fbpx

اللامركزية الإدارية الموسعة: ضرورة وطنية بعد دروس الساحل والسويداء والجزيرة

0 30

أثبتت الأحداثُ الأخيرةُ في الساحل والسويداء وشمال شرق البلاد (الجزيرة السورية) ــ بما لا يدع مجالاً للشك ــ أن الوقت قد حان لإعادة النظر جذرياً في بنية الحكم والإدارة في سوريا. فالأزمات المتكررة التي تشهدها هذه المناطق ليست مجرد اضطرابات محلية، بل هي انعكاس مباشر لفشل نموذجٍ مركزيٍّ متكلّسٍ عجز عن تلبية الاحتياجات المتباينة للمجتمعات المحلية، وأصرّ على فرض إرادةٍ واحدةٍ على مناطق تختلف في خصوصياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

لقد دفع هذا النموذجُ المركزيُّ بمناطق عديدة إلى الشعور بالتهميش والعزلة، مما خلق بيئاتٍ خصبةً للاحتقان والانفجار. فعندما تُدار شؤونُ الناس من مركزٍ بعيدٍ لا يدرك تعقيداتِ الواقعِ المحليّ، تكون النتيجة تآكلاً في الثقة، وضعفاً في الأداء، وتفاقماً في الأزمات. من هنا، فإن الانتقال نحو نظامٍ لامركزيٍّ موسعٍ ليس مجرد خيارٍ إداريّ، بل ضرورةٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ ملحّة، تتطلب رؤيةً جديدةً لبنية الدولة.

في ضوء ذلك، تبرز اللامركزيةُ الإداريةُ الموسعةُ كخيارٍ وطنيٍّ لا بديلَ عنه، ليس فقط لتهدئة التوترات، بل لبناء دولةٍ عادلةٍ وفاعلة. إن اعتمادَ هذا النظام يجب أن يتم ضمن إطارٍ دستوريٍّ وقانونيٍّ واضح، من خلال هيئةٍ تشريعيةٍ انتقاليةٍ تتمتع بشرعيةٍ تمثيليةٍ وتشاركيةٍ، تعكس الإرادة الشعبية، وتضع حجرَ الأساسِ لحكمٍ محليٍّ فاعلٍ وشفاف. هذه الهيئةُ لابد أن تتشكل من المكونات السورية كافة، بعيداً عن الإقصاء والمحاصصة، لتكون تعبيراً صادقاً عن التنوع السوري.

اللامركزيةُ لا تعني التقسيم أو التفريطَ بالوحدة الوطنية، بل تعني ببساطة أن يتمتع المواطنون في كل محافظةٍ أو منطقةٍ بحقوقٍ إداريةٍ وتنمويةٍ حقيقية، تُـمكِّنهم من إدارة شؤونهم ضمن مؤسساتٍ محليةٍ منتخبة، وخاضعةٍ للمساءلة الشعبية. نظامٌ كهذا يمنع فرضَ سلطاتٍ مركزيةٍ على المناطق خلافاً لإرادة سكانها، ويؤسس لتوزيعٍ عادلٍ للموارد والصلاحيات، بعيداً عن الهيمنة أو الإقصاء. وهذا يتطلب مراجعةً شاملةً للقوانين الناظمة للإدارة المحلية، وتطويرَ قدراتِ الكوادر البشرية فيها.

من الضروري أيضاً أن تقوم العلاقةُ بين السلطات في العاصمة وسلطاتِ الإدارة المحلية الموسعة على أسسٍ من التنسيق القانوني والمؤسساتي، بما يحفظ وحدةَ الدولة وسيادتَها، ويضمن في الوقت ذاته الاستجابةَ الفورية والمرنة لمتطلبات التنمية المحلية، بعقليةِ شراكةٍ لا وصاية. ويشمل ذلك آلياتٍ شفافةً لتقاسم الصلاحيات، ورقابةً متبادلةً تضمن حسن الأداء وتَحول دون استغلال النفوذ.

لقد أثبتت تجاربُ عدة دول أن اللامركزيةَ ليست ضعفاً، بل مصدرُ قوةٍ واستقرار، إذا ما تم تطبيقُها بحكمةٍ وعدالة. فاللامركزيةُ الناجحةُ تؤسس لإدارةٍ رشيدةٍ للموارد، وتُقرّب الخدماتِ من المواطن، وتُعزّز من الإحساس بالانتماء الوطني. وسوريا، الغنيةُ بتنوعها، لا يمكن أن تنهض من محنتها دون عقدٍ اجتماعيٍّ جديد يُعيد السلطةَ إلى الناس، ويُعيد الثقةَ بالدولة.

اللامركزيةُ ليست مجردَ بنيةٍ إدارية، بل هي فلسفةُ حكمٍ تقوم على احترام الإنسان وتمكينه من المساهمة الفعلية في تقرير مصيره. إن المواطنَ الذي يشعر أن صوتَه مسموع، وأن مشاركتَه تصنع الفارق، سيكون أكثرَ التزاماً بوطنه واستقراره. ولذلك فإن تأخيرَ إقرارِ هذا النظام هو إطالةٌ لعمر الأزمات، وإعادةُ إنتاجٍ للفشل.


إن اللحظةَ الراهنة، بما تحمله من تحدياتٍ وفرص، تستوجب شجاعةً سياسيةً ووعياً وطنياً، لتبنّي هذا الخيارِ التاريخيِّ الذي طال انتظاره. إن تبنّينا للامركزيةِ اليوم هو رهانٌ على المستقبل، على سوريا أكثرَ عدلاً، أكثرَ توازناً، وأكثرَ استعداداً لمواجهة استحقاقات ما بعد الحرب.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني