لن يتصاعد دخان أبيض من فيينا.. ماذا بعد؟
كانت البهجة والشعور بالنصر بفوز الرئيس بايدن على خصمه الرئيس ترامب عند إيران أكبر منها عند الأمريكان الذين صوتوا للرئيس لاعتبارات كثيرة ومنطقية، منها أن الرئيس الجديد هو الحقبة الثالثة للعهد الأوبامي بحكم موقعه في حقبة أوباما وكونه لم يخف حنقه على سياسات ترامب في حملته الانتخابية، ووعد بتغييرها، بل بالانقلاب عليها، وأهمها خروج أمريكا من خطة العمل الشاملة والمشتركة التي تم الوصول لها صيف 2015 وتعرف بالاتفاق النووي.
في حملة بايدن الانتخابية، دعا لعودة أمريكا إلى الاتفاق الذي انسحبت منه، وفهم الإيرانيون الرسالة، وفاز الرئيس وبدأت ملامح التغيير في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة تتوضّح وتصب في محصلة فهم منها الإيرانيون أن الإدارة الجديدة تريد العودة للاتفاق القديم، وتخفيف وجودها واهتمامها بالشرق الأوسط بغية التفرغ للخصمين التقليديين الصين وروسيا.
في الحقيقة انقضت الجولات الستة من المحادثات وتم الاتفاق على 80% أو أكثر من شروط عودة إحياء الاتفاق وكانت النسبة الباقية هي الصعبة والمعقدة والتي لن يستطيع الطرفان تقديم تنازلات مؤلمة فيها.
توقفت المفاوضات لثلاثة أشهر، واستؤنفت في فيينا في 29 نوفمبر، وبدا أن لا دخان أبيض تصاعد أو سيتصاعد من غرف الاجتماعات، بل دخان أسود خيم على أوربة والشرق الأوسط. كانت الهوة كبيرة في الموقفين بحيث يصعب تجسيرها.
الولايات المتحدة تريد في الملف النووي إتلاف كل اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم والمواد الأخرى التي تسهم في صنع القنبلة النووية وإتلاف أجهزة الطرد المركزي الحديثة التي تخصب فوق نسبة 3.67 أي أقل من 4%، حيث تشير التقديرات إلى أن إيران تستطيع الآن صناعة ثلاث قنابل نووية. وإذا استمرت على نفس الوتيرة باستعمال أجهزة طرد مركزي متطورة، فبإمكانها صناعة قنبلة كل ثلاثة أشهر، ومن الممكن أكثر من هذا.
لم تقبل إيران طرح الولايات المتحدة وأوربة لمناقشة ملفها بتطوير الأسلحة التقليدية الصاروخية والطيران المسير، واعتبرت ذلك خارج موضوع الاتفاق النووي، ولا تقبل مجرد طرحه على الطاولة وليس الخوض فيه.
كما أنها لم تسمح بمناقشة ملف ما يسمى تمددها الإقليمي وتهديد الاستقرار في دول الجوار.
شروط إيران للعودة للاتفاق
كانت الجولة السابعة جولة مختلفة على كل الصعد، فإيران الآن يحكمها رئيس آت من عباءة المرشد، ومتهم بجرائم حرب ضد شعبه، ومدرج على لوائح العقوبات الأمريكية وينتمي للجيل الثاني من الثورة الإيرانية، الجيل الذي تخرج من جامعة الإمام الصادق ورفد أجهزة الدولة ومؤسساتها بالخبرات البيروقراطية لإحكام السيطرة على جميع المفاصل الهامة، لم يعد جواد ظريف المتعلم في الغرب، رأس دبلوماسيتها أو حسب التصنيف الإيراني من القيادات المعتدلة.
اليوم كل إيران تنقسم بين حرس ثوري عسكري وحرس ثوري مدني ومنهم وزير الخارجية ورئيس وفد التفاوض الإيراني.
بدا واضحاً الشروط الإيرانية لعودة إيران إلى الاتفاق (هكذا تسمية العودة للاتفاق وليس التفاوض على اتفاق جديد).
في ختام الجولة السابعة وقبل استئناف الثامنة سلم الوفد الإيراني مسودة الشروط الإيرانية (ورجا قراءتها بهدوء وتمعن) لأنها نهائية قبل عودة الوفود إلى عواصمها ومقابلة قياداتها.
إيران لم تنسحب من الاتفاق، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، ولقبول إيران بعودة الولايات المتحدة عليها تنفيذ ما يلي:
1- رفع كامل العقوبات المفروضة على إيران مهما كان نوعها (عدد العقوبات يقارب الـ 1500 عقوبة)، رفعها كاملة ودفعة واحدة (من المعروف أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران تحت عناوين مختلفة منها المتعلق بالبرنامج النووي ومنها تحت مسمى مكافحة الإرهاب ومنها تشمل انتهاك حرية التعبير والاعتقاد وحقوق الإنسان… إلخ).
2- تعهد الولايات المتحدة كتابياً أن هذا الاتفاق إذا ما تم الرجوع إليه لن يستطيع أي رئيس أمريكي قادم الانسحاب منه، خاصة أنه من المتوقع في عام 2024 عودة ترامب أو بومبيو أو أحد صقور الحزب الجمهوري والانسحاب من الاتفاق.
بمعنى أن تريد إيران نصاً تشريعياً من الكونغرس الأمريكي بذلك وهذا يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء على الأقل وهو ليس متعذراً بل مستحيلاً. كما أن عقبات دستورية كثيرة تعترضه، ولن توافق الولايات المتحدة على قذف الكرة إلى ملعبها والدخول بخلافات وصراعات ببن الحزبين.
3- بعد تحقيق الشرطين السابقين لا تعود إيران إلى الاتفاق النووي بمعنى عودة المفتشين الدوليين وتطبيق التزاماتها الأخرى بل تراقب المراحل التي قطعتها الولايات المتحدة بتنفيذ الشرطين السابقين ومدى جديتها، وعند تأكد إيران من التزام الولايات المتحدة بذلك تبدأ بالعودة تدريجياً لبنود الاتفاق النووي.
ماذا بعد فشل الجولة السابعة؟
طبعاً انتهت الجولة السابعة بفشل ذريع ويمكن رصد ما تم قبل بدء الجولة الثامنة يوم الخميس في التاسع من نوفمبر.
1- رفضت الكتلة الأوربية المتمثلة بألمانيا وفرنسا وبريطانية المقترحات الإيرانية واعتبرتها انقلاباً على كل التفاهمات المبدئية التي تم الوصول لها بالجولات السابقة الستة، وقالت وزيرة الخارجية البريطانية إن الجولة الثامنة هي الفرصة الأخيرة أمام إيران. لا يمكن أن يطول أمد المفاوضات العبثية فيما إيران تستمر بعمليات التخصيب المرتفعة وبسرعة كبيرة.
ويعتبر الموقف الأوربي خروجاً عن مواقفهم السابقة التي كانت مناهضة للولايات المتحدة بخروجها من الاتفاق القديم وليست راضية عن العقوبات الشديدة التي فرضتها إدارة ترامب، انتقل الموقف الأوربي الآن من شبه الحياد إلى الوقوف مع الولايات المتحدة.
2- الحاضر الغائب في اجتماعات فيينا هو إسرائيل، والتي لا تخفي قولها: إن الاتفاق الجديد فيما اذا تم لا يعنيها، وهي غير مشاركة به ولن تسمح بامتلاك إيران لتقنية صنع قنابل نووية وتمارس أقوالها أفعالاً على الأرض بالحرب الرمادية القائمة الآن مع إيران سيبرانيا وإلكترونياً وعسكرياً. وقد أوفدت في فترة توقف المفاوضات إلى واشنطن وزير دفاعها ورئيس استخباراتها لإمداد الأمريكان بمعلومات جديدة عن البرنامج النووي ومدى خطورته ومحاولة إقناع الولايات المتحدة بضربة عسكرية مشتركة تطيح بكل ذلك البرنامج.
3- يرى أغلب المراقبين أن موقف الصين وروسيا الصامت، هو تأييد ضمني للموقف الإيراني الراغب بعدم الوصول لاتفاق يجعل من الانخراط الأمريكي واستنزافه هدفاً رئيسياً لهما، إذ كانت تخشى تلك الدولتان الوصول لاتفاق يحرر الولايات المتحدة من قضايا الشرق الأوسط ويحقق لها ما تصبو إليه من التفرغ إلى الجبهات الساخنة في تايوان وأوكرانيا.
ما هو المتوقع في المستقبل القريب
طبعاً، في ظل تحول إيران إلى خلافة شيعية عسكرية دينية، عابرة للحدود، لا تعترف بالحدود الوطنية وتعادي النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وفي ظل وقوفها الآن على العتبة النووية وامتلاكها للمعارف والتقنيات لصناعة القنبلة، وفي ظل تعرضها لعقوبات استمرت منذ نشأتها 1979، وزادت بعد اكتشاف برنامجها النووي في 2003 وتمكنت من الوصول لما وصلت إليه الآن، وباعتبار أن إيران اعتادت على العقوبات وكيفية التعامل معها والتحايل عليها، فإنها لن تضحي بكل ذلك وتنزع تقنياتها النووية، التي تشكّل ضمانة لئلا يفكر أحد بغزوها وإسقاط نظامها.
يمكن لنا استناداً لما ذكرته وأمور أخرى يضيق المقام بتعدادها، فإنه ليس من المتوقع نجاح المفاوضات في فيينا بل المتوقع فشلها الذريع، وعندها نكون أمام الاحتمالات الثلاثة التالية:
1- قبول العالم لإيران نووية كما قبل كوريا الشمالية سابقاً، واستمرار فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية عليها، وسيتحقق الردع الإقليمي لها بامتلاك الدول الثلاث المجاورة لها تلك القنبلة أو العتبة النووية وهي المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، كما فعلت اليابان وكوريا الجنوبية عند امتلاك كوريا الشمالية للقنبلة.
2- قيام الولايات المتحدة وإسرائيل بضربات عسكرية نوعية تستهدف المفاعلات كلها التي فوق الأرض وفي باطنها مع تدمير كامل للبرنامج النووي، مع توقع رد إيراني محدود لا يتجاوز الرد الذي حدث عند قتل قاسم سليماني أو فخري زادة.
3- إذا كان الرد الإيراني بمواجهة شاملة (كما تهدد إيران دائماً) بتعطيل الملاحة بمضيقي هرمز وباب المندب واستهداف المملكة العربية السعودية وإسرائيل عبر أذرعها المنتشرة في المنطقة، إذا كان تقدير الموقف يميل لهذا الاتجاه فليس مستبعداً أن تقوم الولايات المتحدة بالعمل العسكري عبر الناتو، وعندها لن يكتفي الناتو بتعطيل البرنامج النووي فقط بل بإسقاط النظام الإيراني برمته، خاصة أن المعارضة الشعبية الداخلية له تشمل كل الفئات بما فيها القومية الفارسية.
كل الاحتمالات مفتوحة، لكن الثابت الأكيد أن إيران لن تتنازل عما أنجزته نووياً بسبب ضعف وعدم وضوح السياسة الغربية والأمريكية، خاصة منذ اكتشاف البرنامج النووي في بدايات هذا القرن والذي كان من الممكن إجهاضه عندما كان حملاً كاذباً، تحول لحمل حقيقي أنجب طفلاً وأصبح يافعاً بل شاباً الآن.
تحليل دقيق ينم عن رؤيا ثاقبه
حياك الله دكتور باسل