fbpx

في مفهوم الحوار وضرورته

0 193

الحديث عن المفاهيم هو بجوهره حديث عن المعرفة، عن الفكر، عن العقل الإنساني، عن الفعل الإنساني، عن الحياة الإنسانية بحركتها وتطورها وأشكالها وألوانها، وحديث كهذا، حديث واسع وشامل، وعلى درجة من الأهمية، ويتخذ أهميته ليس من كونه معرفي إنساني فحسب، بل لأن شرط فاعلية أي مفهوم هو، إما أن يكون منتجاً في نفس الواقع، أو معاداً إنتاجه فيه، وإذا لم ين كذلك، إنه سيبقى عبارة عن صورة ساكنة منقولة من خارج الواقع لا تحاكيه ولا تخاطبه، وبالتالي لا يمكن أن تفعل فيه أو تساعد في حركته أو نقله أو تطويره.

والمفاهيم المتعلقة بالعلوم الإنسانية تتميز عن غيرها من المفاهيم، من حيث شموليتها وتجادلها وتداخلها ومقاربتها للحقيقة. لذلك قال دبيليو بي غيلي “إن هناك درجة من عدم الدقة التي لا يمكن التخلص منها في المفاهيم المصاغة اجتماعياً وتاريخياً” وهيفي الوقت ذاته تشكل أدوات معرفية، تستخدم من أجل تطور وتقدم البشرية، وتتطور وتتقدم بتطورها وتقدمها لأنها “جزء من الحقيقة المفتش عنها”. كما قال سرغيه إيزنشتاين”.. كما أن شموليتها لا تنفي خصوصيتها، بل على العكس تؤكدها عبر علاقة الخاص بالعام وجدل هذه العلاقة، والعام والخاص في تنوعاتهما تبايناتهما واختلافاتهما المتعددة، المرتكزة على وحدة التاريخ الإنساني، وعلى كونية العقل المؤمنة بالتقدم والتطور. ولكنها تتنافى مع المطلق والقدسية لأي عمل ذهني معرفي فكري كونه نتاج إنساني محكوم في جدلية هذه المفاهيم المتقابلة المتعارضة المتناقضة، ومحكوم في المعطيات الواقعية التي أنتجته.

ولعل علاقة المادة بالفكر هي أساس هذا الجدل. فالتمييز بين المادة والشكل عند أرسطو: “المادة تجريد محض واختراع من الفكر” حسب وصف “إنجلز”: “وهناك المادة والكائن والطبيعة والفيزيقي” وهناك الوعي والروح والفكر والإحساس في الجهة المقابلة المقولة الأولى عرفت بالمقولة الثانية كما قال لينين.

وكذلك العلاقة بين الوجود والعدم، الوجود الخالص هو العدم الخالص عند هيغل “كل تعيين هو نفي” وإن كل نفي هو إثبات سيبنوزا.

لذلك فإن العلاقة تستوجب الطرفين المتقابلين المتعارضين فالإيجاب يستوجب السلب ولا يقوم إلا به، ومفهوم الحوار في بعده المعرفي الفلسفي يرتكز على هذا التجادل والتقابل والتجاوب بين مجمل هذه المفاهيم في شقيها “مقولات الصف المادي، ومقولات الصف الروحي والفكري” كما وصفها الياس مرقص. آخذين في الاعتبار الدور الهام الذي يقوم به الحد الوسط بين هذه المقولات وهو الشغل والعمل والإنتاج، ودون إهمال أيضاً لدور العقل والعقالة في هذه العلاقة المقعدة والمتشابكة، والحوار واحد في المفاهيم الإنسانية وفي العديد من أوجهه جدل. حسب تعريف جميل صليبا الذي يقول “حاوره محاورةً حواراً جادله” والحوار إذا كان تجاوباً بين الأضداد “كالمجرد والمشخص، والمعقول والمحسوس، والحب والواجب” سي جدلاً، كما أن الجدل في إحدى أوجهه حوار “جادله مجادلة ناقشه وخاصمه.

ولعل مقاربة المفاهيم الإنسانية من الحقيقة أو وجود درجة من عدم الدقة، وصعوبة الإحاطة بكافة المعطيات التي ساهمت في بلورة هذا المفهوم أو ذاك من هذه المفاهيم، مرده إلى أنها معطى حياتي إنساني نمت في إطار السيرورة الإنسانية، وولدت في سياق تطورها القائم على جدل متعدد الوجوه والأشكال، وحصيلة لنشاط إنساني مختلف ومتباين ومتضاد، وتتحكم في ولادته ودلالاته جملة من الظروف الموضوعية والذاتية هذا من جهة ثانية إن الحقيقة الإنسانية التي يطمح إليها الإنسان والتي يبحث عنها، ويناضل من أجلها، هي متحركة متغيرة ونسبية، وهي “مبدأ وهدف ومسعى” كما وصفها “جاد الكريم الجباعي” لذلك ستبقى فوق كل بحث وباحث، والغاية التي ينشدها الإنسان ويعمل من أجل الوصول إليها عن طريق المعرفة بكل ضروبها واشكالها وأوجهها.

والمعرفة بما هي مفهوم إنساني أيضاً فهي نتاج لتعدد العقول واختلافاتها وتعدد الحاجات الإنسانية وتعارضاتها، على أرضية الوحدة والتضاد.

وانطلاقاً مما تقدم يمكننا القول بأن الحوار شرط أساسي للسيرورة وفاعل في حركتها، وعامل مركزي في أي تقدم وتطور، وإحدى الطرق المركزية والأساسية في الكشف عن الحقيقة، وكما وصفه الدكتور مصطفى دندشلي: “الحوار ظاهرة اجتماعية وإنسانية بمعنى أنها تختص بالإنسان وتميزه عما عداه، وتتنوع أنماطها وأوجهها بقدر ما تتنوع وتعدد نشاطات الإنسان في المجتمع”.

مستويات الحوار:

في البدء لابد من الإشارة أنه من الصعوبة بمكان الإحاطة بكافة مستويات الحوار بسبب تجادله مع الحياة بكل تنوعاتها، لذلك سأتناول بعض هذه المستويات التي أعتقد بأنها أساسية ومهمة.

المستوى المعرفي:

أشرت في المقدمة بإيجاز إلى أساسيات البعد الفلسفي المعرفي الإنسان لهذا المفهوم، وهنا أعود إلى اللغة بماهي وعاء فكري معرفي إنساني، والحوار في هذا المجال يقوم على ركيزتين الأنا والآخر، “التحاور والتجاوب” مراجعة النطق والكلام وعلى لأرضية التجاوب المراجعة، تتحدد غاية الحوار، وهي توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم، وفي هذا التجاوب المراجعة توضيح للمعاني وإغناء للمفاهيم، يفضيان إلى تقدم الفكر، وتقدم الفكر شرط أي تقدم آخر.

والحوار بهذا المعنى هو عتبة التطور والتقدم، التحديث أو الحداثة عتبة الانتقال مما ن حن فيه، من واقع التخلف إلى واقع الحداثة، من واقع التلقي والانفعال إلى واقع الإبداع والفعل، من واقع الاستهلاك إلى واقع الإنتاج، من الجهل إلى العقل والعقالة والعقلانية، إن تحقيق ذلك يفرض مستويات من الحوار، وهذه المستويات يجب أن تشمل أوجه الحياة كافة قديمها وحاضرها، ومستقبلها، وخاصة بالنسبة لنا كشعب سوري وكشعوب عربية، فالحوار في مستوياته العليا معني في إنتاج المعرفة الراقية في إنتاج منظومة مفاهيمية تنطلق من واقعنا وتتجادل مع الآخر، تتجادل مع كافة ضروب المعرفة الإنسانية، وإذا ما تحقق لنا ذلك ندخل العالم الحديث من موقع حديث ومتميز، والتميز ليس غاية بحد ذاته، بل هو نابع من الاختلاف بين واقعنا ومتطلباته وواقع الآخرين، بين همومنا وهموم الآخرين، بين قضايانا وقضايا الآخرين.

وبذلك ندخل العلام الحديث بهوية معرفية علمية ونشكل امتداداً فعلياً لتاريخنا الحضاري، وهذه المسؤولية تقع على عاتق الشريحة المثقفة والمفترض أن تكون منتجة للفكر، منتجة للمعرفة، معنية في إنتاج هذه المنظومة المفاهيمية التي تعبر عن وجهنا الحقيقي، ندخل العالم بهوية قديمة ـ جديدة، نربط بين التراث والأصالة رابطاً موضوعياً معرفياً ندخل العالم الحديث من باب الحداثة، لا نقاربه من باب الحفاظ على الأصالة أو التراث، ولا ندخل فيه بأقنعة تخفي حقيقتنا وتحولنا إلى دمى في مسرح الدمى، نتقاتل بأسلحة الآخرين، ماضويين كانوا أو مقنعين بكفر الحداثة وحداثاويين، تحت غطاء العلمانية والعقلانية، على أرضية التقاتل مع الأصولية والتراث، وتحوير المفاهيم من مفاهيم متكاملة متجادلة إلى مفاهيم متقاتلة.

والفرق شاسع بين الاثنين، هنا تتجلى مسؤولية مثقفينا وواجبهم بالسعي، بكل مسؤولية وحرية وإرادة إلى اكتساب المعرفة ونشرها ووعي الواقع وتعميمه.. والأخذ في منهج الحوار مع الآخر والذي يشكل شرط الوصول إلى المعرفة، ومنهج النقد ونقد النق، ذلك هو عمل المثقف وحرفته، متحرراً من كل تحريم أو تقييد للعقل للفكر سوى احترام الآخر وحريته ووجوده الذاتي والمستقل، وبما يخدم الشعب والوطن والأمة والإنسانية.

فالمثقف الذي يرهن نفسه لنص أو لحاكم، أو لنوازع شخصية ذاتية ليس جديراً بأن يحمل رسالة الثقافة والمعرفة، لأن هذه الرسالة إنسانية أولاً وأخراً، وحتى نحقق إنسانيتنا لابد أن نتحرر من كافة القيود التي تمنعنا من الدخول في غياهب المجهول وتعمل على تفسيره على أرضية النقد البناء الجريء، وعن طريق الحوار، وضمن إطار معرفي متجدد، في ظل تجدد الحياة وتطورها، آخذين في الاعتبار الظروف المكانية والزمانية، معتمدين على العق والعقلانية في فهم الواقع وتفسيره وتعميمه.

المستوى السياسي:

لقد عكست تجربتنا السياسة في المرحلة السابقة حالة التخلق التي تعيشها شعوبنا العربية قاطبة كما عكست حالة التخلق لدى كل شعب من هذه الشعوب، وبدلاً من ان تكون الحركة السياسية في بلدنا حالة متطورة وانتقالية عما سبقها من الحالات البنيوية للمجتمع من طائفية، ومذهبية وعشائرية، ومناطقية، وغيرها إلى حالة وطنية اجتماعية قومية، إنسانية بقيت هذه التجربة رهينة هذه البنى بشكل أو بآخر، ومن الأسباب الأساسية التي أدت إلى انكفاء العقل السياسي بشكل عام وحركة التحرر الوطني والقومي العربية بشكل خاص هي عملية الفصل بين الثقافة والسياسة، وغياب التجادل المعرفي والقفز فوق الواقع أو تغييبه، إما بالعودة إلى الماضي أو الانفعال بالفكر الحديث الخارجي وتشكيل استطالة له بحيث استطاع هذا الفكر بكل أشكاله وألوانه أن يتغلغل في كل أنسجة الجسم الثقافي العربي وتحريكها باتجاه التماهي معه، وفي كلتا الحالتين استبعد العقل ـ الفكر من مضامينه الحوارية الجدلية النقدية الإبداعية، تحول فكر الأحزاب والقوى السياسية إلى شعارات دون مضامين، وأصبحت عبارة عن طوائف سياسية متقوقعة ومنغلقة على ذاتها، أخذت بالفكر الشمولي واحتكار الحقيقة وادعائها، بتمثيل الشعب أو الطبقة، ونفي الآخر، أياً كان هذا الآخر، والأخذ بالمركزية واستبعاد الديمقراطية تكريس عبادة الفرد إلخ… هذا وغيره أدى إلى حالة من الارتداد والنكوص والانكفاء وإعادة سلطة العائلة الطائفة وسيادة القمع والقهر وسحب السياسة من التداول، واستبعاد المفاهيم، الأمة الواحدة، الوطن الواحد، الحرية، العدالة، أو تحويلها إلى شعارات فضفاضة تستخدم من أجل قمع الآخر والحفاظ على مصالح شخصية ضيقة، والدخول في أزمة خانقة متعددة الأوجه وعلى كافة الصعد.

إننا بلا شك أمام مرحلة تاريخية جديدة تفرض علينا مقاربة أخرى وعقلاً مغايراً في النظر إلى الذات والواقع الممكن والمستقبل، وإيجاد هذه العلاقة الجدلية بين الثقافة والسياسة، والانطلاق في الحوار الموضوعي بين الفعاليات الثقافية والسياسية التي تحسست هذه المخاطر والتي لم تستسلم لهذا الواقع، والتي دفعت ثمناً باهضاً للحفاظ على ذاتها الوطنية القومية، رغم كل المصاعب التي اعترضت طريقها، والحوار هنا يجب أن ينطلق من تسليط النقد على تجاربنا السابقة، نقد مفتوح وعام وشامل وعلى كافة المستويات الفكرية والتنظيمية والسياسية، والممارسة، والتوجه إلى المجتمع بدلاً من السلطة والعمل على انتزاع حقنا في التعبير وفي تقرير مصلحة الوطن، وتشكيل قوة مؤثرة تفرض على السلطة الاستجابة إلى الحوار وتحقيق الحياة الديمقراطية في بلدنا والتي يجب أن نساهم في صياغتها وتقرير شكلها.

المستوى الاجتماعي:

إن شرط الوجود الاجتماعي لا يتحقق إلا بوجود الآخر وإن الإنسان لا يصبح إنساناً أون بصيغة أخرى لا يحقق ذاته الإنسانية ولا ينتج معرفة إلا بالالتقاء والحوار بالإنسان الآخر، والتفاعل الخلاق مع، فاحتياج فكر الإنسان وعقله إلى فكر الإنسان الآخر وعقله وتجاربه وخبراته هو شرط أساسي للانتقال من حيز الإمكانية إلى حيز الفعل والوجود، إلى حيز المجتمع والجوار والتفاهم. الحوار المتكافئ هو انفتاح العقل بآرائه ونظرته إلى فكر الغير وعقله. إن ذلك شرط التكون الاجتماعي الإنساني، شرط الإنتاج الخلاق، شرط التطور والتقدم الاجتماعي: وأي تلون اجتماعي إذا ما قام على أرضية الحوار يشكل مصدر عني للمعرفة. أم إذا ما قام على أرضية التعصب فهو مصدر هلاك. فالتعصب جهل وتقييد للفكر وتخدير للعقل. ومنافٍ لحقيقة الإنسان وعقله لأن الحرية ضد التعصب وهي ماهية العقل. وهي تنفية القدسية كما تنفي الصنمية والوهم، إنها ماهية العقل التقدمي المبدع. إن التمذهب بكل أشكاله السياسية والمعتقدية وبناه الاجتماعية المتعصبة ليس إلا نتيجة لمحاصرة العقل-الإنسان، الفكر الإنساني وقفصه، الذي كان هو نفسه حصيلة لذلك أيضاً. إن الحوار لا يمكن أن يتم في المجتمع ويأخذ مداه ويصبح منتجاً ويبني مجتمعاً من طراز آخر تحت أي اسم إلا بإطلاق سراح العقل، بالسماح له بالتجاوز والتجادل، بإلغاء مفهوم القدسية عن الفكر الذي اتسعت دائرته في مجتمعنا ليشمل بالإضافة إلى الكتب السماوية أقوال رجل الدين ورئيس الحزب_ ورئيس الدولة _ والمقربين منهم ورب العائلة… بحيث أصبح الإنسان في مجتمعنا محاطاً بمجموعة من المقدسات التي لا حصر لها. وكلها تشكل عوائق أمام حرية العقل وحرية الفكر وتجادله وتجاوبه واعتبار أن كل ما في المجتمع وما يحيط بالإنسان إنما يعني أي إنسان دون تمييز وكل ذلك تحت سقف الوطن.

المستوى الفردي:

يعيش الإنسان في مجتمعنا حالة من الاستلاب والتغرب والقهر التراتبي الذي يبدأ من الأسرة ليصل إلى رأس الدولة والكل مقهور ومستلب. في إطار من الاستبداد المتشابك والمتبادل أيضاً بحيث أصبح أسلوب العنف والعنف المضاد هو الأسلوب الوحيد تقريباً أو السائد في مجتمعنا وعلى كل الصعد السياسية والتربوية والاجتماعية وأصبح جزءاً من تكون إنسانياً. والأسلوب السياسي في علاقته مع الآخر. فهو دائماً يملك الحقيقة، وأي نقد له يعتبر جريمة شنعاء لا تغتفر. والتصدي لهذا النقد شرط وواجب يمليه عليه الدفاع عن ذاته وعن كرامته الشخصية لذلك نجد التماهي بين الفرد والإنسان وبين عقله أو ما يفكر به أي التماهي بينه وبين الحقيقة أو ما يعتقد الحقيقة أو ما يعتقد حقيقة لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها لأنها جزء من ذاته. والفكر هنا ليس تجاوباً أو حواراً بل فرضاً بأشكال متعددة من القوة، وعلى الأضعف الانصياع إلى الأقوى. وهكذا، بدءاً من أصغر خلية اجتماعية إلى أكبر مؤسسة، اللغة السائدة والمستخدمة هي لغة الفوة، لغة العنف، إن مجتمعاً ينظر إلى الإنسان من هذا الموقع ويتربى الإنسان في كنفه لا يمكن أن يكون منتجاً أو مبدعاً لأن الإبداع والإنتاج يحتاج إلى نظرة أخرى يحتاج إلى فهم آخر للإنسان ولحقيقة وجوده.

إن مأثرة السفسطائيين أنهم هم أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وأول منم بحث في الإنسان من حيث موقعه في الكون وطريقة تكوينه، وطبيعة قواه، ووسائل ارتقائه، وعلاقته. بالآلهة والمجتمع والدولة. وهم من قال: “أن الإنسان يبدع قيمه وعالمه الإنساني ومثله العليا ونفسه” وإنه معيار الحقيقة، ولذا فهي حقيقة إنسانية.

إن أي عملية حوار يجب أن تنطلق من الإنسان الفرد، من الذات الإنسانية أولاً، قبل أي ذات أخرى، حزبية، قومية، طبقية…. إلخ لأن الذات الحقيقية هي الذات الإنسانية وهي قاعدة أي بناء اجتماعي، وهي روح وعقل كما وصفها إلياس مرقص. عقل فردي اجتماعي إنساني كوني، عقل مكوِّن مكوَّن. عقل يقوم على التعدد والاختلاف والوحدة، عقل يخاطب الإنسان الآخر ويخاطب الإنسانية القائمة على تعدد العقول والحاجات وتبايناتها وتناقضاتها في إطار علاقة جدلية بين الأنا والآخر، الآخر المختلف عقلياً فكرياً اجتماعياً طبقياً قومياً.. إلخ، والاختلاف متعدد الوجوه والأشكال والمستويات.

ولكي يكون الحوار مثمراً لابد من أن تقوم العلاقة مع الآخر على التكافؤ في كافة المستويات الاجتماعية والنفسية والسياسية وغيرها واعتبار الإنسان قيمة اجتماعية وذاتاً حرة ومختلفة وهذه العلاقة شرط الوجود الإنساني وشرط تطوره. وامتلاك الإنسان لعالمه، والتخلص من كافة أشكال القهر والاستلاب والغربة، وهذا لن يتم إلا بالإصغاء إلى الآخر وبفهم آرائه كما يراها ومعرفة مضامين الحوار ومصطلحاته ومفاهيمه المتداولة، وتحديد الخصائص التي تعطي للمنطق معنى وغاية وهدفاً واستيعاب الواقع والظروف التي يتم فيها الحوار.

مستلزمات الحوار:

إن أولى مستلزمات الحوار هي الحرية، لأن الحرية هي ماهية العقل كما وصفها ابن رشد وبعده “هيجل” وهي نزوع إنساني، وهي الفضاء الذي يتيح للإنسان أن يعبر عن ذاته، عن وجوده، عن آرائه، عن حقه في الحياة الحرة الكريمة، وهي ملازمة لحياة الإنسان بكل أوجهها المادية والمعنوية، وهي بالتالي غاية ووسيلة، غاية بعمل الإنسان إلى تحقيق أكبر قدر منها لأنه في نيلها يحقق ذاته الإنسانية، لأنه لا يمكن أن يحقق ذاته بدون التمتع بكامل حريته، والإنسان هنا بوصفه كائناً اجتماعياً، وهذا الشرط محكوم في جدلية الأنا والآخر المختلف، وأبعاد الحرية تنطلق من الذات الفردي، إلى الذات الاجتماعي، بكافة اشكاله وألوانه، وصولاً إلى الذات الإنسانية التي تشكل منطلقاً وغاية بنفس الوقت، فاحترام الذات الإنسانية الفردية وحريتها هي التي تؤسس إلى الغاية القصوى، إلى مجتمع إنساني خال من كافة أشكال القهر والاستبداد والاستلاب وهي نقطة البداية في فهم الحرية كنزوع إنساني، والمفهوم المستخدم للتدليل على الحرية أو الحريات العامة هو مفهم الديمقراطية.

العقلانية والعلمانية: هما من شروط الحوار، العقلانية بمعنى تحكيم العقل، والعقل في تحرره، العقل الحر، المرتكز إلى العلم الحديث إلى المدنية الحديثة، واقتباسه من عقليتها، إن كان في الحاضر، أو التطلع إلى المستقبل، أو بفهم الماضي كما قال “قسطنطين زريق”: “ما هو العلم الذي يفسر لنا الماضي”.

فالعقلانية المتحررة من الأفكار المسبقة، أو الفلسفات المفروضة، والمنطلقة من الواقع هي التي تستنطق التاريخ، وتحاوره من أجل إنتاج أفكار جديدة، أو معان جديدة، أو إغناء المعاني، أو إعطاء دلالات لمفاهيم معرفية يحتمها الواقع المعاين والعقلانية والحوار مفهومان متداخلان متجادلان، كل منهما يستلزم الآخر فالعقلانية لا تتقدم وتتطور إلا بالحوار، والحوار لا يحقق غايته إلا بالعقلانية.

الغائية: ليس هناك من حوار بدون غاية أو هدف، وإلا تحول إلى جدل بيزنطي كما يقال، أو حوار طرشان كما يردد عندنا، أي دون جدوى أو دون فائدة، وهدف الحوار هو الذي يحدد شكله وطريقته وطبيعة المتحاورين ومستوى الحوار، وإذا كانت الغاية القصوى للحوار، غاية معرفية إنسانية فإنها في ذات الوقت متعددة الوجوه والأشكال وفي مجملها تسعى إلى تحقيق هدف ما أو غاية ما، حتى يكون الحوار مثمراً ويعود بالنفع على القائمين فيه، وفاعليتها في إطار العمل العام، فكري سياسي، اجتماعي، اقتصادي.

المسؤولية: إن الإحساس بالمسؤولية هو الذي يعطي للحوار بعده الفاعل، واعتماد الأسلوب الجدي والمعايير الجدية، والبعد عن المجاملة والنفاق والفوقية والتعالي، والمسؤولية في الحوار نابعة من إحساس المحاور بمسؤولية حيال نفسه ومجتمعه وقضاياه الاجتماعية والوطنية والقومية، وقضايا العدالة والمساواة والاستعداد للعمل من أجل إحقاق الحق ومقاومة الباطل.. إلخ.

أخلاقيات الحوار:

ليس هناك من عمل إنساني خارج إطار المسألة القيمية، بل لكل عمل قيمه الخاصة به، والناظمة له، وقد تضمنت مستلزمات الحوار القسم الأكبر من هذه الأخلاقيات، من حيث اعتبار الإنسان قيمة اجتماعية يجب احترامه، واحترام رأيه، ولعل هذه الاحترام ينطلق من احترام الإنسان لذاته أولاً، لأن توجه الإنسان إلى ذاته بالثقة والاحترام هو بوابة الارتقاء الحضاري، وشروط الولوج في سلم الحضارة الإنسانية الحقة، وهو بذلك يفرض     احترامه على الآخرين، وينسج شكلاً من العلاقة مع الآخر قوامها الاحترام المتبادل بحيث يفسح المجال لإيجاد المناخ الديمقراطي الذي يعطي للحوار بعده الإنساني والمعرفي.

فالحوار في مثل هذا المناخ يقوم على التفاعل مع الآخر، ويصبح حواراً حقيقياً وفعلياً، فالأنا تتغير معرفياً وفكرياً، في الوقت الذي يتغير فيه الآخر، ويتكون الاستعداد الفكري والنفسي لكي تقنع وتقتنع، وهذا يرتكز على حسن الاستماع قبل حسن الحديث، وحسن المراجعة، والصدق في التعامل، والاقتصار على المفيد من الحديث، والبعد عن الإسفاف والعصبية أو العصابية، والتقيد بالموضوع المطروح للتحاور والنقاش، وحسن التجاوب، والسعي من أجل المعرفة، بحيث تكون المعرفة هي الغاية والإغناء هو الهدف، من هنا تنطلق أساسيات التغيير للذات وللمجتمع، ونضع قدمنا على بداية الطريق الصحيحة، طريق التقدم والتطور والحداثة.

ضرورة الحوار وموجباته:

الحوار بما هو مفهوم إنساني جدلي فكري، ضرورة تقتضيها علمية السيرورة ذاتها لأنه ليس هناك من سيرورة خارج إطار هذا الجدل.. والسيرورة لا تسير بخطى متوازنة، بل هي عبارة عن تطور وتقدم وانتقال وتحول، من محطة إلى محطة على أرضية التراكم والتحول، وكل من هذه المحطات لها سماتها وحقائقها، وتوضعاتها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية. ولهما مفاهيمهما الجديدة التي تعبر من خلالها عن ذاتها، عن خصوصيتها عما يميزها عن غيرها من المحطات الأخرى، وفي الوقت ذاته ينعكس هذا الانتقال على كافة المفاهيم الأخرى ويغير من دلالاتها ومعاني بعضها ويبطل بعضهم الآخر.

والسيرورة محطات متتالية، كل منها تنطلق مما سبقها وتؤسس لما بعدها، على أرضية التداخل والتجادل، وليس على أرضية القطع والانفصال، هذه هي الحياة البشرية، وهكذا يعلمنا التاريخ الإنساني.

إن أهم المعطيات التي فرضتها المتغيرات العالمية مؤخراً والتي أفضت إلى النظام العالمي الجديد أو نظام العولمة أو غير ذلك من التسميات:

أولاً: إن هذا النظام الجديد هو محطة من محطات التطور البشري لها مميزاتها الخاصة بها لعل أبرزها أنها تقوم على حرية السوق، وحرية حركة رأس المال، وهذا يعكس مخاطر جمة على الإنسانية جمعاء وبالأخص الشعوب المتخلفة، ربما أخطرها النظرة الجديدة للإنسان.

ثانياً: إن التغيرات الجارية وسرعة وتائر التطور، وما تحدثه من إخلال في التوازنات القائمة في كافة المجتمعات وعلى كل الصعد، فكرياً، سياسياً، اجتماعياً بحيث شكلت ناظماً عاماً ومتحولاً والذي يستدعي في كل لحظة أن تتلاءم معه، وتتغير لملاقاته كل العوامل داخلية وخارجية.

ثالثاً: علاقة هذا النظام في العدو التاريخي للعرب والعروبة أي النظام الصهيوني العنصري على أرض فلسطين، وما تفرضه هذه العلاقة من انعكاسات على الصراع الصهيوني.

رابعاً: إشكالية التخلف في الوطن العربي بشكل عام، الذي يتناول كافة أوجه الحياة للشعوب العربية، وأثر ذلك على هذا الصراع.

خامساً: طبيعة الأنظمة العربية وموقفها المعادي لشعوبها وأساليبها القمعية والقهرية التي تمارس ضد هذه الشعوب، ما أفقدها القدرة على التعبير عن ذاتها وإدراك مصالحها، والمساهمة في الدفاع عن قضاياها وعن وجودها أوعن حقها في الوجود بل انكفأت إلى ذاتها، وعمت السلبية كافة أوجه نشاطاتها وأصبح العزوف عن النشاط في الشأن العام هو السائد، أمام هذه الحقائق التي لم يعد الإقرار بها بحاجة إلى التمحيص والتدقيق والجهد والعناء أو إلى البحث عن مظاهرها ووقائعها، لأنها واضحة وضوح الشمس لكل ذي بصيرة، أمام كل هذا يصبح الحوار ضرورة موضوعية يفرض نفسه على الجميع بدءاً من الفرد إلى الجماعة والمجتمع إلى كافة القوى السياسية المنظمة في أحزاب، أو الجماعات السياسية غير المؤطرة، وعلى الشريحة المثقفة بكل تلوناتها الفكرية والنظرية، وعلى الدولة والأمة وعلى الجميع ومن أجل الجميع وفي الاتجاهات كافة أفقياً وشاقولياً وعلى مختلف المستويات.

سادساً: انكفاء حركة التحرر الوطني العربية والتحولات التي جرت داخل هذه الحركة والتي لم تفقدها فاعليتها فقط، بل شكلت حالات ارتداد خطيرة، دفعت الشعوب العربية ثمنها باهظاً وعلى كافة الصعد.

سابعاً: إن مواجهة هذه التحديات لا تحسم في بناء جيوش جرارة وتكريس الأسلحة بكافة أشكالها، بل يجب أن تنطلق من الإنسان، من النظرة إلى الإنسان وتفجير طاقاته، وذلك بإعطاء حريته وحقه في التعبير، والمساهمة الفعلية الإرادية في بناء وطنه والدفاع عنه، كل هذا وغيره الكثير يستدعي إطلاق حرية الحوار وفق مفهوم الحوار والأخذ بمستلزماته كافة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني