fbpx

عاشق السينما “نادر الأتاسي” في محاضرة ووثائقي: الاحتفاء بالبورجوازية الوطنية

0 596

خلال عرض فيلم “المليونير العاشق” الذي كتبه وأخرجه وقام بعمليات مونتاجه الزميل محمد منصور، صاحب الأعمال الوثائقية اللافتة على صعيد توثيق الذاكرة السورية وأبرزها (موسوعة سورية السياسية) في دار الأتاسي بمدينة إسطنبول مساء السبت الماضي، والتعريف الذي قدمه عن الراحل نادر الأتاسي من خلال محاضرة أعقبت عرض الفيلم، تعرفنا على أحد صانعي الثقافة السورية منذ ستينيات القرن الماضي.

البورجوازية الوطنية السورية التي نهضت بالوطن وعملت على رفعته ونجاحه، كانت دريئة لأسهمنا ونحن أطفال ويافعون ننهل من فكر نظام الأسد المجرم، ونعتناهم بأبشع الصفات، من العمالة للاستعمار إلى وصفهم بالطبقة العفنة، التي يجب أن نثور عليها لنحقق الانتقال إلى دولة الاشتراكية، الجنة الموعودة، ولم نفهم الدور التحرري الوطني للبورجوازية الوطنية ودور النظام المستبد المجرم العميل الحقيقي للاستعمار إلا بعد سنوات كنا فيها قد نضجنا وتخلصنا من رواسب النظام القاتل المستبد.

في الفيلم والمحاضرة التي ألقاها الزميل “منصور” بعده، اكتشفنا أن من الطبيعي وجود شخص عصامي في هذه الدنيا إنسان حقيقي، كافح وعمل واجتهد وأصبح يمتلك ثروة، دون أن يكون لديه قريب يعمل في المخابرات أو قريب من أجهزة السلطة بشكل عام، ودون أن يقدم رشاوى للمسؤولين أو المتنفذين كي يحصل على مناقصة ما أو موافقة ما، فالمهندس نادر الأتاسي ولد لعائلة كبيرة معروفة، لكنها عائلة وطنية لم تشارك في نهب وسرقة ثروات الوطن، وكانت أسرته الصغيرة من العائلات الحمصية متوسطة الحال، فدرس واجتهد حتى تخرج من بيروت كمهندس مدني، وعاد إلى حمص لتعرض عليه وظيفة مهندس في البلدية، فيرفضها ويبدأ عمله في المقاولات، ويجتهد ليراكم الثروة المالية، التي سخر قسماً كبيراً منها في خدمة الثقافة، ودعم المواهب الشابة، فشارك في دعم دور السينما، وامتلك أو شارك في ملكية عدة دور للسينما بمدينته حمص، وساهم في انتقال “دريد ونهاد” من المحلية السورية إلى الساحة العربية من خلال مشاركتهما في أول فيلم سينمائي لهم “عقد اللولو” عام 1965 مع الفنانة صباح، لتكر السبحة فيما بعد، وينتج لهم الأفلام الكثيرة، ويدعم تجربة دريد لحام الإخراجية الأولى في فيلم التقرير، بمخاطرة كبيرة من منتج عشق السينما وجاهد ليقدم لها كل الدعم.

يلقي الزميل “منصور” الضوء على التهميش المتعمد للمنتج، وتشويه صورته الحقيقية من قبل نظام الاستبداد الأسدي ليغدو مجرد رجل ثري ينتج الأفلام من أجل الربح والمال، بينما هو في حقيقته مبدع وصانع وداعم للثقافة والفن السينمائي، ويجري ذكره على ألسنة كبار الفنانين في لقاءاتهم التلفزيونية والصحفية، ويذكره الفنان منصور الرحباني في مذكراته.

عشق “الأتاسي” للسينما بدأ حسب “منصور” من باب الصالات السينمائية، فقد كان “نادر الأتاسي” منذ أيام الدراسة مولعاً بمشاهدة الأفلام.. وهكذا لم يتردد في مشاركة جوزيف خوري مالك صالات سينما أوبرا والقاهرة والزهراء في حمص عام 1950 في ملكيتها لأن “خوري” لم يعد يستطيع احتمال هذا العبء لوحده، كما لم يتردد عام 1958 في مشاركة المهندس نور الدين كحالة في إنشاء سينما حمص، التي كان افتتاحها عام 1959 حدثاً فنياً واجتماعياً كبيراً في المدينة وحققت نجاحاً كبيراً نظراً لمواصفاتها الفنية المتقدمة عن كل الصالات الموجودة في حمص آنذاك. ولم يتوقف نشاط نادر الأتاسي على صالات حمص، بل اقتنى صالات كبرى في دمشق وحلب واللاذقية، وبحلول عام 1961 كان نادر الأتاسي يملك أو يستثمر نصف صالات السينما في سورية، أي كانت له (15) صالة من أصل 30 صالة من صالات الدرجة الأولى حصراً، وفي عام 1962 بدأ “الأتاسي” بإنتاج أول أفلامه (يا سلام على الحب) إخراج الممثل محمد سلمان وبطولة زوجته المطربة نجاح سلام مع المطرب السوري فهد بلان في أول ظهور سينمائي له.

وكما دعم “الأتاسي” كلاً من دريد ونهاد، وفهد بلان، قدم الدعم أيضا لفيروز والأخوين رحباني، فأنتج أول أفلامها “بياع الخواتم” عام 1965 بتوقيع المخرج “يوسف شاهين”، وقد تسبب – حسب “منصور” – هذا الفيلم بخسارة قدرها 300 ألف ليرة لبنانية، لكن هذا لم يدفعه للتوقف والتراجع، فقد قال الأتاسي في مذكراته “التعويض كان معنوياً كون بياع الخواتم يبقى من أجمل أفلام السينما العربية”، وبعد خسارته في فيلم “بياع الخواتم”، أكمل طريقه مع الأخوين رحباني والسيدة فيروز، وأنتج لهما فيلمي (سفر برلك) عام 1967 و(بنت الحارس) عام 1968، وبهذا كان “الأتاسي” هو المنتج الوحيد لأفلام السيدة فيروز والأخوين رحباني الثلاثة.

كما تدخل لعدة مرات محاولاً إعادة اللحمة “لهذا الثلاثي الماسي” بعد انفصال السيدة فيروز عن زوجها عاصي الرحباني ولم ينجح، وبعد وفاة عاصي الرحباني بسنوات، عاد محاولاً إحياء مشروعه المركون على الرف – تحويل مسرحية “هالة والملك” إلى فيلم سينمائي – منذ أن اشترى حقوق تحويل المسرحية إلى فيلم سينمائي عام 1981، وحصل بعدها الطلاق الفني وانكسر هذا الثلاثي، ولم يفلح، إلى أن اتفق مع منصور الرحباني على بطولة دريد لحام ومريام فارس لهذا الفيلم، وبهذا تم إنتاج فيلم “سيلينا” وخرج للنور عام 2009.

المحطات في حياة الراحل المهندس نادر الأتاسي عاشق السينما كثيرة، فقد كان له الفضل في خروج أفلام محمد الماغوط ودريد لحام (الحدود) عام 1984 و(التقرير) عام 1986.

وكانت له مساهمات خارج سوريا، فدعم المخرج أنور القوادري ابن تحسين القوادري صديقه وشريكه في رحلة الإنتاج السينمائي عبر إنتاج فيلم (كسارة البندق) عام 1981 المقتبس عن باليه تشايكوفسكي الشهيرة، والذي كان يريد أن يقدم أول أعماله بلغة السينما العالمية، وفي هوليوود أنتج فيلم (سيد الوحوش) للمخرج الأمريكي الإيطالي الأصل دون كوسكاريلي، الذي وزعته وارنر برذر عام 1982، كما كان للراحل الأتاسي مساهمات في مجال الدراما التلفزيونية في إطار تقديم السيرة الذاتية لواحد من أبرز الأدباء العرب المعاصرين، عبر مسلسل (جبران) الذي كتب له السيناريو نهاد سيريس، وأخرجه محمد فردوس أتاسي وأنتج عام 2007.

محطات كثيرة وغنية كانت تحفل بها حياة هذا البورجوازي النبيل، نادر بيك، الذي اجتهدت سلطة عائلة الأسد لتحطيمه وتحطيم أي شخص وطني آخر، وإبعاده عن الجمهور والعامة، كي تخلو لها الساحة، فيكون الأسد هو الأب والقائد، هو المعلم الأول والرياضي الأول والفنان الأول، وهو الأول والأخير، ليعتبر نفسه إلهاً، رغم رفض الشعب له، ونضاله الطويل المتعدد الأشكال ضد استبداده، ودفعه أثماناً باهظة ثمناً لهذا النضال من حياة كوادره وشخصياته المثقفة المتنورة، والذي انفجر في 2011 من أجل نيل حريته من هذا النظام الاستبدادي المجرم.

الإضاءة على هذه النماذج المشرفة من أبناء الوطن مهمة ثورية برأيي يجب العمل عليها، ويجب نشر الثقافة والعلم بين أفراد الشعب السوري، من خلال الذهاب إليه في منافيه وتجمعاته، وهذا ما اقترحته على إدارة دار الأتاسي خلال الأمسية، وما أقترحه اليوم بهذا التقرير الصحفي، إقامة أنشطة سينمائية متنقلة في أحياء إسطنبول التي تتركز فيها التجمعات الرئيسية للسوريين والعرب، لتعرض أفلام نادر الأتاسي ضمنها ويتم إظهار الوجه المشرف الوطني لهذه الشخصية، وفي المستقبل غيرها من الشخصيات الوطنية السورية التي ساهمت في رفعة وبناء حضارة هذا البلد، كي لا ينقطع جيل الآباء والأبناء عن ثقافتهم السورية وعن تراثهم وامتدادهم الثقافي تحت وطأة التغريب المتعمد خدمة لأيديولوجيات سلطوية تبحث عن الهيمنة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني