الوعي السياسي النخبوي، بين إشكالية “النقد الموضعي”، وضرورات “النقد الموضوعي”!
في ظل ظروف الحريّات السياسية وغياب المسؤولية القانونية والعواقب الأمنية، وما تجده لغة النقد “الموضعي” من تجاوب مع مزاج شعبي ونخبوي عام، يستسهل بعضهم توجيه سهام النقد لهذه الإدارة السورية الجديدة، برموزها السياسية وأداتها العسكرية، سواء من خلال تناول التاريخ والأيديولوجيا، أو إحصاء الانتهاكات الميدانية في ممارسات ميليشاوية غير منضبطة، ولا تخضع لأي سلطة، متجاهلاً أهميّة وضرورة قراءة الأحداث المتسارعة على جميع الصعد العسكرية والسياسية بأدوات ومنظور التحليل السياسي الموضوعي الذي يحاول رؤية التفاصيل في ضوء عوامل سياق الصراع السياسي على سوريا، ويبتغي صناعة وعي سياسي استراتيجي يساعد جميع المتطلعين إلى لعب دور سياسي وطني على فهم طبيعة الأحداث وسياقاتها وتحديد أدوات النضال الأكثر فاعلية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية المرجوّة.
أتحدّث اليوم عن نقاط مهمّة، يتجاهلها الوعي السياسي النخبوي “النقدي”، لدوافع وأسباب مختلفة، تتقاطع حول الرغبة والمصلحة في رؤية “حكومة الإنقاذ”، ورموزها وأدواتها تذهب إلى طريق مسدود، يعتقدون انّه الخَيار الأفضل لتحقيق تطلّعاتهم السياسية والشخصية.
1- ليس من الموضوعية والدقّة العلمية تقييم سلوك ووعي وتطلّعات قيادة الإدارة الجديدة التي يرأسها السيد أحمد الشرع من منظور رؤية سابقة لجبهة “النصرة”، ودور الإسلام السياسي الجهادي الذي تنقّل السيد أحمد الشرع بذكاء ومهارة بين ضفافه!.
2- من غير الموضوعية أيضاً في ضوء الشروط السياسية النوعية الجديدة تقييم الأداء السياسي “لرئيس الإدارة الجديدة” ونهجه من منظور “هيئة تحرير الشام” وسلوك بعض فصائلها “غير المنضبط” (وهو توصيف “دبلوماسي” لا ينطبق على العديد من حالات انتهاك خصوصية وحقوق سوريين، رافقت أو نتجت عن عمليات مداهمة خارج سلطة القانون، وتتناقض مع تعليمات القيادة السياسية)، وفي هذا تجاهل للفارق النوعي لدور “حكومة الإنقاذ”، التي باتت “حكومة تصريف الأعمال” المؤقّتة للجمهورية العربية السورية، ولأداء “هيئة تحرير الشام”، الذي لم يعد كما كان في مرحلة حكم إدلب، وفي المواجهات العسكرية التي كانت تخوضها على أكثر من جبهة!.
بمعنى، إذا كنا نتفق أنّ ما يحصل على الأرض من انتهاكات يخالف مجمل تصريحات السيد وزير الخارجية السوري في منتدى دافوس ومع “النهج السياسي” المُعلن للسيد أحمد الشرع، رئيس الإدارة الجديدة، كما صاغ أهدافه وأدواته ومسوّغاته في تصريحات ومقابلات لوسائل إعلام متنوّعة، فليس من الدقة والموضوعية الاستنتاج بأنّ التناقض بين المُعلن في تصريحات “الإدارة السياسية” الذي يتوافق مع سياسات نهج سوري وطني، وما يتكشّف من انتهاكات مميتة في ممارسة أو سلوك قوى ميليشاوية، تابعة مباشرة للهيئة، يدلل على وجود ازدواجية في نهج وسلوك قيادة الإدارة، ويكشف عن عدم مصداقية المسار السياسي الذي يقوده السيد أحمد الشرع ووزير خارجيته، ويدلل على حتمية الفشل، ويوجّب الحاجة لطلب “استدعاء” قوّات حفظ الأمن” من الخارج، أو “الحماية الدولية”.
إذا غضضنا النظر عن حقيقة عدم واقعية إمكانية تدخّل قوات خارجية في المشهد السياسي أو العسكري السوري الجديد تحت أيّة يافطة أو عنوان، لأسباب عديدة، أرى أنّ ما يبدو ازدواجية، ويعبّر عن عدم مصداقية القيادة السياسية، ليس سوى بعض تمظهرات الصراع بين الخط السياسي الذي يقوده السيد الشرع من منظور بناء مؤسسات دولة، تملك عوامل الديمومة والاستقرار، وبين ممارسات القوى “غير المنضبطة”، (سواء على مستوى الفصائل والأفراد “المتشددة”، المشاركة في هيئة تحرير الشام أو التي تقف على يمينها من القوى الجهادية، أو على مستوى تحالف قوى النظام السابق – التقسيمية والطائفية) التي تتناقض مصالحها ورؤيتها مع نهج وإمكانيات نجاح مسار البناء السياسي، وأرى أن عدم رؤية واقع هذا الفارق النوعي، (الذي يؤكّد موضوعيته مصلحة السيد الشرع وفريقه السياسي والعسكري، ومصالح غالبية السوريين في نجاح إجراءات وخطوات مشروعه السياسي الوطني)، وتحميل السيد الشرع ونهجه السياسي فقط مسؤولية تصرّفات “خصومه”، واعتبارها دليلاً على عدم مصداقيته، يصب في نهاية هذا التحليل في تيّار القوى التي تجيّر نتائج السلوك غير المنضبط من أجل العزف على مزاج الشارع الشعبي، وقواه الطائفية والتقسيمية!.
3- نقطة أخرى ترتبط بعدم موضوعية تلك الرؤية التي تتجاهل حقيقة دوافع الضغوط التي يمكن أن تمارسها الحكومات الخارجية، العربية أو الأوروبية والأمريكية، والتي لا ترتبط، على أيّة حال، بدرجة مصداقية القيادة الراهنة تجاه قضايا مصالح السوريين المشتركة، بقدر ما ترتبط بسعيها لضمان مصالحها الخاصة، المتناقضة أساساً مع مصالح السوريين الوطنية في بناء مقوّمات مشروع وطني سوري.
ثمّة أحداث وسلوكيات عديدة تبيّن واقعية التفريق بين ممارسات حكومية، وأخرى خارجة عن سيطرتها:
ما حصل في حمص، كما نقلت صفحة إدارة العمليات، حول “وصول محافظ حمص عبد الرحمن الأعمى للقاء أهالي قرية مريمين والقرى الأخرى، بعد الأحداث التي شهدتها قرى ريف حمص خلال الأيام الماضية “وما تمّ ذكره حول تعهّد المحافظ” بالمتابعة والوصول لمرتكبي الجرائم ومحاسبة الجناة، وحفظ الكرامات والحقوق، وأنّه سيتم تشكيل لجنة من وجهاء القرى للمتابعة، والتأكد من محاسبة الجناة”.
ما حصل في “طرطوس” والساحل بالأمس، يؤكّد أيضاً موضوعية التمييز بين منطق ونهج “الدولة” الذي يقوده السيد أحمد الشرع عبر حكومة الإنقاذ، ووزير الداخلية، ونهج ومنطق “الميليشيات” الذي ما زال يسيطر على قيادات بعض الفصائل وعقول الأفراد:
يقول الخبر على الموقع الرسمي “غرفة – عمليات – ردع – العدوان” الرسمي:
في “بيان صادر عن القيادة العامة في إدارة العمليات العسكرية”:
– “انتهاء مهام المقاتلين والفصائل في منطقة الساحل، وسيتم تسليم دفعات من وزارة الداخلية الأمن في الساحل ابتداء من اليوم”.
يقول الخبر الثاني:
– “مداهمة من قوى الأمن العام لقرية الجوبة في ريف طرطوس، بسبب كثرة إطلاق النار والقنابل، احتفالاً بإشاعة وصول ماهر الأسد إلى الساحل”.
مما لا شك فيه أنّ أسلوب “تصيّد الأحداث للوصول إلى استنتاجات خاصة” لا يساهم في صناعة وعي سياسي موضوعي، يصبح حاجة ماسة في ظروف المعارك السياسية الوطنية الكبرى!.