fbpx

مآخذ السوريين على المقاربة التركية لقضيتهم

0 2٬352

سواء أكان التاريخ (يُعيد نفسه أم يتغير) فإنّ الجغرافيا ثابتة والديموغرافيا متداخلة، ولم يَتمّ رسم الحدود السورية – التركية وتقطيع الأوصال إلا بسكاكين غربية استعمارية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

ظنّت تلك السكاكين أنّ القطيعة في الجغرافيا ستقطع أواصر راسخة تَشكّلت عبر قرون تَضمّ تلك الأواصر الروابط الدينية والثقافية ووشائج القربى والمصالح والمصير المشترك.

ومهما حاولت تركيا التوجّه غرباً فإنّ عُمقها الإستراتيجي سيكون مشرقياً عربياً، وتُشكّل سوريا أهمّ ركائز ذلك العمق.

وبالمقابل تُشكّل تركيا بالنسبة لسوريا عمقاً مهماً وحائطاً تسند ظهرها إليه في مواجهة مشاريع تستهدفها سواء أكانت إيرانية أم إسرائيلية. لذلك لابد أن تكون العلاقة بين الدولتين والشعبين في أحسن حالاتها وأبهى صورها لأنّ ما يجمع البلدان كبير جداً.

وبالتأكيد كانت تركيا في الألفية الجديدة قد أعادت حساباتها وتَحرّرت من أغلال الحقبة الكمالية وتصالحت مع نفسها وهويتها الإسلامية واكتشفت أنها مهما حاولت تغريب نفسها فإن التاريخ والجغرافيا يَشدّانها نحو الشرق.

قدّمت تركيا الكثير للثورة السورية وللسوريين، فتحت أبوابها لاستقبالهم واحتضانهم وأمنت لهم الملاذ الآمن بل وصل حد التعاطف معهم إلى إطلاق لقب المهاجرين عليهم بما يحمل ذلك من عُمق الدلالات الدينية.

وكان الدعم اللوجستي والعسكري من الأراضي التركية من العوامل الرئيسية في استمرار الثورة السورية ببعديها المدني والعسكري، ورغم تدخل قوى عظمى إلى جانب نظام الأسد لهزيمة الثورة السورية ووأدها. إلا أنّ قوى الثورة وبالتعاون مع الدولة التركية مازالت تُسيطر على مساحة مهمة من الأرض يتواجد بها أكثر من خمسة ملايين سوري. بمعنى بقيت الثورة في داخل الأرض السورية ولم تتحوّل إلى معارضة سياسية خارجية وقضية لجوء إنساني. وبقي تنفيذ القرارات الدولية مُمكناً وواقعياً بل حلاً وحيداً للصراع.

حيث لا ثورة سورية في المهاجر ولابُدّ من الوجود على الأرض وهذا ما تم بفعل التضحيات الهائلة للسوريين وبالطبع بمساعدة من الجار التركي حيث تقاطعت المصالح في الحفاظ على تلك البقعة الشامخة والعزيزة من أرض سوريا التي استعصت على تحالف الشر الثلاثي.

لا شك أنّ أهداف الدولة التركية بعد أن تبين عدم جدية أو واقعية إسقاط نظام الأسد وتبين ذلك من الموقف الأمريكي الذي يقود السياسة الغربية بتحديد سياساتها في سورية بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي. ونزول الروس بكل قواهم العسكرية للتدخل المباشر على الأرض إلى جانب النظام. تَحوّلت السياسة التركية باتجاه منع قيام كردي انفصالي على حدودها الجنوبية يُهدد أمنها القومي بالإضافة لمنع تواجد ميليشيا النظام والميليشيا الإيرانية على طرف الحدود. وكان مُلاحظاً بعد الدخول العسكري التركي الرسمي بعملية درع الفرات وما تلاها أنّ الاتراك يهيؤون أنفسهم لتواجد طويل الأمد في الشمال السوري وذلك عبر البدء بإنشاء إدارات ومؤسسات أمنية وعسكرية ومدنية مرتبطة بها وتدخلها المباشر برسم السياسة العامة لإدارة شؤون السكان. حيث أُلحقت إدارياً كل منطقة سورية بولاية تركية. وكان الهدف من ذلك السعي أن تكون البيئة الشعبية هي بيئة صديقة لتركيا. وتم تقديم بعض الخدمات الأساسية كتأمين شبكات للكهرباء وشق الطرق وترميم وبناء المدارس وإدارة العملية التعليمية بِرمّتها الى جانب كثير من الخدمات الأخرى.

وأصبحت تركيا هي الرئة الوحيدة التي يتنفس منها الشمال السوري فإنها كذلك شكّلت الملاذ الآمن لأربعة ملايين سوري لجؤوا إليها وبدؤوا ببناء حياة جديدة لعائلاتهم فيها. ولم تكن أي شائبة تشوب العلاقات ببن المجتمعين التركي والسوري في تركيا. ولم تُلاحظ أي علائم عن تململ شعبي تركي من كثافة اللجوء السوري ناهيك بعدم تَوقّع أي موجات كراهية أو عنصرية تجاه اللاجئين السوريين. لكن ذلك تم في زمن البحبوحة الاقتصادية والمعيشية التي رافقت صعود النمر الاقتصادي التركي إلى مصاف الاقتصادات الكبرى بالعالم.

في منتصف 2017 وما بعد، بدأت بوادر أزمة اقتصادية تُلقي بظلالها على المواطن التركي فبدأ يتبلور رويداً رويداً وعي جمعي شعبي بأنّ سبب المصاعب الاقتصادية يعود لاحتضان الدولة التركية لهذا الكَمّ من اللاجئين السوريين والإنفاق عليهم من موارد الخزينة التركية، وقد ساهمت تصريحات بعض مسؤولي الحكومة التركية بترسيخ ذلك الاعتقاد للتهرّب من فشل السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة.

أيضاً بالمقلب الآخر كانت المعارضة التركية التي تحاول النيل من الحكومة تَتهم الحكومة بتبذير أموال المواطنين الأتراك على السوريين وساعدت أجهزة إعلام ووسائل تواصل اجتماعي بتعزيز تلك الحملة على اللجوء السوري للنيل من الحكومة.

وكانت مُؤشرات الأزمة الاقتصادية التركية وتراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار يُساهم في ترسّخ الشعور العنصري والعدائية تجاه اللاجئين عموماً والسوريين منهم خصوصاً.

ولم يجد حزب العدالة والتنمية الحاكم من بُدّ سوى مُسايرة الرأي العام الشعبي مع قرب المعركة الانتخابية، وأخذ التنافس بين الحكومة والمعارضة بهذه القضية أبعاداً أخرى إذ صار التقرّب من نظام الأسد للمساهمة بحل قضية اللجوء السوري تُعتبر من بديهيات جذب الناخب التركي للتصويت لأي فريق منهما.

مآخذ السوريين على التعاطي التركي مع السوريين وقضيتهم

لاشكّ أنّ أسباب احتقان الشارع الشعبي السوري إزاء كل ماهو تركي والذي يِتمّ التعبير عنه بإزالة لوحة لمدرسة تُسمى باسم شهيد تركي أو سلطان عثماني أو أي ما يشير إلى طمس معالم وأسماء وطنية وتفضيل أسماء عثمانية وتركية عليها مرده للأسباب التالية:

  1. عدم موافقة كل الحاضنة الشعبية على السياسة التركية ابتداءً من سقوط حلب الشرقية بيد نظام الأسد وإلى يومنا هذا وما تَخلل ذلك من ابتداع مسار أستانة الذي تراه الحاضنة الشعبية السبب الرئيسي وراء كل الانتكاسات التي لحقت بالثورة وصولاً الى الوضع السيئ الذي نحن فيه الآن.
  2. باعتبار أنّ تركيا هي الملاذ الأخير أو الباقي مما عُرف بأصدقاء وداعمي الثورة السورية، فإن الحاضنة الشعبية رأت في ميل تركيا لإصلاح علاقاتها مع نظام الأسد تهديداً وجودياً لها ولما تبقى من مكتسبات تم تحقيقها عبر مئات آلاف الشهداء الذين ضحوا بأغلى ما يملكون لإسقاط النظام.
  3. نمو حالة الكراهية المقيتة واضطهاد اللاجئين السوريين في تركيا وترحيلهم قسرياً (وإن قيل غير ذلك) إلى مناطق الشمال المكتظة التي لا تتوفر فيها مقومات استيعاب أيّ قادم جديد مع انعدام فرص العمل ومصدر رزق للعائدين.
  4. تَذمّر الحاضنة الشعبية من سوء إدارة مناطق الشمال السوري الخاضعة للنفوذ التركي، وعدم سعي الأتراك الجدي لإصلاح الحال نحو الأفضل وتطبيق حوكمة تنهض بالمنطقة، إضافة إلى الاعتماد على قادة عسكريين ومدنيين محسوبين على الأتراك ويراهم الشارع المحلي فاسدين.
  5. منذ ظهور اتفاقيات خفض التصعيد كإحدى مخرجات مسار أستانة وظهور ما عُرف بالضامنين، كان عَتب الحاضنة الشعبية (ومازال) قوياً على الجانب التركي الضامن لأن مناطق المعارضة حيث كان الردع التركي باهتاً أو معدوماً لأي خروقات يقوم بها طيران الاحتلال الروسي وارتكاب مجازر بحق المدنيين، أو حتى ردع أو إعطاء الحرية لفصائل الثورة بردع المعتدين.

ولكن مع كل هذا العتب تُدرك الحاضنة الشعبية أنّ السند الوحيد المتبقي أو الجدار الذي تستند إليه قوى الثورة هو الجدار التركي وخاصة بعد أن فَرّطت الدول العربية بأبسط الثوابت وتصالحت مع الأسد مجاناً وفتحت له أبواب عواصمها وجامعتها ضاربةً عرض الحائط بكل آمال السوريين في عزل من قتلهم وعدم إعطائه صك البراءة من دمائهم.

وبعد الانتخابات التركية صحيح أنّ حملة الكراهية والعنصرية مستمرة والترحيل القسري متواصل ضد اللجوء السوري ولكنني أظنها تكتيكات سياسية تَخصّ حزب العدالة والتنمية الحاكم لانتزاع بلديات المدن الكبرى من أيدي المعارضة. حيث قد يتغير النهج الحكومي المُتبع الآن بعد الانتخابات البلدية في آذار القادم. ولكن تبقى سياسة الدولة التركية ثابتة ببناء بيئة صديقة من السوريين داخل سورية وبيئة صديقة بمئات الآلاف من أبناء السوريين في تركيا لم يتعلموا غير اللغة التركية وسيكونون جسراً قوياً بين الشعبين لا يمكن هدمه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني