fbpx

سورية.. انكفاء روسي وغموض أمريكي.. من سيملأ الفراغ؟

0 1٬246

لا يمكن للقوى المحلية والإقليمية أن تحقق أهدافها في ظل وجود القوى الكبرى، فلابد لكل القوى من التكيف والتموضع وفقاً للمشهد أو الحدود التي يرسمها اللاعبون الكبار.

يمكن للقوى المحلية والإقليمية تحقيق بعض أهدافها وتأجيل أخرى إلى حين اكتمال شروط تحقيقها.

وبسبب موقع سورية الجيوسياسي فائق الأهمية، فقد كانت محط أنظار، بل ترقب كل القوى الإقليمية والعظمى، منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها، وكأن بركان الغضب الشعبي سيغير من النظام الذي تموضع وظيفياً بحيث يؤمن مصالح جميع الأطراف شريطة الإبقاء عليه.

فقد كانت (سورية الأسد) محسوبة تاريخياً كحليف للاتحاد السوفييتي، ولكنها أرسلت جيشها إلى الكويت للقتال تحت المظلة الأمريكية في حرب تحرير الكويت، وكانت حامية أمينة للحدود الإسرائيلية في الوقت الذي كانت فيه ترفع أقوى شعارات تحرير فلسطين.

ثم مر عليها عهد من العلاقات الاستراتيجية مع إيران (ولا زالت)، بالإضافة لعلاقات مقبولة مع الدول العربية إن لم نقل جيدة.

نتيجة الحرب التي دارت على الأرض السورية، وبسبب التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة الأمريكية (تحت ذريعة محاربة الإرهاب الداعشي السني) وتدخل الاتحاد الروسي أيضاً تحت يافطة محاربة الإرهاب (السني أيضاً).

تموضعت خريطة السيطرة العسكرية لحليفي النظام الصلبين في 65% تقريباً من الجغرافيا السورية، والبقية وقعت تحت سيطرة أو نفوذ الأعدقاء في الناتو، الولايات المتحدة وتركيا.

ويمكننا القول، إن تركيا، هي الدولة الوحيدة المتدخلة في سورية، والتي تملك حدوداً معها تقارب الألف كيلومتر.

ما أود قوله، إن الجغرافيا تحكم السياسة والمصالح، فقد يرحل الجميع عن سورية ولكن تركيا ستبقى جارتها الشمالية، وبالتالي لقد حكمت علينا الجغرافيا والتاريخ حكماً مؤبداً بالبقاء معاً إلى يوم الدين.

الغموض الأمريكي

لم يخف الأمريكان رغبتهم من التخفيف من تواجدهم في الشرق الأوسط عموماً وفي سورية، التي غالباً ما يردد السياسيون الأمريكان عنها (ولا زالوا)، بأنها ليست موجودة في أولوياتهم ولا ينوون البقاء فيها طويلاً، خاصة بعد إعلان انتصارهم على داعش، وتغيير استراتيجيتهم بحيث لم تعد محاربة الإرهاب من ضمنها، ونقل جهدهم الاستراتيجي إلى المحيط الهادئ بمواجهة التنين الصيني وإلى أوربة لكبح جموح الدب الروسي.

وكان الجهد السياسي الأمريكي المعلن، هو الوصول لاتفاق نووي مع إيران وترك المنطقة لأهلها، خاصة أن الولايات المتحدة في السنة الأولى تحديداً من ولاية الرئيس بايدن، لم تكن على علاقة ودية مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط وكانت تسعى أحياناً لكسب خصومتهم بالمجان.

يبدو أن تعثر الاتفاق النووي، الذي يمر الآن بحالة موت سريري بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، قد أخر قليلاً من تخفيف وجودها العسكري واهتمامها الاستراتيجي بالمنطقة ككل، بناءً على مستجدات الحرب، وطبعاً سورية في قائمة أولويات الديار التي تفكر بإخلائها.

لذلك نرى تردداً وتخبطاً أمريكياً في الملف السوري في البعد السياسي، ولا يخفي المسؤولون الأمريكان، بأن مقاربتهم للملف الآن تتركز على الشأن الإنساني ومحاربة الإرهاب (وهي حجة لتبرير الوجود ليس أكثر).

لكن فراغاً أمريكياً في سورية أمر متوقع بغض النظر عن سرعة حصول ذلك.

وبالمحصلة ستكون سياساتها داعمة للتوافق الإقليمي بين دول المنطقة في مقاربتها للمسألة السورية، والمقصود بالطبع محاربة أو الحد من التغول الإيراني في سورية ومنع تموضع النفوذ الإيراني على الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

الانكفاء الروسي

لم يدر في خلد الرئيس الروسي ما سيجره عليه غزوه لأوكرانيا، لن يتمكن من يخوض في الأوحال الأوكرانية من التمتع طويلاً بالاستمتاع بدفء السواحل المتوسطية.

بدأ التراجع الروسي في سورية وسيزداد أكثر على وقع المعارك في أوكرانيا والاستنزاف العسكري والاقتصادي وتراجع الدور العالمي والانكفاء للداخل الروسي وجبهته المشتعلة في الغرب.

ولن تستطيع روسيا المكابرة أو التعالي على الجراح الاستراتيجية التي أصابت جسدها ومعنوياتها، وأن توهم العالم أنها لازالت كما كانت قبل الحرب، تستطيع تحريك بضع طائرات إلى مطار القامشلي أو القيام بدوريات جوية هيلوكوبترية في سماء ريف حلب الشمالي.

لقد أضحى الفتق الأوكراني أوسع من الراتق الروسي.

وكان العالم يرقب الانسحابات المتوالية من أماكن ومواقع في سورية، سعت موسكو إليها طويلاً، وملء الميليشيات الإيرانية لبعض تلك المواقع.

من سيملأ الفراغ الروسي المتوقع والفراغ الأمريكي المفترض

تركيا الآن تتقدّم بقوة إلى الساحة الإقليمية عبر تصفير المشاكل مع الأقطاب الرئيسية لدول الإقليم التي كان الجليد يميز حرارة العلاقة بينهما، عبر انفتاح سريع وغير مسبوق لكنه متوقع، فقد تم الترحيب بعودة التركية إلى النادي الإقليمي المناهض لإيران في الشرق العربي.

تركيا التي أيقن الاتحاد الأوربي والناتو أنها تملك بعضاً من قوة اسبارطة وسياسة أثينا، في وجه العدو الروسي المتربص بالقارة العجوز.

هي تركيا نفسها التي لها تاريخ قرون من العداء مع روسيا، تمكنت أن تكون خيمة لجمع الخصوم المتطاحنين شمالها وعلى ضفاف بحرها الأسود.

وبالعودة للفراغات في سورية، ورغبة تركيا بإنشاء منطقتها الآمنة (أو الأمنية) وعودة الأمل ليرى مشروعها النور، الذي رفضه العالم أجمع سابقاً.

لم تعترض موسكو (ولن تعترض على توسيع جغرافي للمجال الحيوي التركي يحقق جملة أهداف أمنية أولاً، وتخفيف عبء اللجوء السوري ثانياً.

ولن تعترض الولايات المتحدة والعرب والغرب على ملء الأتراك للفراغ الناجم، لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، إذا لم تملؤه تركيا فستملؤه إيران حتماً.

لذلك لم يسجل أحد أي اعتراض رسمي وواضح على عملية (أو عمليات) تركية مرتقبة في سورية سوى إيران لأنها المقصودة بذلك طبعاً.

يبدو أن الرياح التركية قد هبت الآن، ولن تفرط القيادة التركية باستثمارها، وما نأمله نحن كشعب سوري عانى ويلات الحرب والنزوح واللجوء، هو نقطة التقاء مصالحنا مع المصالح التركية، بتوسيع الأراضي الخارجة عن سيطرة نظام الأسد وحليفه الإيراني، الواقعة تحت سيطرة أداته القسدية الإرهابية.

إن ضم مزيد من الأراضي والسكان، وتوسيع رقعة الأراضي المحررة، تفيد بتأمين استقرار نسبي وحل مؤقت لعودة بعض نازحي تلك المناطق أو من يرغب من المهجرين خارج الأرض السورية، ويقوي من فرصة التوصل لحل سياسي بإعدام مسار أستانة بالتأكيد، وتعديل بعض من موازين القوى وانتظار لحظة ليست ببعيدة، لحل سياسي شامل يكون عنوانه سورية بدون إيران وبدون أسد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني