fbpx

اليسار السوري … أزمة بنية وهوية وممارسة

0 397

نشرت هذه الدراسة في مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

مقدمة :

لا تخرج أزمة اليسار السوري بشتى تلويناته، ( القومي التحرري – الاشتراكي – الشيوعي )، على صعيد بنيته، أو هويته، أو ممارسته السياسية، عن أزمة المجتمع السوري، عبر مراحل تطوره، بعد استقلال البلاد عام 1946، وحتى المرحلة الراهنة، فالتطور السياسي والاقتصادي في سورية ما بين عامي (1946 – 1970) قطعته سلسلة انقلابات عسكرية، منعته من صيرورة تطوره الاجتماعي، وكان اليسار في هذه المرحلة، يمارس سياسة ” ردّ فعل ” على مجريات هذه الأحداث، أو يتبنى كما حدث لليسار الماركسي التقليدي مواقف تابعة للآخر البعيد “الاتحاد السوفياتي”، باعتباره جزءً من الأممية الثالثة التي يقودها السوفييت .

لم يكن موقف اليسار الماركسي السوري من قضية تقسيم فلسطين، وقضية الوحدة السورية المصرية، وقضية التحولات السياسية والاقتصادية في البلاد موقفاً نابعاً من فهمه لدرجة تطور البلاد، أو من علاقته الحقيقية بالبنى الاجتماعية السورية، ولهذا كانت الكتلة الشعبية الكبرى بعيدةً وغريبةً عن هذا اليسار، الذي لم ينبت في تربة المجتمع، وإنما جرى ارتداء ثيابه القادمة من خارج الحدود.

وحين نقول عن تيار سياسي أنه يساري، نفكّر مباشرةً بأن هناك تياراً سياسياً آخر “يميني، ” ومصطلحا ” يساري – يميني ” هما مصطلحان أتيا وتحدّرا من تجربة أول برلمان فرنسي في عهد الثورة الفرنسية(1).

فهل كان يسارنا السوري يساراً يشتق برامجه السياسية وأهدافه من بنيته المرتكزة إلى الطبقات الشعبية  “عمال وفلاحين فقراء”، أم كان يرتكز على قاعدة وعي فكري في وقت يكون منبته الطبقي يناقض وعيه. هذا ما سنحاول إضاءته عبر هذه الدراسة.

أزمة بنية وتكوين :

لا يمكن تشكيل تياراتٍ وأحزابٍ سياسية ذات رؤية ايديولوجية خارج سياق تطور البنية المجتمعية ( سياسياً واقتصادياً واجتماعياً )، فالأحزاب السياسية تتشكل كأدوات نضال وعمل سياسية لفئات اجتماعية، تعبّر هذه الأحزاب عن مصالحها الملموسة، والتي تحتاج إلى ممارسة سياسية فعّالة، سواءً عبر مفهوم نضال اقتصادي “نقابات – إضرابات من أجل تحسين شروط العمل والأجر”، أو نضال سياسي ” انتخابات برلمانية – أو ثورة شعبية “.

 وإذا درسنا تكوين المجتمع السوري منذ عام 1920 وحتى وقتنا الراهن، يمكن تقسيم هذه المرحلة التي تمتد إلى قرابة مئة عام إلى ثلاث مراحل رئيسية، هي مرحلة الاحتلال الفرنسي للبلاد، والتي يتسم فيها المجتمع السوري باعتباره مجتمعاً زراعياً متخلّفاً، كانت الطبقة العمالية فيه طبقةً ضعيفة، بسبب غياب التطور الصناعي عن البلاد، فهذه المرحلة لا تحتمل تشكيل أحزاب سياسية يسارية سواءً كانت ماركسية أو غير ماركسية، لسبب عدم تبلور وعي اجتماعي بمصالح الفئات المحددة والناتجة عن التطور الاجتماعي والاقتصادي العام.

 وكان اليسار السوري في هذه المرحلة حديث التكوين، ضعيف البنى، وغريباً عن الطبقات الاجتماعية، التي يدعي تمثيلها، والتي كانت في طور النشوء الأولي، فهذا التفارق بين وجود أداة سياسية يسبق وجود فئات اجتماعية تعبّر عنها، هذه الأداة خلقت أزمة حقيقية، فالخطاب السياسي الذي يحمله اليسار السوري آنذاك، كان خطاباً يمثّل بنية فكرية موجودة في الدراسات المترجمة، ولا يمثل بنى اجتماعية حقيقية، تمّت دراسة بنيتها وتطورها وحقوقها .

“إنّ الأزمة التي نتكلم عنها، لا تأتي بسبب الأخطاء السياسية، أو التنظيمية الآنية لليسار، بل لديها جذورها في الإرث السياسي والايديولوجي والتنظيمي لهذا اليسار، أي إرث الاستراتيجيات والأفكار والقرارات الماضية، الذي يعود مجدداً، ليفرض نفسه في نمطٍ من العلاقات السياسية والعمل السياسي لهذا اليسار في الواقع الحاضر”(2).

ويمكننا القول أن اليسار التقليدي “الستاليني والقومي”، لا يزال في رؤاه النظرية السياسية، يعتمد على مقولات لم يستنبطها بنفسه من السياق التطوري للمجتمع ، وإنما كان يأتي بها من الرؤية النظرية السياسية للمركز الاشتراكي العالمي آنذاك “السوفييت”.

وهذا يكشف عن عدم وجود مقدرة نظرية لدى هذا اليسار، يستطيع من خلالها تبيان درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي اشتقاق الأهداف السياسية المرحلية والاستراتيجية، وفق علاقة جدلية، تستند إلى التحليل الملموس للواقع الاجتماعي السوري.

 ويمكن الاعتقاد أن التبعية السياسية والايديولوجية لهذا التيار إلى المركز اليساري الدولي آنذاك “السوفييت”، جعل العلاقة بين الطرفين علاقة بين جزءٍ وكلٍ، أي علاقة تبعية فكرية وسياسية.

 من هنا يأتي تبني اليسار السوري لمفاهيم الستالينية حول الصراعات السياسية، والتحولات الاجتماعية، ولذلك ثمة اغتراب بين الخطاب النظري المحمول لدى اليسار السوري، وبين حركة واقع لا تقبل تفسير وشرح هذا المحمول الغريب، فالمحمول الفكري الستاليني، كان يعمّم مفهوم الأحلاف وصراعها على كل أجزاء التبعية السياسية له في بلدانها، بغضّ النظر عن طبيعة صيرورة التطور واتجاهاتها في هذه البلدان.

 هذا يعني أن اليسار السوري لم ينبثق من بنية انحدرت من درجة تطور فعلية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وإنما انحدر من بنية معرفية، حملتها فئات من الطبقة الوسطى، والتي لا تنتمي اجتماعياً إلى مطالب ومصالح الفئات الشعبية المهمشة، التي ينبغي أن يمثلها اليسار السوري في بلاده.

 إذاً نحن أمام أزمة بنيوية، تفضح التفارق بين خطاب نظري مستورد، وبنية اجتماعية لا تقدر على حمل خطاب يمثّل الفئات المهمشة  في البلاد. لهذا نجد أن اليسار السوري(الستاليني والقومي)، “اعتمد موقفاً مبهماً بشكل أساسي على قراءة إمكانية التغيير في موازين القوى، من خلال الكتل البرجوازية القائمة، من دون أي قراءة للتحولات الطبقية والتاريخية في النسيج الاجتماعي للدول، التي يتكلمون عنها، فيتمّ تصوير الصراع على أنه صراع أحلاف”(3).

قضايا في الميزان :

واجهت اليسار السوري منذ نشأته الأولى حالة اغتراب بنيوي عن مجتمعه “الما قبل رأسمالي”، في وقت حمل فيه هذا اليسار ايديولوجيا، تخصّ فئات اجتماعية يولّدها التطور الاقتصادي الرأسمالي، فهو في هذه الحالة، يحمل فكراً سياسياً يتحدث عن طبقات اجتماعية، لم تولد بعد بصورتها التي تناقشها أفكار الاشتراكية، فكيف نتحدث عن اشتراكية يمكن الانتقال إليها من مجتمع ما قبل رأسمالي؟، في وقت تحتاج الاشتراكية لكي تتحقق درجة متقدمة من التطور الرأسمالي، والتبلور الاجتماعي، وبالتالي من الصراع السياسي بين القوتين.

 اليسار السوري ارتدى قميص الآخرين الفكري، ولم ينتبه أو يهتم للبنى الاجتماعية ودرجة تطورها في بلاده.

كانت أولى القضايا التي وجد اليسار السوري نفسه مغترباً عنها هي قضية “فلسطين”، فهذا اليسار لم يكلّف نفسه دراسة الصراع الدولي آنذاك، ولم يفهم لماذا تدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولم يدرك أبعاد هذه العملية في سياق الصراع الدولي.

لقد ” ذهب الشيوعيون السوريون وهم ( اليسار السوري آنذاك ) إلى قبول قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين”(4). وهذا يعني عدم إدراك طبيعة الصراع في المنطقة العربية، وطبيعة المشاريع الدولية حولها، ولهذا وبسبب نقصه المعرفي “النظري السياسي”، واغترابه السياسي عن البنى المشكّلة للمجتمعات العربية، وباعتباره جزءً من ” الأممية الثالثة”، التي كان يقودها آنذاك ” الاتحاد السوفياتي “، وجد الشيوعيون السوريون أنفسهم مرآةً لهذا الموقف السوفيتي، الذي لم يكن أصلاً يعبّر عن معرفة حقيقية لدى القيادات السوفيتية آنذاك بجوهر القضية الفلسطينية.

 الموقف الثاني هو موقف الشيوعيين من الوحدة السورية المصرية، وعدم إدراك العلاقة القائمة بين السوفييت وما يسمى “حركة التحرر الوطني العربية”، التي كان النظام الناصري في مصر يقودها.

 موقف الشيوعيين الملتبس من الوحدة عبر الشروط التي وضعوها أمام عبد الناصر، وقبولهم بفكرة الاتحاد ضمن نقاط برنامجية، تنصّ على “أن يؤخذ بعين الاعتبار في الحكم والإدارة الظروف الموضوعية في كل من سورية ومصر، وذلك عن طريق إنشاء برلمان وحكومة للإقليم السوري، وبرلمان وحكومة للإقليم المصري، إلى جانب برلمان مركزي وحكومة مركزية، تهتم بقضايا الدفاع الوطني والسياسة الخارجية وغيرها من القضايا المشتركة”(5).

 هذا الموقف جاء مخالفاً لموقف الجيش السوري والحكومة السورية التي طالبت بوحدة اندماجية، وهو ما وسم اليسار الشيوعي آنذاك ب “العدمية القومية” ومعاداة الوحدة.

ولكنّ الأخطر في الأمور كلها، كان موقف اليسار السوري من مسألة التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وتحديداً بعد قطع صيرورة التطور الاقتصادي والاجتماعي، التي كانت تجري في البلاد من عام (1954 – 1963 )، وقيام الدولة بالسيطرة على وسائل الانتاج الصناعي والزراعي، وتحوّلها إلى رب عمل تحت مفهوم “رأسمالية الدولة”، وهي مقولة سوفييتية لا تعبّر عن حقائق تطورية في الواقع.

الموقف من تحوّل الدولة إلى رب عمل، والسيطرة على وسائل الانتاج، جعل من فكرة بناء الاشتراكية والعدالة الاجتماعية فكرةً مقبولةً، تتم من خلال فئات سياسية تنحدر أساساً من صُلب البرجوازية، فكيف تبني القوى البرجوازية نظاماً معادياً لملكيتها، وتحت شعارات فضفاضة، لا واقعية لها، وهي تحت مسمى ” دولة العمال والفلاحين ” ؟، في وقت تهيمن على القرار السياسي والاقتصادي فئة برجوازية صغيرة ذات طبيعة عسكرية.

 كان الشعار” عمال وفلاحون ” ضرورة للعسكر آنذاك، من أجل تثبيت حكمهم السياسي، ثم السيطرة على الاقتصاد الوطني، والتحكم بتوزيع الدخل الوطني.

 هنا تظهر أزمة اليسار بشكلٍ صريح، وهي “انصياع الجزء الأكبر من اليسار الستاليني والقومي” لهذه الاستراتيجية، والتنقل ما بين أطيافها دون نقدها. فبدلاً من أن يدفع اليسار السوري نحو إنشاء قيادة عملية للصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كان يفعل العكس، كان يدعم كتلة برجوازية ضدّ كتلة أخرى، وهذا دليل على أنه لا يمثّل الطبقات المهمشة، ذات المصلحة الحقيقية بنضالات وطنية ضدّ سلطة “رأسمالية الدولة”، ولذلك انتقل ليصبح شريكاً لهذه البرجوازية، التي بدأ دورها الاقتصادي يتضخّم من خلال نهب قطاعات الدولة.

شركاء الحيتان :  

بعد سيطرة الجنرال حافظ الأسد على الحكم بانقلاب 16 نوفمبر 1970، ودعوته لإنشاء ما أسماه ” جبهة وطنية تقدمية” بقيادة حزب البعث، وافقت قوى اليسار السوري بعمومها على الانضمام إلى هذا التحالف. ويمكن فهم وتفهّم انضمام قوى اليسار القومية إلى هذه الجبهة، ولكن لا يمكن فهم موقف الشيوعيين منها، فهم سلّموا فعلياً لحكمٍ عسكريٍ تحت مسمى ” حزب البعث ” بقيادة مرحلة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وبناء الاشتراكية، في وقت هم يدركون نظرياً أن هذا الحكم لا يمثّل فعلياً مصالح الطبقات الشعبية.

 لقد حوّلت “الجبهة الوطنية” اليسار السوري إلى قوى اصلاحية، تبحث في تحقيق مكتسبات سياسية صغيرة، وأبعدته عن تسنم دوره التاريخي في حمل قضايا التحول الاجتماعي “نظرياً”، باعتباره ممثلاً للقوى الشعبية المهمشة. وللتغطية على دوره الوطني المتخاذل، بقي اليسار السوري يرفع شعار معاداة الامبريالية، منسجماً بذلك مع” اليسار العالمي، الذي جعل من شعار معاداة الامبريالية غطاءً سميكاً، يحول دون رؤية حال سلطة تمارس مختلف أنواع القتل والتدمير ضد الشعب السوري، الذي تحاول أن تستمر في حكمه، وليس ضد قوى الامبريالية أو قوى الاحتلال”(6).

 لذلك لا يمكن فهم انتقال اليسار الماركسي والقومي، الذي لا يزال شريكاً في المأساة السورية إلى موقع المدافع عن سلطة ديكتاتورية، تعيد انتاج الاستبداد والقهر، تحت شعارات زائفة، تتدعي فيها بأنها أنظمة ” صمود ومقاومة”، ومن خلال فكرة يروجون لها، أن النظام علماني، بل أن الأمر يتعدى إلى شراكة سياسية واقتصادية، تجمع هذا اليسار مع النظام الحاكم في البلاد.

اليسار السوري الذي يصنّف نفسه بأنه يسار ضد الإمبريالية العالمية، ويناهضها، هو لا يفهم مطلقاً، أن النظام الحاكم وكيل اقتصادي مشوه للاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري الدولي، ولهذا تذهب تحليلاته إلى المركز الرأسمالي العالمي ومعاداته ” الولايات المتحدة وأوربا “، وينسى الأذرع الصغيرة لهذا المركز والفاعلة بضراوة ضدّ مصالح الشعب السوري عموماً.

 وهناك أوهام يتمّ ترويجها من قوى تصنّف نفسها ضمن نطاق معاداة الامبريالية، ولا تريد أن ترى التدخل الدولي” الروسي والإيراني “، الذي لا يزال يقوم بدوره لمصلحة النظام، ولمنعه من السقوط، هذه القوى تطرح مقولات متخيلة، وليس وقائع ملموسة، فالوجود الأجنبي الداعم عسكرياً واقتصادياً للنظام في البلاد، منع هذا اليسار أن يرى الحقيقة كما هي، فأحال الأمور الصراعية إلى مستوى آخر، لذلك رأى ” أن السلطة السورية هي الوحيدة التي لم تسقط ،أو يسقط رئيسها، ليس هذا ناتجاً أساساً عن عامل خارجي، بل عن الامتداد الاجتماعي للسلطة السورية، التي اعتمدت منذ يوم وصول الفريق حافظ الأسد إلى السلطة في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1970، وما زالت على تحالف ثلاثي ” جهاز السلطة – التجار والصناعيون – مؤسسة الاسلام الرسمي “(7).

 هذا جزء من الحقيقة، جزء تبريري، يغفل ما لعبه اليسار السوري، وتحديداً الستاليني، من دور كابح ومضلّل لاتجاهات الصراع مع سلطة حوّلت الدولة إلى قطاع خاص بها، تمارس من خلاله عميات النهب الاقتصادي والقمع وقهر الانسان.

 ويمكن فهم طبيعة هذا الانحدار، في الموقف النظري والسياسي لقوى اليسار السوري، المنضوية تحت مظلة النظام، من خلال فهم ما ترتب أساساً على تطور بنية هذا اليسار غير الأصيل موضوعياً”، وعلى أزمته الموضوعية، وهي ظاهرة انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى ظاهرة جموده الفكري، وظاهرة القيادات التي نشأت على قاعدة التلقين وليس التفكير”(8).

أزمة هوية عميقة :

الصراعات الدامية التي شهدها ” الربيع العربي ” في ساحاته الرئيسية، وتحديداً في الساحة السورية، كشفت عن أزمة هوية عميقة لهذا اليسار، تتمثل في التناقض الرئيسي بين ايديولوجيته المدافعة عن حقوق الطبقات الشعبية، وبين دفاعه عن أنظمة تستغل وتقهر هذه الشعوب، تحت مسميات كاذبة منها “علمانيتها “، ومنها أنها أنظمة مقاومة.

 هذا التناقض، يرتكز أساساً كما أسلفنا على تناقض بنيوي عميق، بين فكر يحتاج إلى قوى حقيقية ذات مصلحة مباشرة به، وأقصد “جوهر اليسار الاجتماعي”، وبين يسار يلتحق بأنظمة تقهر شعوبها، وتدعي مقاومة الامبريالية.

 هذا التناقض يتطلب مراجعة شاملة، لا تتوقف عند حدود الممارسة السياسية، وإنما تتعداه إلى مراجعة البنية النظرية لجوهر هذا اليسار، فليس مفهوماً، أن تكون “يساراً” مع قوى دولية، وتكون ” يميناً ” ضدّ مصالح شعبك، ( ولعلّ المهمة الأولى التي تواجه اليسار في المنطقة، تتمثل في مراجعته لتجربته في سياق تحديد موقعه، ومسار فعله، إزاء التحولات الكبرى، التي ولجتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية، ومازالت تعيش خضمّها) (9).

والمشكلة الأكبر، هي في الذهنية اليسارية المبنية على أوهام ايديولوجيا، تستقي معرفتها من مصطلحات غير حقيقية وغير واقعية. فليس معقولاً أن يقف اليسار ضدّ مطالب قوى شعبية واسعة، تطالب بالحريات والديمقراطية، ولا يتقدم صفوفها، ليقودها، وهو المعني الأول بذلك، لكنه يمارس غير ذلك تماماً،” إذ أن أغلب التيار اليساري متفق على أن ما يحدث اليوم من صراعات في الوطن العربي لا علاقة له بقضية الحرية والتقدم “(10).

إذاً نحن أمام أزمة هوية عميقة، تكشف بالممارسة العملية التفارق بين البنية الحقيقية لليسار السوري، الذي ينحدر من صلب طبقات برجوازية متوسطة، ذات بنية متذبذبة، وبين دوره المعادي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، خارج حدود الاستبداد واحتكار السلطة وقهر الشعب.

الثورة بوابة تحطيم البنى القديمة :

التفكير بتعريف الثورة، سيقود إلى ضرورة معرفة أن مفهوم الثورة يمسّ عميقاً كل أنساق وبنى الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، والتي باتت بصورتها عند حدوث الثورة عائقاً حقيقياً أمام تطور المجتمع بكل بناه ومجالاته، ولهذا تأتي الثورة كتعبيرٍ رداً على مأزق سدّ طريق التطور، فهناك أزمة تضرب المجتمع وأجهزته الفكرية والسياسية والثقافية، وتعبّر عن التناقضات العميقة القابلة للانفجار في أحشاء هذا المجتمع، والذي لم تعد سلطاته السياسية والايديولوجية والاجتماعية الحاكمة قادرةً على إحداث تغيير في المسار العام. اليسار بنى رؤيته للثورة وفق أدبياته السياسية القديمة، ومفاهيمه التي لم يطورها، رغم تطور الحياة، فهو لا يزال يفهم ” البروليتاريا “، كما عرّفها مؤسس الماركسية ” كارل ماركس ” منذ مئة وأربعين عاماً، في وقت تغيّرت فيه هذه المفاهيم، وتغيّر الناس ومواقعهم من عمليات الانتاج في بلدانهم، ومن عمليات وطرق النهب التي تقرّها قوانين رسمية.

المشكلة لدى اليسار السوري، ليست نتيجةً لموقفٍ سياسيٍ خاطئٍ فحسب، بل هو نتيجة لرؤية فكرية بائسة، تعود في جذورها إلى الحقبة الستالينية، التي ترفض أساساً كلّ ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الانسان.

 ولهذا فإن الثورة السورية شكّلت بحراكها وفعلها التاريخي بوابةً لتحطيم البنى القديمة، وفتحت الباب لتشكل بنى سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة. بنى تعتمد على فهم نظري جديد، يرفض ثبات المقولات النظرية، ويعتمد على الجدل وقوانينه، ويمتلك قدرة نقد نفسه علمياً وقدرة نقد التاريخ.

إن اليسار السوري بصيغته التنظيمية والسياسية والفكرية السابقة، وضع نفسه تحت عجلات التغيير الثوري بكل أنساقه. فنمط تفكيره انتهى مع أول صرخة للحرية، ومع أول تأييد أصدره لمصلحة نظامٍ سياسي يدمر البلاد، ويقتلع ويشرّد العباد.” فالديكتاتورية جزء مكوّن لتركيبة اليسار العربي والعالمي التابع للسوفييت، وهي نتيجة مرحلةٍ سياسية تاريخية، عاشتها الحركات السياسية العربية ” (11).

ثبت بالمراجع :

  • marefa.org يسارية – مصطلح
  • المنتدى الاشتراكي org باسم الشيت 28/4/2014 يسار الأسد ويسار الملك
  • المصدر السابق
  • aljazeera.net . نص قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة
  • syrcomparty.com  الحزب الشيوعي السوري وقضية الوحدة
  • ساسة بوست sasapost.com 6 مايو أيار 2016 – سلامة كيلة اليسار وسوريا تراجيديا تسكن العالم
  • alhayat.com محمد سيد رصاص 21 مارس آذار 2018
  • raialyoum.com نبيل عودة – اليسار العربي – أزمة قيادات وأزمة فكر16 نوفمبر2013
  • أمد amad.ps/ar/details جميل هلال في توصيف اليسار في الشرق العربي
  • com عربي 21  30 سبتمبر 2015 بسام ناصر ” الدكتور توفيق شومر “
  • alraafed.com  منصور الأتاسي 26/9/2016

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني