رأي قانوني حول الدعوة لتشكيل محكمة دوليّة في سورية
انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي خبراً عن تشكيل محكمة دولية بشأن الأسلحة الكيميائية المستخدمة من قبل النظام السوري ولدى البحث والاطلاع تبيّن لنا أنّ الأمر وما فيه هو اعلان مجموعة من السوريين على قيامهم بمناقشة الفكرة مع خبراء قانونيين دوليّين تقوم على افتراض امكانيّة إنشاء المحكمة مع مجموعة من’’6-8‘‘ دول متنوعة جغرافيا جادة ومتوافقة بشأن الأسلحة الكيميائية والمساءلة وبمجرد إنشائها يمكن للمحكمة أن تفتح باب عضويتها على نطاق أوسع على أساس أن التمثيل الجغرافي العادل بالاستناد إلى بحث مكثف في لوائح الاتهام الصادرة عن المحاكم والهيئات القضائية السابقة والتشاور مع الخبراء بمجرد موافقة الدول على إنشاء المحكمة، ويقدِّرون أن الأمر سيستغرق حوالي عام واحد لإنشائها وسنة واحدة لإصدار لائحة الاتهام الأولى بالنظر إلى كمية الأدلة التي تم جمعها، وبأنّ المحكمة المقترحة ستكون مكملة للهيئات الدولية القائمة بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية. وسيتم هيكلة المحكمة بحيث تكون عاملة فقط في حال تم حظر اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وامكانيّة نقل القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية في حال حصلت على الاختصاص في المستقبل. مع اقرارهم بأن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة الملاذ الأخير. ويرون بان شرعية المحكمة تستمد عالمية القاعدة والدعوات العالمية لمحاسبة الجناة كما يتضح من العديد من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. وسيتم إنشاء المحكمة بموجب معاهدة متعددة الأطراف توقعها عدة دول من جميع أنحاء العالم.
من خلال هذه الموجز عن فكرة إنشاء المحكمة كما وردت في أحد المواقع الالكترونيّة للمبادرين نجد ما يلي:
أنّها ما زالت مجرّد فكرة غير رسميّة أي لم تُبادر الى طرحها أو الدعوة إليها أو تبنيّها أي دولة.
أنّها تدور في فلك المواثيق والمعاهدات الدوليّة وقرارات مجلس الأمن الدوليّ والجمعيّة للأمم المتحدة.
وأنّها محكمة احتياطيّة ومؤقتة الى حين تولّي المحكمة الجنائيّة الدوليّة مهمتها بالتحقيق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة في سورية بعد زوال العقبات القانونيّة والسياسيّة.
وعليه فإن امر تشكيل هذه المحكمة سيصطدم بالنصوص القانونيّة ذاتها التي استند اليها أصحاب الفكرة في دعوتهم لتشكيلها ومنها:
أنّ المحاكم والهيئات القضائية الدولية المرتبطة بالأمم المتحدّة مصدر شرعيّة هذه المحاكم مُحدّدة بمحكمة العدل الدولية والمحاكم الجنائية المخصصة التي ينشئها مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار.
وحيث أنّه بعد تشكيل المحكمة الجنائيّة الدوليّة لم تشكّل اي محكمة جنائيّة خاصة بجرائم الحرب إلّا المحاكم المختلطة التي كانت بطلب من حكومات الدول من الامم المتحدة مثل المحكمة الخاصّة بلبنان وهذا النموذج لا يمكن تطبيقه على الحالة السوريّة باعتبار انه يحتاج الى طلب من النظام وهذا من المستحيلات مما يعني أن عهد المحاكم الجنائيّة الخاصّة انتهى مع إنشاء المحكمة الجنائيّة الدوليّة الأمر الذي يؤكِّده ميثاق روما الأساسي لهذه المحكمة الذي جاء في ديباجته ما يلي: في حين تظل العدالة الانتقالية وسيادة القانون تتسمان بالأهمية بالنسبة للأمم المتحدة، فمن المرجح أن تتناول المحكمة الجنائية الدولية معظم الحالات التي تنشأ مستقبلاً. وقد عقدت العزم من أجل بلوغ هذه الغايات ولصالح الأجيال الحالية والمقبلة على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة ذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره. وإذ تؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وتصميماً منها على ضمان الاحترام الدائم لتحقيق العدالة الدولية. وإذ تؤكد في هذا الصدد أنه لا يوجد في هذا النظام الأساسي ما يمكن اعتباره إذناً لأية دولة طرف بالتدخل في نزاع مسلح يقع في إطار الشئون الداخلية لأية دولة.
وأكّدت ذلك ايضاً الاتفاقيّة الموقّعة بين الأمم المتحدة وبين المحكمة الجنائيّة الدوليّة حيث نصّت المادة ’’2‘‘ منها على أنّه: تعترف الأمم المتحدة بالمحكمة الجنائية الدولية بوصفها مؤسسة قضائية دائمـة مسـتقلة ذات شـخصية قانونيـة دوليـة، ولهـا مـن الأهليـة القانونيـة مـــا يلــزم لممارســة وظائفــها وبلــوغ أهدافها، وذلك وفقا للمادتين ’’1و4‘‘ من النظام الأساسي. تعترف المحكمة بمسؤوليات الأمم المتحدة وفقا للميثاق. تتعهد الأمم المتحدة والمحكمة بأن تحترم كل منهما مركز الأخرى وولايتها.
والتزام الطرفين بالتعاون والتنسيق بينهما وفقاً لما حدّدته المادة ’’3‘‘ من الاتفاقيّة التي تنصّ على أنّه: تتفق الأمم المتحدة والمحكمة، رغبة منهما في تيسير الوفاء الفعلي بمسؤولياتهما، على التعاون على نحو وثيق فيما بينهما، حيثما اقتضى الأمر، وعلى التشاور بشأن المسائل ذات الاهتمام المتبادل، تقيدا بأحكام هـذا الاتفاق وطبقا لأحكام كـل مــن الميثاق والنظام الأساسي.
تنازع الاختصاص: من المبادئ القانونيّة الأساسيّة عند اختلاف المرجعيّات القضائيّة واختلاف الولايات والصلاحيات أن يؤدّي الى تنازع الاختصاص ومن خلال ما ذكرناه آنفاً فإنّ التنازع بين المحكمة المقترحة وبين المحكمة الجنائيّة الدوليّة سيكون أمراً حتميّاً سواء لجهة الاختصاص الدوليّ أو الاختصاص الموضوعي:
على صعيد الاختصاص الدوليّ: لقد حدّدت المحكمة الجنائيّة الدوليّة والأمم المتحدّة المبادئ الاساسيّة للقضاء الجنائي الدولي وهي:
أنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة محكمة دائمة: وهذا ما نصّت عليه المادة ’’1‘‘ من ميثاقها التي تنصّ على أن: تنشأ بهذا محكمة جنائية دولية “المحكمة” وتكون المحكمة هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي، وذلك على النحو المشار إليه في هذا النظام الأساسي.
أنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة محكمة استثنائيّة ومكمّلة للولايات القضائيّة الوطنيّة: وهذا أيضاً ما جاء بالمادة ’’1‘‘ من ميثاقها: وتكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية ويخضع اختصاص المحكمة وأسلوب عملها لأحكام هذا النظام الأساسي.
أنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة من أشخاص القانون الدوليّ: وهو ما أقرّته المادة ’’4‘‘ من الميثاق التي تنصّ على أن: تكون للمحكمة شخصية قانونية دولية، كما تكون لها الأهلية القانونية اللازمة لممارسة وظائفها وتحقيق مقاصدها. للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها، على النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي في إقليم أية دولة طرف، ولها، وبموجب اتفاق خاص مع أية دولة أخرى، أن تمارسها في إقليم تلك الدولة.
على صعيد تنازع الاختصاص النوعي: لقد عرّفت وعدّدت المــادة ’’8‘‘ من ميثاق المحكمة جرائم الحرب التي يدخل أمر النظر فيها في اختصاص المحكمة بأنّها الجرائم الجسيمة التي ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم ومنها: الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لسنة 1949، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص، أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة. والانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي، أي فعل من الأفعال التالية: استخدام السموم أو الأسلحة المسممة. واستخدام الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات وجميع ما في حكمها من السوائل أو المواد أو الأجهزة.
وبالتالي فإن الاختصاص الأصلي للنظر بجرائم استخدام الأسلحة الكيميائيّة هو للمحكمة الجنائيّة الدوليّة وبما أنّها المحكمة الدوليّة الوحيدة والدائمة للنظر في هذه الجرائم فلا يجوز إنشاء محاكم أخرى تنازعها هذا الاختصاص وهذه الولاية لأنّ المحكمة الدوليّة أصبحت تمثِّل الإرادة الدوليّة في تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب وفقاً للاتفاقيّة المعقودة بينهما ووفقاً لما ورد في ميثاق المحكمة.
كما يثير انشاء هذه المحكمة بهذه الطريقة اشكاليّات حول إعمال المبادئ القانونيّة المستقرّة والتي يمكن للمجرمين الاستفادة منها مثل:
الدفع بعدم اختصاص المحكمة الجنائيّة فيما إذا فتحت تحقيقاً بذات الموضوع والدعوى بما يتفِق مع احكام المادة ’’19‘‘ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدوليّة.
الدفع بمبدأ عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين بما يتفِق مع احكام المادة ’’20‘‘ ميثاق المحكمة وهو ما يمكن تذرّع المجرمين به أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة مستقبلاً فيما إذا شكلت هذه المحكمة وبدأت بالتحقيق.
الدفع بمبدأ لا عقوبة إلا بنص: لا يعاقب أي شخص أدانته المحكمة إلا وفقاً لهذا النظام الأساسي. بما يتفِق مع احكام المادة ’’23‘‘ ميثاق المحكمة
الدفع عدم رجعية الأثر على الأشخاص: لا يسأل الشخص جنائياً بموجب هذا النظام الأساسي عن سلوك سابق لبدء نفاذ النظام. بما يتفِق مع احكام المادة ’’24‘‘ ميثاق المحكمة، وهو من أخطر المبادئ لأنه من القواعد والمبادئ القانونيّة الأساسية وبالتالي لا يمكن ملاحقة أي مجرم عن جريمة وقعت قبل نفاذ صكّ إنشاء المحكمة الخاصّة مما عدم تطبيق ميثاق المحكمة المقترحة بأثر رجعي على جرائم النظام.
وهذه القواعد من الأعراف والمبادئ القانونيّة والقضائيّة الثابتة والمستقرّة وتعتبر من النظام العام الدولي التي توجب العمل بها من قبل أي محكمة أو آلية من آليات التقاضي الدوليّة مما يهدّد كافة الجهود الرامية لمحاسبة النظام واركانه بالضياع نتيجة هذا التخبّط الامر الذي يجعل الهدف من استخدام الحقوق وملف العدالة هو تحقيق مكاسب سياسية فقط ما يؤدي إلى التفريط بهما لأنّ الطريق الى تحقيق العدالة والانتصاف للضحايا يمرّ على القنوات المختصّة والمسارات التي تُعبِّر عن الإرادة الدوليّة وليس عبر قنوات بديلة أو موازية لا تُعبّر إلّا عن رغبة أصحابها وبالتالي افتقادها وسائل الإلزام والتعاون الدوليّ والذي يحتاج الى مناقشات طويلة مع الدول لإقناعها بالفكرة أولاً وبالتنفيذ ثانياً لأن هذه الدول بالنهاية محكومة بميثاق الأمم المتحدّة والمبادئ الدوليّة والاتفاقيّات والمعاهدات الدوليّة التي توجب عدم التدخّل بالشؤون الداخليّة للدول ووجوب احترام السيادة الوطنيّة وهي من أهم العوائق أمام تحقيق العدالة الدوليّة.
وبالتالي فلن يكون لهذه المحكمة وقراراتها اعتراف قانوني دوليّ ما يجعل حجيّة والزاميّة قراراتها قاصرة على الدول التي قد تصادق على ميثاقها فيما إذا شُكِّلت أصلاً، وهي غير ملزمة لغيرها من الدول مما يفقد الموضوع مضمونه باعتبار أن الهدف من تشكيلها هو منع الافلات من العقاب عبر إيجاد مسارات جديدة للعدالة.
المشكلة ليست بعدم وجود محكمة مختصّة وإنما تكمن في غياب الإرادة الدوليّة بتفعيل آليات العدالة القائمة وهي المحكمة الجنائيّة الدوليّة وذريعة المجتمع الدوليّ بتخليّه عن واجبه وتحمّل مسؤولياته هي صعوبة طرق إحالة هذه الجرائم الى المحكمة الجنائيّة الدوليّة.
وهي بالفعل المعضلة والمشكلة الحقيقيّة الأمر الذي يوجب على المجتمع الدوليّ والدول الأطراف في ميثاق روما الأساسي التداعي للبحث في امكانيّة تعديل الميثاق وفقاً للمادتين ’’121و122‘‘ من ميثاقها بما يتوافق مع غايات واهداف ووجود هذه المحكمة، وتمكينها من ممارسة ولايتها بعيداً عن تسلّط الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الذين يملكون حق النقض الذي اصبح اداة تعطيل عمل المنظمة الدوليّة وتعطيل العدالة الدوليّة بيد أصحابه.
ويمكن تفعيل ذلك عن طريق قيام الدول الأعضاء فيما يسمى بالشراكة الدوليّة لمكافحة الإفلات من العقاب على استخدام الأسلحة الكيميائية التي تأسست سنة 2018 وتضمّ في عضويتها أكثر من ’’40‘‘ دولة فضلاً عن الاتحاد الأوروبيّ وأغلبها أعضاء في ميثاق روما للمحكمة الجنائيّة ومنها ثلاثة أعضاء دائمون في مجلس الأمن والتي أكّدت في بيانها المؤرّخ في13/3/2023 على التزامها بملاحقة ومحاسبة مستخدمي السلاح الكيماوي في سوريّة ومنعهم من الإفلات من العقاب كما يمكنها وباعتبارها دول أعضاء في المحكمة الطلب الى المدعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة فتح تحقيق بهذه الجرائم استنادا للمادة 13 و14 من ميثاق روما للمحكمة.