خُذلان أمريكي للحلفاء في الشرق الأوسط قد يُغيّر وجه المنطقة
بعد إعلان انتصار الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب الباردة في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي وتَزامَن ذلك مع تحرير الكويت من الغزو العراقي، شعرت الولايات المتحدة بالخُيلاء والنشّوة واسترخت استراتيجياً ولم تَجد عَدواً يَتحدّى قطبيتها الأحادية العالمية، واستفاقت من ذلك التربّع على عرش السيادة العالمية على ضربات الحادي عشر من أيلول 2001، تلك الضربات التي أصابت القلب فيها وجرحت كبريائها وأفقدتها هيبتها في العالم.
وقتها ضاعت الاستراتيجيات والخطط وفقدت تلك القوة العظمى الجريحة صوابها، فكان أن اتخذت قرارها على عَجَل باسترداد ما يمكن استرداده من الهيبة العالمية والانتقام لضحاياها، فشنّت حربين مجنونتين دمّرت بهما أفغانستان والعراق، وجسّدت عدواً إستراتيجياً لها وهو الحركات الجهادية السنية ذات الأهداف العالمية كعدو أول لها.
استغلّ التنين الصيني والدبّ الروسي (الجريح والمتحفز للانتقام من الإهانة التي عاملته الولايات المتحدة بها في حقبة الرئيس يلتسين)، الانشغال الأمريكي بالحرب على العدو الشبح الجديد وبدءاً رحلة الصعود الصاروخي على أمل أن تُنافسا الولايات المتحدة على السيادة العالمية ريثما تستفيق القوة الامريكية المجنونة من تِيهها الإستراتيجي والذي دام إلى عام 2022 عندما اندفعت القوات الروسية إلى أوكرانيا على أمل البدء بإخضاع أوربة بعد تمزيقها، وكانت الصين قد بلغت من القوة مَبلغاً جعلها قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح قطباً عالمياً.
وفي خلال العشرين عاماً من بداية الألفية الجديدة إرتكبت الولايات المتحدة أخطاءاً إستراتيجية قاتلة تَحصد نتائجها الآن.
1- الأخطاء الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية
ويمكن سحب الأخطاء تلك على مُجمل الدول الخليجية ولكن بسبب ثِقل وأهمية المملكة كانت الأخطاء قاتلة.
فبسبب 15 إرهابي مِمّن شاركوا بضربات أيلول كانوا سعوديين وبسبب كون أسامة بن لادن سعودي الجنسية، وبسبب الفكر الحركي الجهادي المُستقى من تفسيرات مشايخ السلفية الجهادية للإرث السلفي الوهابي، كانت المملكة توضع في مصاف الأعدقاء وابتكر المخططون الأمريكيون سياسة ضرب الأعداء النوعيين ببعضهما وإشغالهما عنها وإنهاكهما فكان أن برز تخادم أمريكي إيراني شيعي سعى إلى تهيئة الظروف لِتوسّعه في الإقليم كُله، بحيث تَمّت إزاحة أهمّ عدوين أمام تصدير الثورة الخمينية وهما حركة طالبان والرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
وتَخلّى الأمريكان عن عقيدة كارتر التي تقول إن أمن الخليج العربي أمن قومي أمريكي وتم ضرب عرض الحائط بالتفاهم الإستراتيجي الذي تم عام 1945 بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي روزفلت وجوهر ذلك التفاهم أنّ النفط مقابل الأمن، بعد تكريس الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبعد التغول الإيراني في العراق وسيطرتهم عليه عبر تفاهمات عميقة بين الإيرانيين والأمريكان أضحى الخليج العربي والمملكة بالذات مُحاصرين من الضفة الشرقية للخليج العربي والشمال عبر هلال شيعي بَدأ مِن طهران وتَدحرج لبغداد وبعد الثورة السورية عَبَرَ دمشق ليصل إلى بيروت باسطاً سيطرته على بلاد الرافدين ومعظم بلاد الشام، ووقعت عاصمتا الأمويين والعباسيين تحت الاحتلال الإيراني والذي كان لا يُخفي بوصلته باتجاه الحرمين الشريفين ومُتّخذاً من الأسرة المالكة السعودية كعدو استراتيجي.
في ذروة الربيع العربي ولأسباب عديدة تَمكّنت الجماعة الحوثية باليمن من السيطرة على صنعاء وأطاحت بالحكومة اليمنية وكانت ذراعاً للحرس الثوري الإيراني في الخاصرة الجنوبية للمملكة، وعندما بدأت المملكة عاصفة الحزم في آذار 2015 لاستئصال ذلك الجيب الموالي لإيران، بدأ عهد جديد من التخادم الأمريكي الإيراني بِغضّ النظر عن تهريب الأسلحة والرجال تحت أعين الأساطيل الامريكية والتي ترصد أي حركة في محيطات العالم كُله، وكان للضغوط الأمريكية الأثر الكبير تحت ذرائع شتى (أهمها الذرائع الإنسانية) من الحيلولة دون نصر حاسم على جماعة الحوثي وهزيمتها شَرّ هزيمة.
المرارة السعودية من الموقف الأمريكي من حرب اليمن (الذي من المُفترض أنّه حليف للمملكة وعَدوّ لجماعة الحوثي والذي شعارهم الأول الموت لأمريكا) مرارة كبيرة وتم خلال السنوات الماضية إطلاق أكثر من ألف صاروخ ومُسيّرة طالت معظم المنشآت المدنية والاقتصادية السعودية كانت لا تلقى أكثر من إدانة لفظية أمريكية، وتَجلّت تلك الأخطار واضحة بأيلول 2019 عندما قامت أذرع الحرس الثوري الإيراني بتدمير جزء كبير من منشآت آرامكو وتعطيل نصف إنتاج المملكة من الخام الأسود، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئاً سوى إدانة لفظية للعملية أعقبها إرسال عدة بطاريات من صواريخ باترويوت ع سبيل الإعارة تم سحبها لاحقاً.
وبرز التخادم الأمريكي الإيراني كثيراً بعهد الرئيس السابق باراك أوباما (الذي كان لا يُخفي إعجابه بالفرس وعدم حُبّه للعرب) حيث تَمّ تتويج ذلك التخادم بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران صيف 2015 وبموجبه تَمّ الاعتراف بالتمدّد الإيراني في العواصم العربية الأربع بالإضافة لغزة كأمر واقع غَضّ الطرف عنه المجتمع الدولي متمثلاً بمجموعة الستة التي وقعت الاتفاق مع إيران، واعتبار إيران شريكا للمجتمع الدولي لكن ذلك لم يدم طويلا إذ بعد ثلاث سنوات انقلب الرئيس ترمب بأيار 2018 على ذلك الاتفاق وأخرج الولايات المتحدة منه.
كانت طلبات شراء السلاح السعودية من الولايات المتحدة تُعامل بطريقة تؤدّي لرفضها في كثير من الأحيان لوضع الكثير من الشروط التعجيزية عليها ويَتمّ تبادل الأدوار بالعرقلة بين المؤسسات الأمريكية ومجلسي الكونغرس والإدارة، إضافة للانتقادات الّلاذعة لسياسة القيادة السعودية داخلياً تحت حُجج حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات الدينية وغياب الديمقراطية، وكانت من أهم تلك الانتقادات والتي سيتم ترجمتها لسياسات أقوال الرئيس الحالي جو بايدن في حملته الانتخابية بأنّه سيجعل من المملكة دولة منبوذة في حال وصوله للبيت الأبيض و في الوقت نفسه كان لا يُخفي رغبته في العودة للاتفاق النووي مع إيران حيث كان أحد أعمدة فريق الرئيس أوباما الذين صَنعوا ذلك الاتفاق البائد.
2- الأخطاء الأمريكية تجاه تركيا
تركيا حليف للغرب منذ أعلن كمال أتاتورك إسقاط الخلافة الإسلامية وتأسيس الجمهورية التركية، وكانت تلك الجمهورية الوليدة رُكنا أساسيا بحلف الناتو وأحد الجدران الحديدية التي أحاطت في الاتحاد السوفييتي جنوباً، وهي التي تَتَحكّم بالمضائق البحرية التي تُمسك بخناق البحر الأسود المُتنفّس شبه الوحيد للاتحاد السوفييتي سابقاً ووريثه حالياً الاتحاد الروسي، وانضمت تركيا لحلف الناتو باكراً وتملك ثاني أكبر جيش بري فيه، بدأ التمايز التركي عن السياسة الأمريكية مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم بعام 2002، حيث أحجم الاتراك عن إعطاء تسهيلات لوجستية ضرورية لمساعدة الجيش الأمريكي في غزوه للعراق، ثم تَوتّرت العلاقة فيما بعد في بوصلة السياسة التركية جنوباً باتجاه البلاد العربية وأخذ موقف مغاير للسياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية ساد لعقود طويلة.
وتَطوّر الخلاف التركي/الأمريكي بعد اندلاع الثورة السورية لامتلاك تلك الدولتان لمقاربتين مختلفتان تجاه الأحداث الجارية، وكانت تُمني أنقرة النفس باعتماد الولايات المتحدة عليها كشريك رئيسي لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي كونها تملك الكثير من المؤهلات لتكون ذلك الحليف القوي لاستئصال تلك الآفة، إلاّ أنّه وخلافاً لِكلّ ما هو منطقي وطبيعي فَضّلت الولايات المتحدة التحالف مع شريك محلي على الأرض وتمكينه منها بعد طرد التنظيم وهو التنظيم الذي تُصنّفه أنقرة تنظيماً إرهابياً بل ويعمل على تقويض أمنها القومي وسِلمها الاجتماعي، وتَعتقد أنقرة أنّ السياسة المتوسطة والبعيدة الأجل للولايات المتحدة في سورية ستعمل على استنساخ إقليم كردي سوري على شاكلة ما أنشأته الولايات المتحدة في شمال العراق.
وتَتالت الأحداث إلى أن تركت الولايات المتحدة حليفتها التركية بحالة صدام حتمي مع الاتحاد الروسي في سورية وهو الأمر الذي سيتطاير شرره إلى أماكن في وسط آسيا والقوقاز أماكن تَداخل كلا النفوذين الروسي والتركي، إضافة لتخريب العلاقات الاقتصادية الواعدة بين الدولتين.
خَذَل الأتراك والروس الولايات المتحدة وتَخلّت الدولتان عن الريبة وعدم الثقة الموروث عن تاريخ صراع دامي بين العثمانيين والقياصرة، وتفاهما على مسارات لتبادل المصالح وعدم الاشتباك، هذا التعاون تَطوّر فيما بعد إلى تجذير تلك العلاقات ووصولها لبناء روسيا لمحطات طاقة نووية في تركيا وشراء صواريخ روسية متطورة من منظومة S400 وهو خرق روسي نوعي لدولة من أهم دول الناتو أعقبه استغناء الولايات المتحدة عن متابعة اشتراك تركيا في تصنيع طائرة القرن (F35) وإيقاف توريد طائرات (F16) حديثة أو تحديث ما هو موجود والمماطلة بإرسال قطع الغيار اللازمة للصيانة، وتم فرض عقوبات اقتصادية على شخصيات تركية رفيعة المستوى.
تَمكّن الرئيس الروسي من إحداث شرخ في علاقات أنقرة مع حلف الناتو إذ أخذت أنقرة الكثير من المواقف المناهضة للولايات المتحدة المتماهية مع الروس كان آخرها الموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا والذي كان أميل للطرف الروسي مع رفض أنقرة الانضمام للعقوبات الغربية على موسكو وفتح مجال يتنفس منه الاقتصاد الروسي المحاصر عَبْرَها.
وكان لافتاً الموقف/الروسي التركي المُشترك الذي صدر بعد قِمّة أستانة الأخيرة باعتبار القوات الأمريكية في سورية قوات احتلال غير شرعية وأنّها السبب الرئيس في عدم الوصول لحل للقضية السورية.
ودائماً ما كان الموقف الأمريكي لا يتناغم مع الموقف التركي من الخلاف على أحقية أنقرة باستثمار المياه الاقتصادية التي تَعتبرها أنقرة مياهها الإقليمية في شرق المتوسط وبحر إيجة، كما أنّ أنقرة لا تُخفي استياءها من الموقف الأمريكي الداعم لعدوتها التقليدية وجارتها اللدودة اليونان.
وقد ترافق كل ذلك التوتر السياسي في العلاقات بفرض عقوبات أمريكية على الاقتصاد التركي وصلت بالرئيس السابق دونالد ترامب إلى التهديد بتحطيم الاقتصاد التركي.
3- الأخطاء الأمريكية تجاه مصر
القضية الجوهرية التي تَمُسّ صميم الأمن القومي المصري، لم تقف فيها الولايات المتحدة مع حليفها المصري بل إِنّها كانت أقرب لموقف خصمها، وأقصد هنا بالطبع قضية سد النهضة الذي أنشأته الحكومة الاثيوبية (القريبة جداً من الصين) والذي يهدّد إمدادات المياه لمصر والسودان، ومنذ عام 2015 لم تكن الولايات المتحدة بما تملكه من نفوذ دولي بجانب الموقف المصري، حتى عندما رفعت الحكومة المصرية القضية إلى مجلس الامن الدولي باعتبار أنّ بِناء السدّ يُهدّد الأمن والسلم العالميين ويجعل حياة 150 مليوناً من مواطني مصر والسودان في خطر، وهو الأمر الذي قد يُشعل حرباً إقليمية على المياه، لم توافق الولايات المتحدة على ذلك التوصيف ولم تَدعم طلب الحكومة المصرية وفَضّلت إحالة ذلك الطلب إلى الاتحاد الأفريقي باعتباره شأناً إقليمياً خلافياً وليس دولياً وبالتالي أقدمت الحكومة الأثيوبية على تعبئة السد وباءت كل الجهود المصرية بالفشل وبالتأكيد هناك مرارة مصرية من الحليف التقليدي الأمريكي.
كانت تركيا مُتخاصمة مع مصر والسعودية، ولم تَكن العلاقات المصرية السعودية على ما يرام، وبمجيء الرئيس بايدن للبيت الأبيض عملت الدول الثلاث على تذليل العقبات بينهم وإصلاح العلاقات وإبعاد المَلفّات الخلافية عن طريق عودة العلاقات البينية، في استعداد لمواجهة أربع سنوات أوبامية جديدة ينفذها الرئيس الجديد، فكان التقارب السعودي مع الصين وروسيا قد قطع أشواطاً بعيدة، وبنفس الوقت كانت تركيا قريبة جداً من الروس، وكُلّ اقتراب للحليفين التقليديين من روسيا أو الصين أو كليهما معاً يتم على حساب الابتعاد خطوة عن الولايات المتحدة.
وكان واضحاً موقف الدول الثلاث (مصر، السعودية، تركيا) من الغزو الروسي لأوكرانيا إن من خلال خذلان الحشد الأمريكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في المواقف العلنية الرافضة أولاً للانضمام للعقوبات الغربية على روسيا والاستمرار بالاتصالات السياسية مع موسكو، أو بالخطوة السعودية الجبّارة بِرفض الانصياع للرغبات الأمريكية بزيادة إنتاج الخام السعودي لكسر الأسعار العالمية والمحافظة على تنسيق عالي المستوى مع روسيا في منظمة أوبك بلس.
ولم يكن مُفاجئاً للمراقبين الانعطافة السعودية عبر بكين باتجاه التصالح مع طهران ضاربةً عرض الحائط بالسياسة الأمريكية الرامية إلى انضمام المملكة العربية السعودية للسلام الإبراهيمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مُفَضّلةً عليه سلام إسماعيلي مع الجارة اللدودة إيران.
بالمقابل يعلم الجميع أن الولايات المتحدة لا تُفضّل نجاح الرئيس الحالي التركي وحزبه بولاية جديدة مُفضّلةً عليه خصمه كمال كليتشدار أوغلو الذي اجتمع مع السفير الأمريكي مُؤخراً في رسالة دعم لا تقبل التأويل، ورفض الرئيس التركي استقبال السفير الأمريكي بعدها واعتبر ذلك تدخلاً أمريكياً في العملية الانتخابية بعد انطلاقها رسمياً، وليس مُستغرباً ما ذكرته صحيفة الواشنطن بوست عن امتلاكها لمعلومات تُؤكّد حدوث اتفاق سري بين الحكومتين الروسية والمصرية لإنتاج 40 ألف صاروخ وقذيفة بمعامل مصرية وتصديرها لروسيا، كل ذلك يؤشر لتغييرات في تموضع الدول الشرق أوسطية الثلاث استراتيجياً وقد يكون ذلك التموضع لآجال بعيدة وسببه الرئيس خُذلان الولايات المتحدة بسياساتها لأقرب حلفائها.