزق انسداد التطور الاجتماعي. لذلك تبدو الثلاثية (السياسي – الأيديولوجي – الديني) في الحالة السورية في علاقة تشابك، وهذا يقودنا إلى القول “إنّ ما يفرض سلطة الأيديولوجيا أو الدين هو انحياز السياسي الذي يعتمد على استغلال ما في الاثنين من قوى دافعة للعمل السياسي، وبالتالي لا يظهر استقطاب السياسة إنما تظهر سلطة كل من الدين والأيديولوجي ليبقى للسياسة فعلها المقنّع أو الخفي أو غير المحايد في الواقع”(13).

إذاً يمكن فهم أن المأزق الحقيقي للممارسة السياسية للإخوان المسلمين في مسار الانتفاضة السورية هو توظيفهم للأيديولوجيا الدينية لغايات سياسية مختلفة.

النهايات غير السعيدة لعسكرة وأسلمة الانتفاضة السورية: 

دخلت مرحلة عسكرة وأسلمة الانتفاضة السورية محطتها الأخيرة بعد التدخل الروسي في الصراع السوري في خريف عام 2015. إذ خسرت الفصائل الإسلامية مواقعها في شرقي حلب عام 2016، وفي الغوطة الشرقية عام 2018. هذه الخسائر تكشف عن حقائق أخرى لا يُراد لها أن تظهر على السطح السياسي السوري، فهي ليست مجرد خسائر عسكرية فحسب، بل هي هزيمة أيديولوجية للتيارات الإسلامية التي عملت على حرف الانتفاضة السورية السلمية عن مجراها الطبيعي، وتحويل هذه الانتفاضة إلى معركة اتخذت سمةً طائفية بغيضة، ما أضعف التأييد العالمي لها، وأبعد عنها أوسع قاعدة شعبية كانت تريد الديمقراطية والحرية. 

إنّ ما جرى لاحقاً بعد سيطرة الإسلاميين على مجريات الصراع مع النظام السوري هو أن “اكتسب الصراع صبغة طائفية، إذ بدأت جماعات السُنة في قتال جماعات مسلحة أخرى من العلويين، وهي الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها بشار الأسد وعائلته، والتي كان يسيطر أفرادها على أغلب أجهزة الدولة”(14).

ولكن ما جرى لاحقاً وبعد سيطرة الإسلاميين على العمل السياسي والعسكري للمعارضة هو أن كثيراً من السوريين بدأوا يُحسّون أن انتفاضتهم التي قاموا بها، وقدموا من أجلها تضحيات كبرى، قد تمّ اختطافها من جماعات إسلامية، وفي مقدمتها تنظيم الإخوان المسلمين.

واكتشف السوريون أنه لا يوجد بلد يعاني كما عانوه في انتفاضتهم، إذ بلغت خسائر الشعب السوري أكثر من 400 ألف قتيل، كان يقف خلفها وحشية النظام السوري المدعوم من إيران وروسيا ومن قوى أجنبية طائفية. إضافة إلى أن الصراع أخذ طابعاً مسلحاً وأيديولوجياً طائفياً. 

وبالعودة إلى الوراء قليلاً يمكن القول “لم يستطع الإخوان المسلمون أن يتزعموا الصفوف المعارضة إلا بفعل عامل خارجي تركي/قطري، وبدعم من إدارة أوباما في فترة 2011 – 2013. وعندما سُحب الغطاء الأمريكي ظهرت السلفية الجهادية بوصفها أقوى من الأصولية الإخوانية على الأرض في فترة 2013-2017″(15).

إن هذا الاتجاه الرؤيوي لدى التيارات الإسلامية عموماً ولدى حركة الإخوان المسلمين خصوصاً قاد الانتفاضة السورية إلى مأزقٍ سياسي حقيقي. وهذا الأمر يُعطي دلالات متعددة، ربما يكون أول هذه الدلالات هو اكتشاف أن الخلاص من الاستبداد لا يتمّ عبر أدواتٍ ما قبل وطنية كاستخدام الأيديولوجيا الدينية بصورتها الطائفية. مثل هذا الاتجاه والممارسة أضعف ولا يزال يُضعف وحدة العمل السياسي الوطني المعارض لكل شكلٍ من أشكال الاستبداد. ويشكّل بالضرورة إحساساً بالقلق لدى الأقليات الدينية والطائفية والإثنية، التي لا تقبل بالانخراط بغير دور وطني حقيقي، يُبعد الاستبداد على أرضية مواطنةٍ حقيقية ودولة ديمقراطية.

لهذا لا يوجد أي أفق سياسي قادم للحركات الإسلامية سواءً كانت سلفية أو أصوليةً أو جهادية. لأنها باختصار حركات معادية لوسطها الاجتماعي والإقليمي والدولي. وهذا يجعلنا نعتقد أن النهايات غير السعيدة لحركات الإسلام السياسي هي في طريقها إلى الجلاء والوضوح، والذي يعني هزيمة كبرى لهذا الاتجاه الذي نماعلى تربة الاستبداد والقهر الاجتماعي للشعب السوري الذي يريد بلوغ ضفاف دولة المواطنة الحقيقية.

ثبت بالمراجع:

1- www.asharqalarabi.org.uk مركز الشرق العربي – الثورة السورية – الأسباب والتطورات د.غازي التوبة 24/6/2012 

2- www.alsouria.net الأبعاد المجتمعية للثورة السورية جورج صبرة 1/1/2015 

3- www.suwar-magazine.org/details/764 قراءة في الحركة الإسلامية في الحرب السورية – طارق عزيزة

4- المصدر السابق

5- www.suwar-magazine.org/details/764 قراءة في الحركة الإسلامية في الحرب السورية – طارق عزيزة

6- Randakassis.eu/ar/?p=1071 أسلمة الانتفاضة وخسارة سوريا 27/4/2012 

7- www.almodon.com/arabworld مآلات الثورة السورية بعد سبع سنوات من اندلاعها 7/4/2018 

8- www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions ما طبيعة الحرب في سوريا- سلامة كيلة 23/12/2014 

9- Alarab.co.uk أي مستقبل للتيارات الإسلامية في سوريا – رانيا مصطفى 1/3/2017 

10- Newsyrian.net/ar/content دور الإخوان المسلمين في إفشال الثورة السورية- مصعب الحمادي

11- www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=10327 الدور الخفي للإخوان المسلمين في سوريا للسيطرة على مفاصل الثورة. محمد مهند مراد أيهم 28 أوكتوبر 2012 

12- www.ultrasawt.com /قول/أحمد هلال – سورية برسم الإخوان المسلمين

13- Pulpit.alwatanvoice.com السياسي – الايديولوجي – الديني ز علاقة اشتباك بين التوفيق والتوقيف أمل فؤاد عبيد 6/3/2007 

14- www.bbc.cim/arabic/middleeast-43836770 سبعة أسئلة تساعدك على فهم الصراع في سوريا 12 أبريل 2018 

15- www.alhayat.com/article/4578761 الإسلاميون السوريون – محمد سيد رصاص 5 مايو 2018.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني