fbpx

مسيحيو سوريا.. بين الهوية الوطنية والهوية الكنسية ج2

0 352

موقف المكون المسيحي من نظام حافظ الاسد:

استطاع
حافظ الأسد القفز إلى السلطة في تشرين الثاني عام 1970 م. وقدّم نفسه على أنه
معارض للتشدد السياسي، الذي كان ينتهجه رفاقه الذين انقلب عليهم. وكان يُدرك أن
الخطر الحقيقي على استمراره في الحكم، لن يأتي سوى من المؤسسة العسكرية (الجيش)
ولهذا عمل على تعطيل قوة وفعالية هذه المؤسسة من خلال تعطيل أجهزتها القياديّة،
وربط كل الفرق العسكرية التابعة لهذه المؤسسة بشخصه.
وكان حافظ الأسد يحتاج في ذلك إلى توسيع وتعميق دور أجهزة الأمن المختلفة (الأمن
العسكري – الأمن الجوي – أمن الدولة…) في حياة المؤسسة العسكرية وحياة المجتمع.
إذاً كان حافظ الأسد يسعى إلى بناء دولة أمنية، ستكون على حساب الهوية الوطنية،
بحيث يتم التحكم بحركة المجتمع السياسية من خلال أجهزة الأمن. وهذه الحالة عملت
على تعطيل الاندماج الاجتماعي بين المكونات السورية، ما دفعها إلى العودة إلى
الوراء إلى انتماءاتها الدينية والطائفية والقبلية العشائرية. ولفهم هذه الحالة،
ينبغي تشخيص طبيعة السلطة، التي نهض بها نظام حافظ الأسد. فهذه السلطة لا يمكن
رؤيتها على أساس كونها سلطة عسكرية مجردة. بل هي تعبير عن درجةٍ محددةٍ من التطوّر
الاجتماعي من البلاد “فالاحتلال الفرنسي لسوريا كان لديه رؤية استشرافية
للبنية الاجتماعية السورية، إذ تعامل مع الشعب وفقاً للمكونات الدينية والطائفية
والمذهبية، ولعب كذلك على موضوع المدن الإقليمية من سوريا الحالية. أي انتهج سياسة
تفتيت الهوية الوطنية”(16). هذه الحالة سمحت ببقاء الطبقة البرجوازية السورية
في حالة ضعف على صعدها الاقتصادية والسياسية، ما جعلها غير مؤهلة وغير قادرة على حمل
مشروع التنمية الوطنية الشاملة. وهو أمرٌ فتح الباب لجنرالات الجيش السوري للقفز
إلى السلطة. وهو ما أدى لاحقاً إلى عدم تطوير الروابط الوطنية بين المكونات
السورية. وبهذا ساهمت هذه السياسة بإيجاد قاعدة لقيام نظام حافظ الأسد، الذي أصرّ
على تغليب مصلحة بقائه في الحكم، على حساب تمتين الروابط الوطنية. وهو أمرٌ ارتد
بالبنى والمكونات الاجتماعية السورية إلى حالتها ما قبل الوطنية، مثل الطائفية،
والدينية، والقبلية العشائرية.
إذاً لم يكن نظام حافظ الأسد نظام مشروع تنموي وطني حقيقي، ولذلك عمل على ربط
المكونات السورية بعجلة دولته الأمنية، وهذا استدعى تغييب كل نشاط سياسي، أو نشاط
لمجتمع مدني، وحتى النشاطات الاقتصادية خارج عجلة سيطرته الشاملة على الحكم. ولم
يكن المكوّن المسيحي خارج هذه المعادلة. لذلك ظهر أن “انتصار حافظ الأسد عام
1982 على الإخوان المسلمين سيستغله لتحقيق انتصار أكبر على المجتمع السوري ككل،
عبر القضاء على كل التنظيمات السياسية العلمانية اليسارية، وعلى الحركة النقابية
والطلابية، أي القضاء على السياسة بوصفها مغالبة تعكس مصالح الناس واختلافاتهم
ومطامحهم” (17).

هذه
الحالة أدخلت المجتمع السوري في حالة فراغ تطوري طبيعي، ولم يكن المكوّن المسيحي
خارج هذه الحالة، إذ وجد هذا المكوّن نفسه يخسر استقلاليته الدينية، التي كان
يمتلكها قبل ذلك. ووفق هذا الترتيب، ستغدو جميع الكنائس المسيحية في البلاد تحت
رقابة أجهزة السلطة الأمنية.

وبخسارة
المكوّن المسيحي لهامش حرياته الدينية تكون العلاقة بينه وبين الكنسية التي تمثله
قد تبدلت. إذ سيلعب رجال الدين دور الوسيط بين مجتمعاتهم المحلية وبين السلطة،
التي ستلعب دوراً في هذه الحالة. هذا الدور الممنوح لرجال الدين المسيحي، أو غير
المسيحي، سيمنحهم قدرات على لعب دور الوساطة، بما يظهرها كامتياز لهم.

إذاً
نستطيع القول، إن نظام حافظ الأسد استطاع امتصاص كل فعالية بالمكون المسيحي خارج
جدران الكنائس. وتحديداً فعاليات السياسة، وتداول الأمور بالشأن العام.

ولكن
ينبغي الإشارة إلى أنه “لم يعد سراً أن الكنيسة تم اختراقها من قبل عناصر
المخابرات. تماماً كأي مؤسسة أخرى. فكان يتم تشجيع الكهنة، شأنهم في ذلك شأن أئمة
المساجد على كتابة تقارير عن رعاياهم، ومجتمعاتهم، ويتم مكافأتهم على ذلك. وتم
إصدار الأوامر إليهم بتسليم خطبٍ محددةٍ مطبوعة مسبقاً، أثناء إقامة شعائرهم في
أيام الآحاد، وفي الأعياد الدينية” (18).

إن
سياسة حافظ الأسد التي تقوم على بقاء التنازعات، اتجهت إلى تمكين أبناء الريف
السوري في حكم المدن السورية. وتهميش الفئات المدينية. وهذا ما فعله أيضاً مع
المكوّن المسيحي، إذ كان يختار في وزاراته وزيراً مسيحياً واحداً، وسيكون هذا
الوزير في الأغلب من حوران أو من اللاذقية. لكن الأخطر على حافظ الأسد، كان يتعلّق
بحاجة المجتمع السوري لهوية وطنية واحدة. فهذه الهوية تضيّق وتلغي الهوّة بين
النمو المجتمعي الطبيعي والقطع مع الانتماءات ما قبل الوطنية. وهذا سيشكل قاعدة
اجتماعية، تقوم على مصلحة وطنية محددة، لا ترتبط بمكون محدد، بل بكل المكونات. إذ
تنتقل تبعية أفراد هذه المكونات من صيغتها الطائفية والإثنية إلى صيغة المواطنة
الحقيقية. وهذا ما كان يريده المسيحيون السوريون. إذ إن “نشوء الهوية السورية
والوطنية السورية كان رد فعل من قبل المسيحيين العرب تحت وطأة حاجتهم إلى هوية
جديدة، تعيد تعريف موقعهم ضمن مجتمع بأغلبية مسلمة عقب الحرب الأهلية عام 1860
م” (19).

إن
سياسة حافظ الأسد التي قامت على منع السياسة عن المجتمع بكل مكوناته، واحتكارها
عبر سلطته، التي حوّلت الدولة والمجتمع السوريين إلى ملحقات بالسلطة. وهو ما دفع
بالبنى الاجتماعية السورية إلى محاولة استعادة الدولة، وأن تكون البنى المجتمعية
الثقافية والاقتصادية والسياسية فاعلة لمصلحة المجتمع. ولذلك عمد حافظ الأسد إلى
تأطير البنى الاجتماعية ضمن حيّز انتمائها ما قبل الوطني، وهو الطائفي، والديني،
والقبلي. وهذا ما أزعج المكوّن المسيحي بصورةٍ عامة، ونخبه الثقافية والفكرية
والعلمية بصورة خاصة. فمسيحيو سوريا لم ينظروا إلى أنفسهم في أي مرة على أنهم
طارئون في المجتمع، فهم ينتمون إلى الجذر التاريخي لسوريا، وشركاء في صناعة وإبداع
تاريخها وثقافتها. ومن هنا يمكن القول “ليست المسيحية العربية شأناً عقدياً
أو طائفياً تعني المسيحي دون المسلم، بل هي قدر تاريخي وثروة روحية لمن انتمى إلى
الفضاء الحضاري العربي” (20).

ولذلك
فإن ما فعله حافظ الأسد يندرج تماماً في إعاقة التطوّر الطبيعي بمكونات المجتمع
السوري، التي كانت ذاهبة إلى الاندماج الوطني، أي إلى اعتبار المواطنة بكل حقوقها
وواجباتها عتبة ومناخاً للوطنية السورية. من هنا نفهم أن ترسيخ الطوائف ورموزها
الدينية لم يكن مجرد ظواهر دينية مضمونها الاختلاف المعتقدي بين أبناء الوطن
الواحد. وإنما تحوّلت الطائفية إلى أن تكون عجزاً بنيوياً معيقاً لتطور المجتمع
باتجاه وطنيته الناجزة. هذا العجز البنيوي سمح للفئات التي تقود العمل الكهنوتي،
أن يكون لها مصالح في تثبيت الحالة، وتحويل مجريات الصراع مع الاستبداد من سكته
التاريخية إلى سكة ليست سكّته. ولذلك تبدو الرموز الكهنوتية أذرع لدى النظام لمنع
الاندماج الوطني.

ولكن
غاب عن ذهن حافظ الأسد، أن المسيحيين السوريين والعرب، لعبوا دوراً في نهضة البلاد
نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فمن لا يتذكر فارس الخوري(21)، ودوره
في مقاومة الاحتلال العثماني ومقاومة الفرنسيين. فلقد لعبت هذه الشخصية دوراً
متميزاً في مرحلة بناء الدولة السورية، بعد انتهاء حكم الدولة العثمانية من بلاد
الشام وسوريا. ودوره اللاحق في بناء سوريا بعد رحيل الاحتلال الفرنسي عن البلاد.
وبرزت شخصيات مسيحية سورية أخرى، كان لها دور ثقافي وتعليمي كبير في البلاد. ولعلّ
الشخصيات المهمة في هذا الباب شخصية المطران (ملاتيوس صويتي)، الذي “أسّس مع شقيقه
الأستاذ فارس صويتي مجلة (الإيمان) في دمشق عام 1954. وكان من مؤسسي جمعية خريجي
المدارس الأرثوذكسية الدمشقية في 7/9/1929 م. وأسس نادي الفنون الجميلة في أنطاكية
عام 1930” (22).
وفق تلك المجريات والوقائع والتطورات لا يستطيع أحد أن يتغاضى أو يغمض العين عن
دور المكون المسيحي السوري وعبر تاريخ البلاد عن أنهم شركاء حقيقيون في الارتباط
بتراب هذه المنطقة منذ القدم. ولذلك تبدو عملية ترسيخ الطائفية، التي انتهجها حافظ
الأسد، وكأنها تريد أن تلغي هذه التاريخية وفعلها في البناء المجتمع السوري.
“لقد عمل المسيحيون في الشرق مع شركائهم من الديانات الأخرى على بناء الحضارة
العربية الإسلامية، وحافظوا على تراثها، وأغنوا اللغة، وتقاسموا مع المسلمين
القضايا الوطنية الكبرى. بقي المكوّن المسيحي على الرغم من نزف الهجرة المتفاقمة
في العقود الأخيرة جزء لا يتجزأ من ماضي المنطقة وحاضرها” (23).

مرحلة بشار الأسد والثورة السورية:

لم
يكن وصول بشار الأسد إلى قمة هرم السلطة في سوريا حدث طبيعي. فهذا الوصول أتى على
قاعدة ليّ الأنظمة والقوانين في البلاد، وعلى قاعدة والده حافظ الأسد، الذي بنى
دولة ديكتاتورية أمنية بامتياز. فليس من الطبيعي أن يصل بشار الأسد إلى منصب
القائد العام للجيش والقوات المسلحة بعد انضمامه إلى سلك الجيش مدة ستة أعوام. وهو
أمر قطع الطريق على منافسين محتملين، عبر تعديل المادة المتعلقة بسن رئيس
الجمهورية، وهي المادة 83 من الدستور السوري، التي تنص على أن سن رئيس الجمهورية،
ينبغي أن تكون 40 سنة وما فوق. فأصبحت هذه المادة، تنص على أن الحد الأدنى لسن
المرشح لرئاسة الجمهورية هو 34 عاماً.

ويمكن
الرجوع إلى الوراء قليلاً، والقول إن نظام البعث استخدم المكون المسيحي لمصلحته من
أجل فرض سيادته، قاصداً تضليل المجتمع الغربي، بأنه نظام يحمي “الأقلية
المسيحية” وباقي الأقليات في البلاد.
إن طرح مفهوم “الأقلية المسيحية” يعني سلخ هذا المكوّن الاجتماعي
الطبيعي عن نسيجه الوطني، الذي عاش فيه عبر التاريخ. وهو تكريس لحالة عداءٍ مضمرةٍ
بين مفهوم (أقلية واكثرية) بدلاً من تكريس (الجميع سواسية أمام قانون واحد في
البلاد). وينبغي تذكر أن المسيحين السوريين، كانوا يشكلون نسبة 15% من الشعب
السوري عشية انطلاق الثورة عام 2011.

في
وقت يحاول النظام، الذي دمّر أواصر العلاقات، وحياة الاستقرار في البلاد، أن يعطي
أرقاماً غير صحيحة عن نسبة المسيحيين الحالية في ظل الصراع العسكري والسياسي
المحتدم بينه وبين مكونات الشعب السوري المختلفة. هذه النسبة تقل الآن عن 5% من
عدد السكان. فهجرة المسيحيين السوريين ازدادت بشكل كبير، وهو ما ينفي ادعاءه بأنه
يحمي المسيحيين السوريين.

إن
تدخل النظام الأسدي في الشأن المسيحي ظهر عبر تدخله في تعيين الأساقفة ورجال الدين
من بقية الديانات (المسيحية والإسلامية). فهذه التعيينات تتم بموجب موافقة من
سلطات الأمن والمخابرات السورية. وبهذا تحول الأساقفة ورجال الكهنوت المسيحي إلى
مجرد موظفين إداريين. وهذا انعكس على الحياة الدينية الروحية وانعكس على الاهتمام
بقضايا الناس من قبل رجال الدين. وحين انفجرت الثورة السورية عام 2011، شارك رهط
كبير من الشباب المسيحيين في المظاهرات السلمية. لكنهم لم يتلقوا أيّ دعمٍ من رجال
الدين المسيحي. فالنظام كان لا يحتمل وجود أي صوت يدعو إلى الحوار، وتغليب مصلحة
الوطن والمواطنة، وخير دليل على ذلك ما جرى للأب باولو داليوليو اليسوعي (24) وهو
الكاهن الإيطالي الأصل الذي أسس دير مار موسى الحبشي في سوريا. وقد اُختطف الأب
باولو في 29تموز/يوليو 2013 في مدينة الرقة.

لقد
كان موقف المسيحيين السوريين متبايناً من الثورة السورية، ولعلّ اندفاع مجموعات من
الشباب المسيحي إلى المشاركة في المظاهرات السلمية خلال المرحلة الأولى من الثورة
كانت غايته التحرر من الاستبداد والدكتاتورية، والدفع بعربة مكونات المجتمع السوري
إلى اتخاذ طريق واحدة، هي طريق بناء الدولة السورية الحديثة، التي تقوم على أسس
ديمقراطية، يكون الجميع فيها مواطنين على قدر واحد من المساواة أمام القانون
الواحد. ويمكن القول ” أن ثمّة قطاعاً من المسيحيين من ضمنهم جُلُّ قيادات
الكنائس السورية يدعمون نظام الأسد بسبب تشابك مصالحهم السياسية والاقتصادية مع
رموزه، كما يدعمه آخرون باعتباره الضمانة لأمن المسيحيين في سوريا” (25).

ولعلّ
هذه الحالة تتضح بصورة جليّة عند الطائفة الأرمنية. فالأرمن الذين تعرضوا لمذابح
في مطلع القرن العشرين لم تغب عن ذاكرتهم الجمعية تلك المذابح، التي يقولون إن
النظام العثماني قام بها ضدهم. وهذا ما دفعهم إلى الوقوف ضد الثورة السورية نتيجةً
لطابعها الإسلامي المسلّح، ونتيجة دعم الأتراك لها.

إن
موقف الشباب المسيحي من الثورة السورية بعد عسكرتها، وبعد صعود التيارات الإسلامية
للهيمنة عليها، جعل موقفهم في حالة تراجع حقيقية عن مناصرة هذه العسكرة والأسلمة.
ولم يكن لدى هؤلاء الشباب أو من يتفق معهم من باقي المكونات السورية أية إمكانية
للمحافظة على الثورة ووطنيتها الحقيقية. ولكنهم لم يتخلّوا فعلياً عن دعم الثورة
باعتبارها تريد بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية. ولهذا ذهبوا إلى التعبير عن
موقفهم المؤيد للتغيير في البلاد عبر قيامهم بأدوار تتعلق بالمساعدات الإنسانية
والدور الإعلامي.

لقد
كان مثل هذا النشاط واضحاً في حيّ دمشقي ” ففي حي باب توما المسيحي في
العاصمة السورية، نشطت مجموعة من الشباب والشابات المسيحيين في توزيع البيانات
والملصقات، لحشد الدعم لمطالب الثورة، ولمواجهة الخطاب الإعلامي الرسمي، الذي سعى
إلى الخوف في نفوس المسيحيين. فقد رفض هؤلاء الشباب خطاب القيادات الكنسية المؤيد
للنظام” (26).

إن
نظام بشار الأسد كان يسعى لتقديم نفسه للغرب على أنه حامي الأقليات الدينية
والعرقية في سوريا. لذلك عمل على التقرب من هذا المكون السوري، لاستخدامه لاحقاً
كورقةٍ رابحة أمام الغرب، ولإظهار نفس على أنه يحارب التطرّف والإرهاب ولا سيما
الديني منه.

لكن
الحقيقة يجب أن تقال في هذا الاتجاه، فأسلمة الثورة ودفعها إلى انتهاج حرب مسلحة
مع النظام الأسدي، أوقف مؤقتاّ مساحة التشارك المسيحي/الإسلامي. فالمسيحيون كمكوّن
سوري كانوا في غالبيتهم يريدون بناء قاعدة توافق وطني لجميع السوريين. هذه القاعدة
لن تأتي، ولن تتشكل في ظل مربعات طائفية دينية أو قومية. ولعلّ هذه الرؤية تعكس
حقيقة درجة التطوّر الفكري المرتكز على تطوّر مادي تاريخي، أي تطوّر مادي في بنية
وتكوين الفئات الاجتماعية، التي تشكل دافعةً حقيقية باندماج الحياة عن طريق إتاحة
سبل التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وفق هذا التطوّر الذي كان موجوداً
لفترةٍ قصيرة في مرحلة الخمسينات من القرن العشرين في سوريا، حيث كانت البلاد
تنتهج نظاماً ديمقراطياً ذا طبيعة ليبرالية، لا يزال هو الأنموذج الأقرب إلى
الذاكرة الجمعية المسيحية خصوصاً، وسوريا عموماً. ولهذا يمكن فهم الإحجام المسيحي
العام عن دعم طرفي الصراع المسلح في سوريا ( النظام+المعارضة المسلحة). “إن
مخاوف مسيحيي سوريا أخذت منحيين، الأول خوف من الدكتاتورية اللادينية، والثاني هو
خوف من التطرف المتمثل بجماعات دينية متشددة. وأن الدكتاتورية والتطرف وجهان لعملة
واحد بالنسبة للسوريين على اختلاف طوائفهم، وأن مخاوف المسيحيين من الجماعات
الإسلامية المتطرفة مبررة، كون المخاوف نفسها موجودة لدى المسلمين المعتدلين، ولدى
جميع أطياف السوريين”(27).

أما
المكون المسيحي الآشوري الذي يتوطّن في منطقة شمال شرق سوريا (الجزيرة أو محافظة الحسكة)
فقد وجد نفسه أمام قوتين مسلحتين هو الطرف الأضعف أمامهما، لذلك انقسم الموقف
الآشوري إلى قسمين أحدهما كان أقرب في الموقف من نظام الأسد، والثاني أقرب إلى
الإدارة الذاتية الكردية. لكن فكرة الرحيل عن البلاد كانت فكرة مطروحة لدى فئات
واسعة من مسيحيي سوريا. هذه الفكرة نشأت على أرضية طبيعة الصراع الجاري في البلاد،
والذي حاول النظام أن يصوّره وكأنه حرب على الإرهاب، في وقتٍ وجد فيه المسيحيون أن
هذا الصراع هو صراع سياسي طائفي بامتياز.

إن
هذه الحالة من التصوّر الفكري والسياسي لدى المكون المسيحي، عززها غياب دور فكري
وسياسي فاعل وإيجابي من قبل المعارضة. فلو كانت المعارضة على ارتباط جذري ببرنامج
وطني ديمقراطي، كانت اتاحت مساحات تشغلها بقية المكونات الدينية والطائفية
والإثنية السورية. وكانت تعمل على تنفيذ هذا البرنامج الوطني الديمقراطي، الذي أخذ
أشكال أخرى. فهذه الرؤية تعمل على تفكيك بنى المؤسسات الدينية لكل الفئات، لأنها
مؤسسات توافقت مصالحها مع مصالح النظام السياسي في البلاد. وفي نفس الوقت كانت
تتيح وفق آليات العمل الجديدة أن يختار كل مكون أو طائفة قيادته الدينية بطريقة
ديمقراطية تخدم اندماجه الوطني، وتكون قيادة روحية وليست سياسية أو اقتصادية.

لهذا
فإن تغييب النظام البعثي بكل مراحله للحياة السياسية العامة في سوريا، أضعف فعلياً
الحركات السياسية ذات الطابع الوطني والعلماني وفتح الباب للقوى والتمثيلات
السياسية ما قبل الوطنية مثل” الطائفية، والقبلية، والدينية…”. ويمكن
القول “إن إضعاف الحركات العلمانية، والتخلي عن التجارب الديمقراطية، وفشل
محاولات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وزيادة الحركات التكفيرية المتطرفة، هي
عوامل أخافت المسيحيين في سوريا كما مجمل المواطنين” (28).

ورغم
ذلك لن يبقى المكوّن المسيحي على الصعيد السياسي بعيداً عن مجريات الصراع الجاري
في البلاد منذ عام 2011م. “فقد انخرط بعض المسيحيين في صفوف الانتفاضة، ومنهم
مفكرون مسيحيون مثل ميشال كيلو وفايز سارة الذين انضموا إلى صفوف المعارضة”
(29).

دوافع هجرة المسيحيين إلى خارج سوريا:

تُعتبر
مرحلة استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي مرحلة استقرار وازدهار للبلاد، وقد شمل
هذا الازدهار والاستقرار المكون المسيحي السوري. إذ توقفت خلال هذه المرحلة
المحدودة هجرة هذا المكون إلى خارج البلاد. ولكن يمكن تلمّس بقاء فكرة ومفهوم
“أقليّة” و”أكثريّة” لدى المكونات الدينية السورية والطائفية
والقومية خارج المكوّن السوري الكبير “السُنّة”.

هذا المفهوم تحوّل إلى اعتقاد تعيشه
غالبية المكونات، وهو اعتقاد زرعته القوى الاستعمارية الغربية وروّجت له دولها
الكبرى في القرن التاسع عشر، وكانت غايتها اختراق هذه المجتمعات عبر هذه البوابة،
بغرض إلحاقها بمشاريعها الاستعمارية، سواءً كانت بأذرع عسكرية أو أذرع اقتصادية أو
أذرع دينية.
إذاً الاعتقاد المتشكّل لدى المكونات السورية حول مفهوم “أقلية” و
أكثرية” ساهم فعلياً في بقاء الرابطة الوطنية الوليدة ضعيفةً. إذ يمكن القول إن
الدول الخارجة من مراحل الاحتلال لم تستطع أن تشكّل دولةً وطنيةً بالمعنى الحقيقي
والمعاصر. فظهرت هذه الدول وكأنها وعاء تجمّعي لمكونات لم تنشأ بينها روابط
المواطنة الحقيقية، التي تتقدم على كل الروابط الأخرى بهذه المكونات.

لذلك لعبت درجة التطوّر الاقتصادي
والسياسي والاجتماعي المتدنيّة دوراً في بقاء واستمرار هذه الحالة المعيقة للاندماج
الوطني. ولعب الإسلام السياسي دوراً تأزيميّاً فاعلاً في تفكيك بدايات الروابط
الوطنية بين المكونات. فالإسلام السياسي له مشروع سياسي وفكري وثقافي، يقوم على
اعتبار الآخر مشمولاً بحماية سياسية مقابل ولاء وثمن مادي مدفوع يسمى
“الجزية”.

لكن
النخب السياسية القادمة إلى السلطة عبر مؤسسة الجيش كانت فعلاً تمثّل قاعاً
اجتماعياً ذا طبيعة زراعية ريفية، هذه الطبيعة الزراعية لنمط الإنتاج السائد
بصورته المذكورة، لا يستطيعُ خلق وعي وطني متماسك. لأنه يقوم على وعي مبني على
مفهوم “الحيازة الزراعية الصغيرة”.

إذاً
قام نظام البعث على هذه الرؤية، ولذلك لم يكن لديه مشروع سياسي يتعلق بتنمية اقتصادية
وسياسية وثقافية شاملة. ولذلك تهددت مصالح المكون المسيحي، الذي كان في مراحل
متتالية يقوم على أساس النشاط الاقتصادي والتجاري والصناعي الحر. وكذلك على
الإنتاج الزراعي الكبير. ومع ذلك يمكن ذكر أن استبداد نظام البعث عموماً أدّى إلى
أن “يتناقص عدد المسيحيين بسبب الاستبداد السياسي لنظامٍ يوصف بالعلماني، حتى
بات المسيحيون السوريون ومنذ عقودٍ طويلة، هم أكثر مسيحيي الشرق الأوسط هجرةً
” (30).

ولكن
أسباب الهجرة الحقيقية للمكون المسيحي السوري لا يمكن ردّها إلى الأسباب الأمنية
فحسب. فالأمور قبل 15/3/2011 وتحديداً بعد انتهاء الصراع بين النظام والإخوان
المسلمين، والتي انتهت لمصلحة نظام حافظ الأسد، لم تكن لمصلحة المكون المسيحي. إذ
جرى في هذه المرحلة تركيز للنشاط الاقتصادي بما يخدم أجندة النظام وأذرعه الأمنية
والسياسيّة وتعبيراته الاقتصادية، ولهذا غابت الحقوق عن غالبية السكان السوريين
ومنهم المكون المسيحي. فساءت الأوضاع الاقتصادية، واكتشف المسيحيون في البلاد أنهم
مهمشون اقتصادياً، إضافة إلى اشتداد القبضة الأمنية لأجهزة مخابرات النظام،
وتدخلها بكل أمور الناس اليومية. ولهذا كان ثمة مبرر للهجرة المسيحية عن البلاد في
هذه المرحلة، إذ أراد بعضهم تصوير الهجرة بغير الأسباب التي دفعت إليها، ويمكن
القول إن “هجرة المسيحيين التي جرى اختزالها في انعدام الأمن واستهدافهم من
قبل الجماعات المسلحة في بعض المناطق، تدلّ على التغاضي المتعمّد من قبل رؤساء
الكنائس عن الأسباب الأكثر تأثيراً وتأصلاً، والتي لم يجرِ علاجها، وأهمها سوء
الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الفساد، وحالة التهميش التي يعيشها المسيحيون وغيرهم،
وتغييبهم عن المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي في بلد تغيب فيه حقوق
المواطنين وضمانات القانون” (31).

إن
هجرة المكون المسيحي السوري تقف وراءها دائماً شروط سياسية واقتصادية، وهذا المكون
التاريخي لم يكن يوماً على خلافٍ مع شركائه المكونات السورية الأخرى. ولذلك بقيت
العلاقة بين المكوّن الاسلامي والمكون المسيحي ثابتةً عموماً. وهذا يتضح من خلال
أنه و”برغم تطييف الحرب في سوريا دينياً، ظلّت العلاقات الإسلامية المسيحية
عصيّةً على الاهتزاز”(32).

ولكن
ينبغي الاعتراف أن العلاقة بين المكون المسيحي وشروط الواقع السياسية في ظلّ
استمرار الصراع في سوريا هي علاقة لا تخدم عملية اندماج هذا المكوّن الوطني
عموماً، ولا تخدم عملية بناء علاقات مواطنة متساوية للجميع. فبالإمكان معرفة واقع
الحال في سوريا وتلمسه، سيما وأن النظام أدخل ميليشيات طائفية غير سورية إلى
البلاد بغاية تثبيت حكمه. وهذا ما جعل من الأحياء المسيحية في دمشق وحلب وحمص
أحياءً بدأت تفقد هويتها الثقافية وطابعها الاجتماعي “فلم يعد باب توما حيّاً
مسيحياً، بل هو محل عمومي لميليشيا جيش الدفاع الوطني، تحرسه ميليشيات إيرانية
وعراقية ولبنانية شيعية، وأن صور زعيم ما يسمّى “حزب الله” وأعلامه
الصفراء تحتلّ جدران الحي إلى جانب صور القديسين والرموز المسيحية”(33).

وظهرت
أصوات مسيحية داخلية وخارجية تحذّر من التغيير الديمغرافي في هذا البلد. فسوريا
وعبر تاريخها حافظت على طابعها الاجتماعي المتسم بالتعايش والتعاون بين مكوناتها
المختلفة. إذ أن هجرة المسيحيين وتناقص نسبتهم في البلاد تدّل على أن نظام الأسد
ليس جاداً ولا صادقاً في أنه نصيرٌ للأقليات وحامٍ لها. فكيف يكون هذا النظام
نصيراً للمسيحيين ونسبة هذا المكوّن أو غيره من المكونات تخضع للتهجير الممنهج،
وهذا التهجير يقوّض أساساً ادعاءات نظام الأسد بهذه الحماية. وقالت “منظمة
سوريون مسيحيون من أجل السلام”: ” التجاهل المتعمد لقيم وأخلاقيات
المناطق ذات الأغلبية السكانية المسيحية في دمشق وبالأخص في منطقة باب
توما”(34).

إنّ
نظام الأسد يدفع إلى مزيدٍ من تهجير من بقي من المسيحيين السوريين، ودفعهم إلى بيع
بيوتهم وأملاكهم في المنطقة القديمة من دمشق، والتي تحتوي على مقدساتهم، مثل كنيسة
حنانيا، أو الكنسية المريمية، نتيجة تجاهله المتعمّد إلى انتشار الميليشيات
المختلفة بين السكان في هذه المناطق. ويمكن القول إن نظام الأسد يلعب بورقة
الطائفية لإجهاض الثورة ضده، والمسيحيون السوريون في هذه الحالة ليسوا في حالة
حماية من النظام كما يدعي، بل هم مهدّدون في كلّ لحظةٍ يرفضون فيها الظلم. لذلك
ليس صحيحاً أن يقال إن المسيحيين السوريين هم استثناء لدى نظام الأسد، وأنّ تعيين
وزير دفاعٍ مسيحي وهو العماد أول داود راجحة هو لمصلحة منح المسيحيين دوراً في
حياة البلاد. بل كانت الغاية توريط المسيحيين بدماء باقي المكونات السورية
المعارضة للنظام.

إن
المكوّن المسيحي تعرّض مثل غالبية الشعب السوري إلى عمليات تهجير داخلية، فهناك
قرابة مليون ونصف من المواطنين المسيحيين السوريين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية،
ومع ذلك يجب رفض المشروع الداعي إلى إفراغ الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً من
المكوّن المسيحي. فهذه المنطقة الهامة من العالم أخذت وجهها المشرق والحضاري من
خلال تآلف وتعايش مكوناتها المختلفة التي تشكّل المسيحية إحداها. والتي لعبت دوراً
هاماً في العلاقة بين الحضارتين العربية والغربية.

أهمية المكوّن المسيحي السوري في ترسيخ المواطنة:

مسألة
المواطنة كمفهوم سياسي اجتماعي فلسفي يعني بالضرورة مساواة بين أفراد مجتمع ما على
مستوى الحقوق والواجبات، في ظل قانون اجتماعي ينظّم العلاقات فيما بينهم، ويحتفظ
لهم بحقوقهم دون تمييزٍ اثني أو ديني أو طائفي أو فئوي أو مناطقي. هذه المواطنة
تفترض وجود درجة من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمكونات المجتمع. ونقصد
بدرجة التطور طبيعة العلاقات الانتاجية عموماً في أبواب (الصناعة – الزراعة –
التجارة الثقافة..). والتي تنعكس على وعي الناس ومصالحهم العامة.

وقد
درج مفهوم المواطنة وهو مفهوم معاصر مع بروز الدول القومية التي تقودها أنظمة
ليبرالية. ولهذا لا يمكن أن يتسق مفهوم المواطنة مع بقاء الأطر والنماذج ما قبل
الوطنية، مثل الانتماء للطائفة أو لمجموعة دينية مغلقة، أو للعصبويات القومية
وغيرها. لذلك يمكن القول إن معنى المواطنة يتضح بحقوق متساوية لكلّ الأفراد
والمجموعات المختلفة أيديولوجياً أو دينياً أو طائفياً، وهذا لن توفره الأطر ما
قبل الوطنية.

إنّ
المكونات الاجتماعية السورية هي مكونات متعددة ومختلفة طائفياً ودينياً وإثنياً،
وبالتالي فهي بحاجة إلى قاسم مشترك متوسط فيما بينها. فيحتفظ كل مكوّن منها
بخصوصيته الثقافية والدينية، ويجتمع بباقي الحقوق والواجبات مع الآخرين على قدم
المساواة، وعبر آليةٍ سياسية ينظّمها دستور البلاد المتوافق عليه. وهنا نستطيع
القول إن المسيحيين السوريين هم جماعة بشرية لا تجانس بين مكوناتها الداخلية على
الصعيد الاجتماعي أو السياسي أو المذهبي. ولكنهم يتجانسون بضرورة بناء دولةٍ وطنية
ديمقراطية. فمثل هذه الدولة تلغي الفروق بين المكونات الاجتماعية، وتمنح الجميع
فرصاً متساويةً في الاقتصاد والثقافة والسياسة.

إنّ
المكون المسيحي مثله مثل باقي المكونات على صعيد الموقف من النظام والصراع في
سوريا. فلقد “انقسم المسيحيون إلى ثلاث فئات، فئة أولى تقف قلباً وقالباً مع
النظام ومع الأسد حتى النهاية، وهي قليلة في الشارع المسيحي. وفئة ثانية تدعم
الثورة بشكل علني وواضح، وهي فئة قليلة أيضاً. أما الفئة الثالثة، فيمكن تسميتها
الفئة الراكدة، ولها رأي واضح من قيم الثورة السورية (الديمقراطية والحرية
والعدالة والاصلاح والتمدن ونهاية الفساد”(35).

كذلك
فإن المكون المسيحي في سوريا يدفع باتجاه دولة مواطنة حقيقية، فمثل هذه الدولة
التي تحكمها قوانين وليس شرائع سماوية هي من يحدّد الحقوق والواجبات، وهي تتحقق
بالنضالات السلمية دون اللجوء إلى العنف والحرب.

ولكن
يمكن القول إن المواطنة في الدولة السورية قبل تفجّر الصراع السياسي والعسكري فيها
هي غير ناجزةٍ. لا بل معطلة أساساً من قبل نظام الاستبداد، ومع ذلك يبقى مفهوم
المواطنة فضفاضاً، ويحتاج إلى تعريف واضح ومحدد.

إن
مصلحة المكونات الاجتماعية السورية كلها تقوم على قاعدة خلق التقاطعات بالعيش
المشترك في ظلّ دولةٍ علمانية ديمقراطية. وهذا الأمر نادى به ” مؤتمر حاضر
المسيحيين في سوريا ومستقبلهم ” وقد جاء في بيان المؤتمر “إلّا أن اجماع
المشاركين ذهب باعتماد مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية التعددية. دولة المواطنة
المتساوية. دولة المؤسسات والقانون التي تكفل منظومة الحقوق والواجبات المتساوية
لجميع أبنائها. بل وتضمن مشاركتهم في صنع حاضرهم ومستقبلهم”(36).

هذه
الدولة المنشودة لا يمكن أن تقوم بإنجاز كيانها قوىً ما قبل وطنية. بل تدفع إليها
القوى الاجتماعية ذات الصلة التاريخية (اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً). بحيث
تتوفر شروط واقعية ومادية ملموسة للدفع بهذا الاتجاه.

إنّ
بحث المسيحيين عن هوية وطنية، وقناعاتهم بضرورة توفر هذه الهوية الوطنية كان يعتمد
أساساً على حاجتهم لها. وهي هوية تحقق مفهوم المواطنة السورية، حيث تساعدهم على
تعريف موقعهم وعلى مواقع المكونات الوطنية الأخرى في صيرورة التطور التاريخي
للمجتمع السوري.

“إنّ
عدم تطور سوريا إلى دولةٍ ديمقراطيةٍ حديثة له أسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية
ودينية كانت تعيق مثل هذا التطور. من هذه السباب ركاكة البنية التجارية للمدينة في
عصر اندماج السوق السورية بالسوق العالمية في القرن 19. وغلبة مالكي الأرض على
الحياة الاقتصادية ودور رجال الدين وبينهم كثير من مالكي الأرض والتجار”(37).

هذه
التركيبة الاجتماعية الاقتصادية هي من أعاق بالمعنى التاريخي طريق تطور الدولة
السورية الحديثة. وبالتالي هي من أفسح المجال للجيش والقوات المسلحة كي يملأ
الفراغ السياسي والاقتصادي لاحقاً. هذه التركيبة الاجتماعية لا تزال لها أذرع في
البنيان الاجتماعي السوري. وباعتبار أن الواقع السوري لم يمنح دوراً تاريخياً لهذه
الطبقة التجارية والصناعية السورية (التي لم تستطع أن تلعب دور البرجوازية
الوطنية) في الدفع باتجاه دولة المواطنة، على اعتبار أنها شريكة اقتصادية وسياسية
لنظام الاستبداد. وبالتالي يمكننا القول، أن هذه الفئات ليست هي التي تنهض
بالتنمية الشاملة للبلاد.

إنّ
دولة المواطنة الجديدة التي يمكن أن تتقاطع مع ازدهار المكون الاجتماعي المسيحي
السوري هي دولة يجب أن تتسم بصفة الدولة الديمقراطية وفق رؤية بسام اسحق رئيس
المجلس السرياني السوري ” فالمسيحيون بتوجهاتهم العلمانية الداعية لدولة
مدنية ديمقراطية تنضوي تحت خيمة الشرائع الدولية دون مواربة”(38).

خاتمة:

يمكننا
أن نقول في نهاية هذا البحث أنّ مسيحيي سوريا هم جزءٌ لا يتجزأ من البنية
المجتمعية التاريخية في البلاد. وهم مكون أضاف للحضارة السورية ذات الطابع العربي
الإسلامي غنى ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. ورغم التحولات والتطورات المختلفة
التي طرأت على البنى السياسية الحاكمة لهذا المجتمع، تبقى المسيحية ديانةً ولدت في
هذه المنطقة ومن حاجاتها الروحية والاجتماعية، وبالتالي تشكّل جزءً حقيقياً من
إرثها الفكري والديني، وأن محاولات تهجير المسيحيين عن هذه البلاد هي محاولات
لتعطيل عمل الدافعة التاريخية لعجلة تطور المجتمع السوري وتطور مكوناته الذاهبة
إلى مجتمع المواطنة المتساوية المتآلف المتعايش عبر تاريخه وحاضره ومستقبله.

ثبت بالمراجع:

1-             
https://harmoon.org/archives-15629
في إشكالية الهوية السورية الملتبسة – عمار ديوب

2-             
https://www.aljumhuriya.net/content
مسيحيو سوريا 15 أيلول 2017 أوراق عبدو أمين – إياد العبد الله

3-             
https://washigtoninstitute.org/ar/fikraform/view/syrias-chrifains-a-personal-story-of-a-stolen-legacy المسيحيون في سوريا قصة شخصية عن افرث المسلوب لميس خليلوفا

4-             
jusoor.co/details/474
صناعة هوية سورية 21/1/2019 باسل وطفة

5-             
www.siyassa.org.eg/news/2510.aspx
أوضاع المسيحيين العرب والصعود الاسلامي بعد الثورات

6-             
https://alarab.co.uk السوري فارس الخوري المسيحي الوطني ورجل
الدولة والسياسة مفيد نجم 16/3/2014

7-             
https://www.orthodoxlegacy.org/?p=916
المطران ملاتيوس صويتي 5/8/2012 الياس جرجي خباز

8-             
https://www.almesbar.net191
المسيحيون في الشرق 26/9/2014

9-             
https://www.almodon.com/arabworld
الأب باولو على قيد الحياة 8/2/2019

10-         
https://carnegie-mec.org/ar-pub-63425
المسيحيون والثورة في سورية 25/4/2016 جورج فهمي

11-         
المصد السابق

12-         
https://www.enabbaladi.met/archives/195068
من يخنق أجراس المسيحيين في سوريا رهام أسعد 31/12/2017 الجريدة المطبوعة رقم 306

13-         
https://www.youm3.com/options/389
المصالحة الوطنية السورية والدور المسيحي ميرنا داود 8/8/2018

14-         
https://www.aljazeera.net/news/presstour
مسيحيو سوريا ونظام الأسد 28/9/2011

15-         
https://www.alaraby.co.uk/society/8-6
المسيحيون السوريون من الهجرة الطوعية إلى التهجير زهير هواري

16-         
https://www.alaraby.co.uk
ما مصير المسيحيين في سوريا ما بعد الحرب 3/9/2018 هوازن خداج

17-         
www.almayadeen.net/episodes/922755
حوار الساعة باسل قس نصرالله مستشار مفتي سوريا 6/12/2018

18-         
https://aawsat.com/home/article/751551
مسيحيو سوريا يحذّرون من تهجيرهم خارج دمشق القديمة 3أوكتوبر 2016 رقم العدد 13824

19-         
المصدر السابق

20-         
https://www.aljumhuriya.net/content
مسيحيو سوريا 15 أيلول 2017 أوراق عبدو أمين – إياد العبدالله

21-         
https://www.alwakeenews.com/section_1/90810
مؤتمر حاضر المسيحيين في سوريا ومستقبلهم 26/3/2014

22-         
www.france24.com/ar/20130211
أعيان الشام حالوا دون تحول سوريا إلى دولة علمانية ديمقراطية

23-         
https://arabi21.com/story/894659
مسيحيو سوريا بين الفيدرالية وثنائية النظام والتنظيم حسين الزعبي 15 آذار / مارس
2016 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني